القيمة التي قد تتحقق من خلال إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة فسوف يُـعَـوَّض عنها وزيادة في الأرجح بسبب خسارة إيرادات الخدمات وهذا يكشف عن تكلفة مستترة أخرى ناجمة عن الاعتماد على سرد الضحية. بدلا من إلقاء اللوم على آخرين وهدم الاقتصاد، من الأفضل العمل على رفع مستوى الاقتصاد...
بقلم: راغورام ج. راجان
شيكاغو ــ من منظور سياسي جريء، ربما تتمثل الاستراتيجية السياسية الأكثر سهولة في أيامنا هذه في إبلاغ الناخبين غير الراضين بأنهم ضحايا ــ للسياسات المتحيزة التي تنتهجها النخب الشاغلة للمناصب، أو لمخططات جماعات أخرى، أو لأجانب ماكرين. ويصدق هذا بشكل خاص عندما تكون المجموعة غير الراضية شريحة مميزة وكبيرة (عادة) من الناخبين، وعندما يكون أولئك الذين يُـلقى عليهم باللائمة إما لا يدلون بأصواتهم أو يشكلون نسبة صغيرة من الناخبين. وما دام من الممكن إلقاء اللوم على شخص آخر، فإن السياسي الجريء لن يحتاج إلى مطالبة الناخبين غير الراضين بأي شيء؛ فمجرد الوعد بإنهاء مظلوميتهم سيكون كافيا.
ولكن، كما قال كاتب المقالات الأميركي هنري لويس مِـنكِن في مزحة شهيرة: "لكل مشكلة معقدة، هناك إجابة واضحة، وبسيطة، وخاطئة". في الأغلب الأعم، تنطبق حجة الضحية على هذا الوصف، وهو ما يساعد في تفسير السبب الذي يجعل الإصلاحات المفترضة تُـفـضي في كثير من الأحيان إلى زيادة الأمور سوءا على سوء.
على سبيل المثال، في كثير من المدن الهندية النامية اليوم، يقترح السياسيون المحليون وضع حد أدنى من حصص التوظيف للمولودين محليا، بحجة أن عددا أكبر مما ينبغي من الوظائف الجديدة العالية الجودة في القطاع الخاص تذهب إلى مهاجرين من أجزاء أخرى من البلاد. لكنهم يفشلون في إدراك الظروف المحلية الحيوية التي اجتذبت الأفضل والألمع من أماكن أخرى. إن حقيقة شغل المهاجرين لعدد أكبر من الوظائف العالية الجودة لا يجب أن تكون (وهي في الأرجح ليست كذلك) نتيجة للتمييز؛ بل قد تعكس ببساطة جدارتهم الأكبر.
ولكن، لنفترض أن السياسي يضع حدا أدنى لحصة السكان المحليين في الوظائف العليا. إذا لم تكن هذه السياسة مرهقة للغاية، فقد تعود ببعض الفائدة، لأن السكان المحليين الذين يشغلون مناصب وظيفية أعلى سيقدمون التوجيه، والإرشاد، والشبكات لزملائهم المحليين الذين بدأوا العمل (كما تفعل كل مجموعة من المتجانسين). لكن السياسيين الطموحين نادرا ما يرضون بتدابير معتدلة. فهم يريدون حصصا ضخمة.
وهنا تنشأ المشكلات. إن شغل المناصب العليا في أي شركة بموظفين محليين دون المستوى يؤثر على الإنتاجية والقدرة التنافسية. قد لا يشكل هذا أهمية كبيرة إذا كانت منافسة الشركة محصورة في المنطقة المحلية، حيث تخضع الشركات الأخرى لذات الحصة. لكنه مهم بكل تأكيد إذا كانت الشركة تتنافس مع شركات في مدن هندية أخرى نابضة بالحياة امتنعت عن فرض الحصص، أو مع منتجين أجانب. في نهاية المطاف، سيتأثر نمو الشركة، وسوف توظف عددا أقل من العمال في مختلف المجالات (بما في ذلك العمال المحليين)، وقد تنقل عملياتها إلى مدن أكثر ملاءمة للأعمال التجارية.
الخلاصة هي أن المهاجرين من أصحاب الكفاءة العالية يجعلون الشركات المحلية قادرة على المنافسة، وبالتالي يضمنون مزيدا من الوظائف (حتى لو لم تكن على أعلى مستوى) للسكان المحليين. قد يبدو تشويه سمعة المهاجرين استراتيجية سياسية سهلة؛ لكن العمل على هذا الأساس قد يجعل الظروف أسوأ كثيرا للناخبين.
على نحو مماثل، في الولايات المتحدة، يدّعي بعض السياسيين أن الطلاب المولودين في الولايات المتحدة الأميركية يستحقون الالتحاق بالجامعات العليا. من جانبه، يعتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن الجامعات العليا "ينبغي أن يكون سقف قبولها للطلاب الأجانب ربما عند مستوى 15% تقريبا وليس 31%". لكن إذا كان اختيار الطلاب الأجانب يجري على أساس الجدارة فقط (ولا أجد سببا وجيها للاعتراض على ذلك)، فمن شبه المؤكد أن وضع حد أقصى سيقلل من متوسط جودة الطلاب. وهذا من شأنه أن يجعل الجامعات الأميركية أقل جاذبية في نظر الطلاب المتفوقين من مختلف أنحاء العالم، الذين سَـيُـقبَـلون على الرغم من الحد الأقصى، وهذا من شأنه أن يقلل من الجودة بدرجة أكبر. ومع بقاء عدد أقل من الطلاب الأجانب المتفوقين للتدريس وإجراء البحوث، سيزداد تدهور جودة الجامعات الأميركية.
وعلى هذا فإن مثل هذه السياسة من الممكن أن تُـحـدِث ضررا دائما. ظلت الجامعات الأميركية لفترة طويلة تُـنـتِج الأبحاث الأساسية التي سمحت للشركات الأميركية بقيادة العالم في الإبداع والابتكار. وإبعاد الأفضل والألمع وسيلة مؤكدة لضمان سد فجوة الإبداع في بلدان أخرى.
ربما يتعلم السياسيون الهنود والأميركيون شيئا من سنغافورة. أخبرني أحد الوزراء هناك أنه بعد إطلاق برنامج لاجتذاب طلاب المدارس الصينية الأذكياء من البر الرئيسي الصيني، سمع من ناخبيه الغاضبين: "هؤلاء الطلاب الصينيون يبدأون في أسفل الصف [لأنهم يجب أن يتعلموا اللغة الإنجليزية]، لكنهم بحلول السنة الثالثة يصبحون في القمة. أبناؤنا ليس لديهم أي فرصة للترقي إلى المراكز العليا. لماذا بدأتم مثل هذا البرنامج الرهيب؟".
أجاب الوزير أن سنغافورة ليس لديها أي فرصة للاختيار سوى أن تكون قادرة على المنافسة عالميا. "بعد 15 عاما، عندما يحصل أبناؤكم على وظائف، هل تفضلون أن ينافس هؤلاء الصبية الصينيون إلى جانبهم لأنهم نشأوا هنا، أو ضدهم؟" فَـهِـم الآباء هذه الحجة، وتلاشت الشكاوى.
والاحتجاج بأن التصنيع غادر الولايات المتحدة لأن دولا أخرى استخدمت ممارسات غير عادلة لاجتذاب الإنتاج ليس سوى نسخة أخرى من سرد الضحية. منذ عام 2004، لم تكن شركة Apple تدير مستويات ضخمة من التصنيع في الولايات المتحدة، ولهذا تقترح إدارة ترمب إعادة توطين إنتاج هواتف iPhone (التي كان تصنيعها يُـحال بدرجة كبيرة دوما إلى مصادر خارجية في آسيا) عن طريق فرض رسوم جمركية عالية على الواردات من أجهزة الهاتف iPhone.
لكن المحللين يشيرون إلى أن تكلفة جهاز iPhone سترتفع إلى عنان السماء إذا جرى تصنيعه في الولايات المتحدة. الواقع أنه يُـصَـنَّـع في أماكن أخرى ليس لأن الدول الأخرى تغش، بل لأنها أكثر كفاءة من حيث التكلفة.
إذا امتثلت شركة Apple لرغبات الحكومة وجلبت تصنيع أجهزة iPhone إلى الولايات المتحدة، فسوف يؤدي السعر المرتفع إلى انخفاض مبيعات أجهزة iPhone في مختلف أنحاء العالم. تحقق شركة Apple إيرادات ضخمة من الخدمات المرتفعة الهامش التي تبيعها لمستخدمي iPhone من خلال متجر التطبيقات، وiCloud، وApple Music، لكن هذه الإيرادات ستنخفض بشكل كبير مع انخفاض عدد المستخدمين. أما القيمة التي قد تتحقق من خلال إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة فسوف يُـعَـوَّض عنها وزيادة في الأرجح بسبب خسارة إيرادات الخدمات ــ وهذا يكشف عن تكلفة مستترة أخرى ناجمة عن الاعتماد على سرد الضحية.
بدلا من إلقاء اللوم على آخرين وهدم الاقتصاد، من الأفضل العمل على رفع مستوى الاقتصاد من خلال التركيز على تحسين قدرات المتخلفين عن الركب، وبالتالي فرصهم في المنافسة. ولكن هل يُـجدي هذا الكلام نفعا مع الساسة.
اضف تعليق