المحاولة الانقلابية التي قام بها مجموعة من ضباط الجيش التركي لإسقاط نظام حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، لم تكن بمنأى عن الانقلابات العسكرية السابقة التي مرت بها الحياة السياسية التركية، إذ تعد الانقلابات العسكرية إحدى الممارسات الاعتيادية في التأريخ السياسي التركي، فمنذ قيام الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك في العام 1923، اعتبر الجيش نفسه بمثابة (الوصي) على الدولة التركية العلمانية المنشأ، ومنه أصبح دور المؤسسة العسكرية كبيراً وذا شأن في الحياة السياسة التركية، فعلى مدار عمر الجمهورية التركية نظمت المؤسسة العسكرية ثلاث انقلابات في الأعوام (1960، 1971، 1981) فضلا عن تدخلها الحاسم في العام 1997، لإقالة حكومة نجم الدين أربكان ذات الميول الإسلامية، ودعمها تشكيل حكومة ائتلافية ذات توجهات علمانية لقيادة الجمهورية التركية.

وفي ضوء هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية التركية، سعى حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002، إلى كبح جماح المؤسسة العسكرية وتدخلها في الشؤون السياسية التركية، فعلى أثر معارضة الجيش التركي لوصول عبد الله غول مؤسس حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة البلاد في العام 2007، اطلق رئيس الوزراء أردوغان قضية ايرجينيكون (منظمة إرهابية تتألف من القوميين العلمانيين في الدولة العميقة، ومتغلغلة داخل المؤسسات السياسية التركية) ضد الجيش التركي، استناداً إلى مزاعم عن محاولة انقلاب الجيش ضد حكومة حزب العدالة والتنمية. وقد أطاحت تلك القضية بكبار الضباط في الجيش، ومسؤولين سياسيين وأكاديميين وصحافيين، وانتهى المطاف بزج المئات منهم في السجون.

وبعد تلك القضية، أضحت مسألة الحد من قدرة الجيش وتدخله في الحياة السياسية التركية أحد التعهدات التي وعد بها رجب طيب أردوغان منذ فترة ولايته الثانية لرئاسة الحكومة التركية. فأخذ أردوغان يقلص من صلاحيات المؤسسة العسكرية عن طريق اجراء حزمة من التعديلات الدستورية، الأمر الذي مهد إلى تقليم وصاية العسكر على السياسة في تركيا بشكل كبير، وجردتهم من الحصانة القضائية مع إمكانية محاكمتهم أمام المحاكم المدنية، وكل ذلك بهدف الهيمنة على المؤسسة العسكرية، وتحويلها إلى مؤسسة خاضعة للحكومة وتحت وصايتها، وليس العكس.

ولغرض إخضاع الجيش لسلطة الحكومة، أثار أردوغان في العام 2010، قضية (عملية المطرقة) وهي محاولة انقلاب مزعومة خطط لها قادة الجيش التركي للإطاحة بحكومة أردوغان في العام 2003، وقد اتهم على أثرها أكثر من 300 مسؤول في الجيش التركي، ومن ثم في العام 2012، أثار أردوغان قضية انقلاب 1980، وفي العام 2013، أثار قضية انقلاب 1997، وبعد سلسلة من التطهير والاعتقالات داخل صفوف الجيش التركي، وبعد استقالة، وإقالة عدد غير قليل من كبار ضباط الجيش، واستبدالهم بضباط آخرين خاضعين لسلطة أردوغان، اخذ الشعور يسود باتجاه: أن الجيش لم يعد له أية مواجه مع السلطة بوصفه (حامي العلمانية) في تركيا، وهو الأمر الذي شكل لحظة تاريخية فارقة أسست لمرحلة جديدة تسيطر فيها المؤسسة السياسة على نظريتها العسكرية، بعد أن كانت الأخيرة تُعد نفسها الجهة المسؤولة عن حماية النظام في تركيا. وعليه، وفي ضوء محاولته الناجحة لتحجيم نفوذ المؤسسة العسكرية، لم يبقى لأردوغان سوى خطوة تغيير الدستور التركي من أجل إنهاء أي نفوذ دستوري للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية التركية، إذ ما يزال دستور عام 1982 -المعمول فيه بتركيا- يُعطي للجيش حق التدخل السياسي، وحماية المبادئ التي تأسست عليها الجمهورية التركية.

وبهذا الحال نتساءل: لمصلحة من قام بعض قادة الجيش التركي بالانقلاب الأخير ضد حكومة أردوغان؟ هل كان الانقلاب لمصلحة الإسلاميين، أم كان لمصلحة العلمانيين الذي دأب الجيش في اغلب انقلاباته السابقة لدعمهم ضد الإسلاميين؟ ومن كان يقف وراء محاولة الانقلاب؟.

من الملاحظ في هذا الصدد، إن جميع الانقلابات السابقة التي قامت بها المؤسسة العسكرية، كانت تمتاز بصفة دعم العلمانيين ضد الإسلاميين وليس العكس، وهو بخلاف المحاولة الانقلابية الأخيرة، فاذا قبلنا بالرؤية الأردوغانية التي تتهم حركة فتح الله غولن بمحاولة الانقلاب، سنجد أن هذه المرة الأولى التي دعم فيها الجيش الإسلاميين (جماعة غولن) ضد الإسلاميين (جماعة أردوغان) وليس العلمانيين ضد الإسلاميين. ولكن كيف حدث هذا التطور في توجهات الجيش السياسية؟.

فعلى ما يبدو أن الجيش لم يعد ممثل للعلمانيين فحسب، إذ أصبح عرضة لاختراقات الأحزاب الإسلامية التركية، يقول إزغي باصاران، وهو صحفي تركي وأكاديمي زائر في كلية سانت أنطوني بجامعة أوكسفورد: أن اتباع الداعية الإسلامي فتح الله غولن في الجيش والمخابرات والشرطة والقضاء كانوا يقفون وراء محاكمات الجيش في القضايا المذكورة آنفا، ونظراً لتغلغلها في المؤسسة العسكرية اعتمد حزب العدالة والتنمية على حركة فتح الله غولن للقضاء على العلمانية داخل الجيش التركي. إذ كانت قضية أيرجينيكون التي اثارها أردوغان ضد الجيش التركي في العام 2007، قضية ملفقة من قبل حركة فتح الله غولن لتحجيم قوة المؤسسة العسكرية، وكان الهدف منها أجراء تغيرات بنيوية داخل الجيش التركي، وتصفية شريحة أساسية داخل المؤسسة العسكرية من الضباط المحسوبين على الكمالية واستبدالهم بضباط موالين لحركة فتح الله غولن. وبينما أسهم التعاون بينهما إلى تهميش الجيش، بدأ الصراع على السلطة بين حزب العدالة والتنمية، وحركة فتح الله غولن من أجل السيطرة على البلاد، ولاسيما وان حركة فتح الله غولن متغلغلة في بنية الدول التركية من الجيش والشرطة والمخابرات وبشكل عميق ومن الصعوبة بمكان تتبع أثرها، فيما يعرف باسم (الكيان الموزاي).

ووفقا لتلك الرؤية يبدو القول صحيحاً في أن المحاولة الانقلابية الأخيرة كانت تروم وصول فتح الله غولن وحركته إلى السلطة في تركيا بعد اسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية. غير أن الأسئلة المعلقة التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن في هذا المجال هي: أن البيان الذي أذاعه المجلس العسكري أثناء محاولة الانقلاب يقترب بصورة كبيرة من فكر الكماليين انصار مصطفى كمال أتاتورك، إذ اطلق مدبرو الانقلاب على انفسهم اسم (مجلس السلام في الوطن) وهو اسم بحسب إزغي باصاران مشتق من مقولة أتاتورك الشهيرة السلام في الوطن والسلام في العالم، وقد أشار بيان مجلس السلام إلى: أن السلطة التنفيذية وعلى رأسها رجب طيب أردوغان وحكومة بن علي يلدرم أضرت بالديمقراطية وحكم القانون العلماني، وأن المجلس بصدد وضع دستوراً جديداً للبلاد. بالنظر إلى تلك الإشارات يرى البعض: أن مدبري الانقلاب ربما أرادوا عمداً التلميح إلى أن هذا المجلس ينتمي إلى الكماليين بدلا من غولن.

مع ذلك هناك من يذهب -ومنهم الحركة الكردية- في تفسيرها إلى القول: إن الكماليين الموجودين في الجيش خدعوا اتباع فتح الله غولن وقرروا الإطاحة بهم عبر تنفيذ هذا الانقلاب. وقد علم الكماليون أن هذا الانقلاب سوف يفشل، وعندها سيتحرك أردوغان ضد أنصار غولن ويتحرك لتطهير الجيش والدولة منهم. في حين هناك من يذهب إلى القول: أن حكومة حزب العدالة والتنمية كانت تخطط لإعتقال حركة فتح الله غولن في الجيش يوم 16 تموز 2016، ولكن عندما علموا انصار غولن بتلك الخطط قرروا تنفيذ انقلاب عسكري سريع في يوم 15 تموز، لذلك ظهر بشكل مرتبك وغير منظم.

ومع تلك التفسيرات، هناك من يفسر المحاولة الانقلابية من زاوية نظرية المؤامرة، إنطلاقاً مما يقوله ميكافيلي: إذا أردت أن تقضي على الخونة، وأن تبرز قوتك للجميع، إخلق انقلابا، وقم بالقضاء عليه. ولعل ما يجري حاليا على الساحة السياسية التركية قد يعزز من صوابية نظرية المؤامرة في تسفير المحاولة الانقلابية الأخيرة وفشلها. إذ أن المؤشرات التي تذهب باتجاه القول: إن الرئيس أردوغان يروم إعادة تشكيل الدولة التركية على وفق رؤاه السياسية والحزبية، وابعاد أي شكل من المعارضة له، قد بدأت تؤتي ثمارها، فعلى خلفية الانقلاب اعتقلت الحكومة التركية أكثر من ستة آلاف عسكري، بينهم جنرالات وضباط وجنود، وفصلت أكثر من ثلاثة آلاف قاضي من الذين يتبعون حركة فتح الله غولن، ناهيك عن إعفاء وإقالة أكثر من 44 ألف موظف من عملهم من بينهم مدرسين وأساتذة جامعات. وهو الأمر الذي جعل البعض يقول: إن الانقلاب أخذ يعزز ويزيد من سلطة وشعبية أردوغان داخل تركيا.

ومع شيوع هذه الرؤية في تفسير المحاولة الانقلابية التي حدثت بتركيا، إلا أنه لا يمكن الجزم بصحتها، ليس لأنها ادعاءات فتح الله غولن، أو لأنها جاءت من جهات تعارض حكم الرئيس أردوغان، ولكن نظراً لعدم منطقيتها أولا، فما حدث ابعد ما يكون عن عملية مزيفة أو مسرحية مدبرة من أردوغان، وكذلك والاهم لقلة المعلومات المتوفرة عن المحاولة الانقلابية، وعدم وضوحها حتى الوقت الحاضر، وعليه فمن الصعوبة بمكان الجزم بصحة هذه الرؤية في تفسير المحاولة الانقلابية.

فاذا سلمنا برؤية الحكومة التركية التي تتهم حركة فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية، ومن وراءها الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن أن نلحظ: إن المحاولة الانقلابية الفاشلة جاءت لتغيير وجهة تركيا الإقليمية والدولية، وليس فقط لتغير حكومة حزب العدالة والتنمية والقائمين عليها. إذ تعد حركة فتح الله غولن من اشد المؤيدين للغرب والتوجهات الأمريكية، ولا تنظر للعالم العربي، وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا، بل تعد أن المجال الحيوي المفترض لتركيا هو القوقاز واسيا الوسطى والبلقان.

يرى بيبي اسكوبار وهو كاتب وصفحي برازيلي مشهور: أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه المحاولة الانقلابية في تركيا كان غامضاً للغاية منذ بدايته، فعندما بدأ الانقلاب أسمته السفارة الأمريكية في أنقرة بــ(بالانتفاضة التركية)، ويضيف: أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بقى غامضاً حتى أصبح واضحاً أن الانقلاب في طريقه للفشل، فسارعوا إلى الإعلان عن مساندتهم للحكومة التركية المنتخبة وتأييدهم للشرعية والديمقراطية في البلاد.

ويعزو البعض من المراقبين إن المحاولة الانقلابية في تركيا كانت نتيجة لتغيير سياسة أردوغان تجاه روسيا الاتحادية، والتي من المتوقع أن تؤدي إلى تغيير جيوسياسي عميقا في الشرق الأوسط، إذ أن التقارب التركي مع روسيا الاتحادية قد يعني بطبيعة الحال توقف أردوغان عن محاولة الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تغيرات عميقة في شبكة التحالفات والتآلفات الشرق أوسطية. ذلك بأن مسعى الأكراد السوريين في إقامة كيان مستقل لهم في شمالي سوريا بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، جعل الرئيس أردوغان يدرك بأن العدو الحقيقي لتركيا لا يكمن في روسيا الاتحادية وإسرائيل، وإنما في الأكراد السوريين، ومن يقف ورائهم ويدعمهم ويسلحهم، أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي يتطلب حاجة من الوفاق الودي مع النظام السوري عن طريق روسيا الاتحادية، وعليه قبيل المحاولة الانقلابية أخذت تركيا وكذلك روسيا الاتحادية تطالب علنا بوحدة الأراضي السورية لمنع قيام كردستان سورية قبالة الحدود التركية، لاسيما بعد أن اصبح نزوع الولايات المتحدة الأمريكية نحو تمكين الأكراد السوريين واضحا في سوريا.

وفي ضوء المعطيات المذكورة آنفا، لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا، إن الديناميات الجيوسياسية التركية في مرحلة ما بعد الانقلاب ستتجه نحو الشرق أكثر من الغرب، ذلك بأن مطالب الرئيس أردوغان بتسليم فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تركيا، بعيداً عن الشروط الأمريكية المطالبة بتقديم أدلة تثبت تورط غولن في الانقلاب، فضلا عن سعيه نحو تفعيل عقوبة الإعدام بحق الانقلابيين، وتجاهله تحذيرات وتهديدات الاتحاد الأوربي، كل ذلك قد يدل على توجه تركيا نحو تعقيد علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، باتجاه تحسين علاقتها مع الشرق، ولاسيما مع روسيا الاتحادية.

فعلى ما يبدو أن تركيا، ولاسيما في مرحلة ما بعد الانقلاب أخذت تدرك أن مسألة توسيع نفوذها الجيوسياسي –أو الحفاظ عليه- في الشرق الأوسط على الأجنحة الغربية باتت غير قابلة للتنفيذ، والحالة هذه، فان اللعب على الورقة الروسية والإيرانية، والدخول معهما في تحالفات تكتيكية سيحشد دعماً دولياً، ويؤسس لدوراً موازناً تجاه الغرب، بما يمكن تركيا من توظيفه في حال تهورت علاقتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، أو تدهورت معهما.

وهو ما يمكن أن نعده بداية تحول أو إعادة توجيه للسياسة التركية بشكل يعيد إلى الأذهان العودة إلى أسس السياسة التركية السابقة، والتي شكلت -قبيل الربيع العربي- أول خروج حقيقي في السياسة الخارجية التركية عن الدائرة الغربية (الأطلسية والأوروبية)، ولاسيما بعد انزياح محور اهتمامها من الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبي باتجاه التركيز على دورها في الدائرة الشرق أوسطية، كدائرة فاعلة في سياساتها الخارجية، وهو ما يتطلب في الوقت الحاضر تسوية الأزمة السورية، والتقرب أكثر من إيران وروسيا الاتحادية.

فعلى ما يبدو أن محاولات أردوغان السابقة في الاقتراب من سوريا وإيران، والتصدي معهما بشكل ثلاثي لدور الممانعة في الشرق الأوسط، والتي انهارت على أثر الأزمة السورية ستعاد على شكل مثلث جديد، أضلاعه تركيا وإيران، وقاعدته الأساسية روسيا الاتحادية.

وعليه ستسعى تركيا الأردوغانية في مرحلة ما بعد الانقلاب، داخلياً: على أن يتولى زمام العسكر ضباط موالون وخاضعون لأردوغان، وهو الأمر الذي يمكن أن يضفي قوة أكبر على دور تركيا الإقليمي، ولكن بالمقابل ستكون تركيا اقل حرية واقل ديمقراطية. وخارجياً: ستسعى إلى تقوية علاقتها الدبلوماسية مع المنافسين الفعليين للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، لتعزيز مكانتها، وزيادة قدرتها على المساومة مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق