ليس من المصالح الوطنية الخداع بالشعارات الرنانة، والاطناب في ترويجها بعناوين الديمقراطية، لان رسوخ هذه المظاهر عراقيا، وربما في الشرق الأوسط الجديد، ليست بأكثر من كوميديا سوداء تعبر عن المصالح ومن لا يفهم التعامل مع لغة المصالح، لا يصلح للعمل السياسي بالمطلق...
لم تعرف الشعوب ثقافات من دون تتابع تحول المظاهر الاجتماعية الى اعراف وتقاليد، فالمظاهر ربما تكون حالة مؤقتة تزول بزوال الأسباب، لكن التحول الى اعراف وتقاليد تتطلب تقنين وتشريعات، وتبرز هذه التحولات خلال إدارة مخاطر الازمات والحروب، وتنتج سياسات جديدة – قديمة، تتناسب مع وقائع الجغرافية البشرية مواردها ومفرص وتحديات تهديداها الخارجية والداخلية، لذلك برع الامريكان في صياغة سيناريوهات التوقعات ولعبة إدارة الازمات، حتى بات الظاهر من السياسات الامريكية اقل بكثير من الغاطس، هذا ما نعكس كليا على شعارتها في دعم الديمقراطية وحقوق الانسان مقابل مصالح اقتصادية واستراتيجية تتعلق بثوابت ما يتكرر ذكره في تقارير الامن القومي التي يقدمها الرئيس الأمريكي سنويا امام الكونغرس .
شتان ما بين واقع الديمقراطيات الشعبية في دول الجنوب، ومنها دول الشرق الأوسط، وبين تلك المصالح التي تدار من خلال ذلك الغاطس الدكتاتوري الاولغشاري المتمثل في كبريات الشركات الدولية، فيما تفتج افواه الجياع وهم ينظرون الى ثرواتهم من نفط او ذهب او الماس بلدانهم، واليوم ما بات بعرف بالمعادن النادرة، تصدر الى تلك الدول التي تنعم بالأنظمة الديمقراطية في واحدة من أبشع نماذج الكوميديا السوداء عالميا.
الاغرب في هذه الكوميديا، ذلك الفشل المأزوم جغرافيا، فمنذ سقوط جدار برلين، اتجه العالم "المتحضر" نحو اليمين المتطرف في انتخابات برلمانية تؤسس لعودة التنافس في بؤر الصراع الأساسية داخل القارة الأوروبية العجوز بصعود المجال الحيوي ليس للنازية الألمانية بل للقياصرة الروس الجدد، فكان الرد في حرب أوكرانيا، ومن بعدها في انتفاضة الاتحاد الأوربي امام سياسات الرئيس ترامب في دورته الأولى ثم الثانية، لإعادة تفعيل حلف الناتو.
مقابل مطالب ترامب زيادة شراء دول الناتو السلاح الأمريكي لدعم الحرب الأوكرانية، وزاد على ذلك إعلانه مؤخرا إعادة تفعيل التجارب النووية الامريكية في تسارع خطوات الردع المقابل للتعنت الروسي في تسوية ملف أوكرانيا، مما ينذر بعودة الصراع النووي عالميا، وبما يؤكد ان عالم الأقوياء لا يمضي من دون دمار شامل !!
هكذا تتساقط أوراق التوت عن الكوميديا السوداء للديمقراطية، فالرئيس ترامب ليس بذلك المدافع الصنديد عن حقوق الانسان، ولا تهتم دول الاتحاد الأوربي لثوابت ومعايير هذه الحقوق الا وفق مقولة المصالح الدائمة من دون وجود صداقات وعداوات دائمة، مما يكرر الصورة الذهنية النمطية في تعامل وسائل الاعلام مع التهديدات المتجددة في حرب تجارية، وتنافس على الملكية الفكرية في سباق الصناعات المتقدمة في الذكاء الاصطناعي، وإدارة المعرفة بما يحقق الأرباح لشركات باتت اقتصاداتها بتريليونات الدولارات اكبر من اقتصاديات دول بالحجم المتوسط مثل شركة نيفادا للرقائق الذكية، او شركات مثل ابل وهواوي وغيرها من الشركات التي تسعى كل يوم لطرح الجديد في الأسواق العالمية.
في المقابل، الى اين تتجه دول الجنوب، والشرق الأوسط الجديد منها، وفيه العراق؟؟
ربما تكون السعودية ودول الخليج العربية وايران الشاهنشاهية، قد فهمت تلك اللعبة الديمقراطية السوداء، في اتفاق كوينسي الذي تم التوصل إليه في 14 شباط 1945 وذلك على متن الطراد يو أس أس كوينسي الراسي في البحيرة المُرّة الكبرى، بين الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت العائد من مؤتمر يالطا، وتكرر ذات المشهد في اجتماعات الرئيس ترامب مع الأمير محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة للسعودية، ان إدارة المعرفة للمصالح الاستراتيجية تختلف كليا عن الإعلانات عن ديمقراطية الأنظمة وحقوق الانسان فيها .
فيما تستخدم الإدارة الامريكية بكل قبح الازدواجية البشعة كل أنماط التضليل في إدارة الراي العام دوليا والسعي للتأثير على الراي العام المحلي، ان ثمة ثوابت في حقوق الانسان تجعل الأمين العام للأمم المتحدة او مجلس الامن يصدران بيانات التنديد والادانة للأحداث البشعة في حرب غزة او جرائم الفاشر في السودان.
وكما كانت إدارة المستعمرات البريطانية او الفرنسية او غيرها تتعامل مع مناطق نفوذها، كما فعل الاتحاد السوفياتي خلال الحرب البادرة، عاد من جديد ذات النموذج من التنافس على المجال الحيوي للنفوذ الدولي، بكل فصاحة ترامب في الحديث عن امتلاك العراق لنفط لا يعرف ما يفعل به او امتلاك السعودية والامارات لأموال طائلة، مقابل الحديث عن حقوق إسرائيل في التوسع وغيرها ما يمكن حصره من اسقاطات تصريحات ترامب.
وكما فشلت الأحزاب الشيوعية العربية في التعامل مع مظاهر المد السوفياتي نحو الشرق الأوسط في الخمسينات، فشلت الأحزاب القومية في التعامل مع فكرة الدولة الوطنية ذات الأعراق المختلفة في نموذج العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان والجزائر والمغرب، واليوم أيضا تفشل أحزاب الإسلام السياسي في ذات التعاطي مع المد الأمريكي الجديد ما بين الانكشاف الكامل والرضوخ لكل متطلبات الشركات الامريكية، وبين الالتزام بالمحور المنافس المقابل تحت عنوان محور المقاومة الإسلامية وما يتبع في المحور الروسي الصيني الإيراني الكوري الشمالي .
مع كل هذا الوضوح في معالم الصراع المتجدد عالميا وتداعياته على الشرق الأوسط الذي يراد له ان يكون جديدا، لم تتضح حالة الفرز والتمكين للخنادق، ابسط مثال على ذلك زيارة احمد الشرع الأخيرة لموسكو لم تأت بالجديد لإعادة التحالف بين موسكو ودمشق وان اكتفت بتسكين الأهداف المستقبلية عند حدود الواقع لوجود القواعد العسكرية الروسية على الأراضي السورية، وذات الحال لإعادة تركيا اعتبار وجود قواتها في العراق وسوريا استجابة لتهديدات الامن القومي التركي بموافقة أمريكية واضحة، يضاف الى ذلك، إعادة التقييم الشامل لقوات المنطقة المركزية في الخليج العربي ، وتنشيط مواقف وزارة الخزانة الأمريكية من أساطل الظل الروسية والإيرانية وفرض عقوبات على الشركات التي تشتري النفط من كلا الدولتين.
لكن الأخطر عراقيا، ما نشر مؤخرا عن مد طريق نقل للشاحنات من تركيا عبر الاراض السورية والاردنية باتجاه دول الخليج العربي لنقل المنتجات التركية والاوربية لاسيما الغذائية، بما يقلص من فرص مشروع طريق التنمية العراقي، والسؤال هل تتجه الشركات الاستثمارية نحو الأراضي الأكثر ضمانا في الخنادق الاوضح ميولا للمعسكر الأمريكي ام ان التنافس التجاري يحكم؟؟؟
واقع الحال، ان التسويق السياسي الاستراتيجي، لا يعتمد القفز على الأولويات، او المخادعة على طاولات التفاوض، بل ترسيخ قواعد الاتفاقات، وهناك اتفاقات استراتيجية عراقية أمريكية منذ عام 2011 حتى اليوم، ما تزال قيد التوظيف المتمكن لرسم الخطوات المقبلة، من دون مواربة او أدوار مزدوجة، وهذا يتطلب قيادة محنكة تفهم كيفية التعامل مع المصالح الأمريكية لتكون ضمن السياق المطلوب للمصالح العراقية، اما ان تمضي بذات الاتجاهات التي كان ت عليها خلال عقدين مضت، لا يبدو ان سياسات الرئيس ترامب تمتلك ذات الصير الاستراتيجي الذي امتلكته إدارات أمريكية سابقة!!
وفق كلما تقدم، ليس من المصالح الوطنية الخداع بالشعارات الرنانة، والاطناب في ترويجها بعناوين الديمقراطية، لان رسوخ هذه المظاهر عراقيا، وربما في الشرق الأوسط الجديد، ليست بأكثر من كوميديا سوداء تعبر عن المصالح ومن لا يفهم التعامل مع لغة المصالح، لا يصلح للعمل السياسي بالمطلق!!



اضف تعليق