q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

زيارة الأربعين والدروس المستنبَطة منها

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

قد يتساءل الآخرون (وبعضهم تساءل فعلا)، لماذا هذا التمسّك القاطع بإحياء زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، ولماذا تُبذَل كل هذه الجهود الكبيرة بل والاستثنائية من أجل إحيائها، وديمومتها، وإظهارها بالمظهر الذي يليق بمقام من تُقام باسمه، ألا وهو الإمام الحسين بن (ع)؟...

(على الإنسان أن يكون مُصلحاً في الأمة) الإمام الشيرازي

قد يتساءل الآخرون (وبعضهم تساءل فعلا)، لماذا هذا التمسّك القاطع بإحياء زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، ولماذا تُبذَل كل هذه الجهود الكبيرة بل والاستثنائية من أجل إحيائها، وديمومتها، وإظهارها بالمظهر الذي يليق بمقام من تُقام باسمه، ألا وهو الإمام الحسين بن (ع)؟

نحن نقول من حق الآخرين أن يطرحوا هذا التساؤل، فلربما لم يقرأوا أو لم يسمعوا بواقعة الطف، أو أنهم سمعوا بها بشكل مظلِّل ولم تصل إليهم الحقائق التاريخية كما هي، وهذا أمر متوقَّع، فمزيفو التاريخ كثيرون، والطغاة الذين وظّفوهم للتزييف كثيرون أيضا، لذلك أمر منطقي جدا أن نجيب من يتساءل عن سرّ تمسكنا بإحياء الشعائر الحسينية، ومن بينها إحياء زيارة الأربعين، فنقول:

إذا كانت للأمم الأخرى تجارب عظيمة ومتميزة في تاريخها، هل ستتخلى عنها، وتطمرها في تربة الماضي، أم أنها تتمسك بها وتُظهرها للقاصي والداني، وتتباهى بها أمام الآخرين وأمام نفسها أيضا؟؟، الجواب ليست هناك أمة على وجه الأرض تنكّرت لواقعة تاريخية عظيمة، بل هناك أمم تتشبث بأصغر الأحداث، حتى يُقال أنها تمتلك ماضيا، فكيف إذا كانت هذه الواقعة من طراز الأحداث الكبرى؟

يُضاف إلى ما تقدم، من حقّنا أن نستثمر كل التجارب العظيمة في تاريخنا، ونجعل منها نموذجا لنا كي نرتقي بها، وهل التقدم الذي تحققه الأمم إلا تمسكاً بماضيها العريق، فكيف ونحن نعيش تجربة وسيرة سبط الرسول الأكرم (ص)، وكيف ونحن نعيش واقعة ثائر الإسلام الإمام الحسين (ع) الذي قدّم أغلى ما يمتلك قربانا للحرية والحق، وهي روحه وأرواح ذويه وصحبه الأطهار؟

زيارة الأربعين شعيرة من الشعائر الحسينية المقدسة، ويحق لنا وعلينا أن نهتدي بدروسها الكبيرة، لاسيما أننا بحاجة قصوى لهذه الدروس والقيم، كما أننا كأمة إسلامية نتبارى مع أمم الأرض قاطبة، كي نكون في المقدمة التي نستحقها، كونها مكانة تناسب الإسلام الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور.

ما هي قيم زيارة الأربعين؟

القيم التي يمكننا استلهامها من شعيرة الأربعين يمكنها أن تنهض بنا، بل وترتقي بنا إلى مصاف الأمم التي حققت أشواطا كبيرة على طريق التقدم الإنساني، فليس كثيرا على المسلمين، أن يتعقبوا تاريخهم المشرق، ومن أبرزه ملحمة الطف وعاشوراء وزيارة الأربعين، لكي يستنهضوا القيم الكفيلة بارتقائهم، فدروس الأربعين تستحق أن يتمسك بها الناس إلى أقصى ما يستطيعون.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول بوضوح تام: إن (زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام الخالدة، حوت على الكثير من الدروس والعبر المهمّة، حري بكل إنسان أن يتبعها ويأخذها بعين الاعتبار)

ترافق زيارة الأربعين مشاهد كثيرة وكبيرة في مضمونها، كلها تنمّ عن قيم تسند الإنسان في مسيرته السلوكية الأخلاقية، وبالتالي تُسهم في تدعيم منظومة القيم، ومنها قيمة الوفاء، فمن منّا ينكر أن للوفاء تأثير كبير في تمتين النسيج الاجتماعي، هذه القيمة هي أحدى أعظم القيم التي جسدتها واقعة الطف، ومثالها الأعظم وفاء أصحاب الإمام الحسين (ع) لإمامهم، رغم المخاطر التي تحيق بهم.

هذه القيمة الكبيرة يجب أن يفهمها الناس جيدا، الأطفال منهم والشباب على وجه الخصوص، كونهم القاعدة العددية الأكبر التي يستند عليها المجتمع، فإذا كان الطفل مستوعبا على الوفاء والشاب متدربا على هذه القيمة وعارفا لها، فإننا لا ريب سنكون أمام مجتمع أفراده أوفياء لبعضهم بعضا.

يقول الإمام الشيرازي: (في يوم عاشوراء تجسّد الوفاء حياً أمام ناظر الجميع ورأوا كيف وفى الإمام الحسين (ع) لله تعالى، وكذلك وفاء أهل بيته وأصحابه لإمامهم، وقد صار وفاؤهم مضرباً للمثل حتى قال الإمام الحسين (ع) في حقّهم: إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي).

ثقافة الرحمة والإيثار والصبر

من الدروس الأخرى التي لابد استلهامها من شعيرة الأربعين وثقافة عاشوراء بشكل عام، درس الرحمة، فهذه الأمواج الهائلة من الزوار المتدفقين على أرض كربلاء المقدسة، تحتاج إلى من يخدمها، كونها سوف تقطع مسافات بعيدة تستغرق أياما عديدة بلياليها، يحتاج الزائر للطعام والشراب والنوم والاستحمام وغير ذلك، هذه كلها خدمات يحصل عليها الزوار الكرام طوعيا، دافعها الرحمة التي تملأ قلوب خدّام الإمام الحسين (ع) على زواره.

وإلا ما الذي يجعل هذه الحشود صغارا وكبارا رجالا ونساءً، تقدم الخدمات للزوار على مدار الساعة، إنها الرحمة التي تجسدت في أفعال وأقوال أئمة أهل البيت (ع)، وهي من أهم دروس زيارة الأربعين، التي يتعلمها الناس جميعا أثناء تأدية الشعائر، فتصبح إحدى سلوكياتهم كي يتراحموا فيما بينهم.

يقول الإمام الشيرازي: لقد (تجسدت الرحمة في كربلاء في أروع صورها وصارت أحاديث البشرية على مرّ العصور، فالإمام الحسين (ع) رحمة الله الواسعة).

أما الدرس الآخر الذي استخلصه المسلمون، فهو أنصع الدروس وأكثرها تأثيرا في القلوب والنفوس والعقول معا، ونعني به درس الإيثار الذي قدمه الإمام الحسين في ملحمة الطف، وقد كان مثالا لمن معه من الأهل والأصحاب الذين ذادوا عنه بأرواحهم، وضحوا بأنفسهم لقائدهم وإمامهم الحسين (ع)، هكذا هي التضحية والإيثار، قدمها الحسين (ع) لله وللدين، وقدمها أصحاب الحسين (ع) لإمامهم إيمانا به وبمبادئه وبوقفته الرافضة للظلم والانحراف.

للإيثار جذوره القوية عند أئمة أهل البيت (ع)، تناقلوها من الرسول الأكرم (ص)، والإمام علي (ع)، فأبو الفضل العباس صانع تضحية الطف العظمى، تربّى في كنف أبيه (علي بن أبي طالب) وأثمرت في وقفة أبي الفضل (ساقي عطاشى الحسين ع)، هذه هي مدرسة عاشوراء، والقيم التي تُزهر وتنمو في رحاب زيارة الأربعين، حيث يتسابق الجميع نحو الإيثار بأنفسهم وأموالهم وراحتهم، من أجل الآخرين.

إنها الثقافة التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، ثقافة التضحية، وطرد الأنانية من الذات، كونها طريقنا لبناء الأمة والمجتمع القادر على العيش بكرامة واستقرار، هي بذرة الإيثار العظيمة التي بذرها الإمام الحسين في وقفته الخالدة، ليأخذها ذووه وصحبه، ومن ثم مؤيديه، كما نلاحظ اليوم ونحن نحيي مراسيم زيارة أربعينية الإمام الحسين (ع).

ولهذا الإمام الشيرازي: (لقد آثر سبط رسول الله (ص) بنفسه الطاهرة من أجل الإسلام، وآثر أهل البيت (ع) والصفوة من الصحابة بنفوسهم دون نفس إمامهم).

ومن دروس زيارة الأربعين درس الصبر على نوائب الزمن، فالإنسان مرشّح في جميع الأزمنة لمواجهة ظروف عصيبة، لاسيما أصحاب المبادئ والمواقف التي تنتصر للحق وترفض الظلم والتسلط وتثبت على مبادئها، هذا النوع من الناس يتخذ من الصبر طريقا وأسلوبا له في مواجهة الأزمات، وهي كثيرة، لذا لابد لنا التسلح بالصبر الذي نجده أوضح وأعظم الدروس فيما يجري اليوم بزيارة الأربعين.

الإمام الشيرازي يقول: (في الخبر عن حميد بن مسلم، قال: لما قُتل أصحاب الإمام الحسين (ع) وأهل بيته: فو الله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه).

وأخيرا ونحن في أواخر أيامها، بل نشارف على آخر يوم من إحياء زيارة الأربعين، لابد أن نحمل دروسها المتفردة في قلوبنا وعقولنا، ونبقيها معنا، مؤمنين بها، مستندين لها في جميع تعاملاتنا مع الآخرين، كونها تقدم لنا أعظم الدروس والقيم التي (إنْ) تمسكنا بها فإننا سنكون في خير وأمن وسعادة ونجاح في دنيانا وآخرتنا.

اضف تعليق