قد تنجح الدعاية في خلق لحظة زهو عابرة، لكنها لا تصنع نصرا حقيقيا، فالوعي الشعبي يتطور، والفضاء الرقمي لم يعد مجالا مفتوحا للتلاعب من دون مساءلة، وهكذا يبقى الفرق شاسعا بين من يصنع النصر على الأرض، ومن يعيش في وهمه على الشاشات...
تتكرر ظاهرة مألوفة على الساحة السياسية، في كل موسم انتخابي، وهي قيام مرشحون بتصدير صورة لأنفسهم وهي صورة الانتصار قبل أن تبدأ المعركة الانتخابية فعليا.
وعادة هذا الانتصار لا يستند إلى واقع ملموس أو إنجاز حقيقي، بل إلى خطاب إعلامي منمق، وصور مُلتقطة بعناية، ومنشورات متتابعة على مواقع التواصل الاجتماعي تُضفي عليهم هالة من النجاح الوهمي، وهكذا يصنع الكثير من المرشحين انتصارات مزيفة لا تصمد أمام أول اختبار حقيقي في صناديق الاقتراع.
الدراما الانتخابية تبدأ عادة بمشهد إطلاق حملات دعائية تعتمد على مبالغات غير مدروسة، يعلن فيها المرشح عن مشاريع وطموحات لا وجود لها على أرض الواقع، أو يبالغ في دوره في إنجازات جماعية شارك فيها عشرات الأشخاص، لكنه يظهر نفسه فيها كصاحب الفضل الوحيد او بطل القصة.
يقابل هذا الترويج المزيف تجاهل تام للحقائق أو التلاعب بها لتقديم صورة بطل سياسي لا يُقهر، هذا النوع من التسويق السياسي لا يهدف إلى إقناع الجمهور الواعي، بقدر ما يراهن على سرعة انتشار المعلومة على وسائل التواصل، وقدرتها على خلق رأي عام مؤقت يوهم المرشح بتقدم لا وجود له.
أين المشكلة في ذلك؟
المشكلة الأكبر في ذلك لا تكمن في الكذب الانتخابي فقط، بل في أن بعض المرشحين يصدقون دعايتهم الخاصة، حين يغيب الاحتكاك الميداني الحقيقي بالناس، ويتحوّل الفضاء الافتراضي إلى مصدر وحيد للتغذية السياسية، بما يرسخ لدى المرشح شعور زائف بالقوة والانتشار.
فيتصور أن آلاف الإعجابات والتعليقات الداعمة تعني قاعدة جماهيرية راسخة، متناسيا أن السياسة لا تُحسم على الشاشات، بل في صناديق الاقتراع وفي ميدان العمل العام.
هذا الوهم لا يلبث أن يتبدد يوم الانتخابات، حين تُعلن النتائج، فيجد المرشح نفسه أمام أرقام متواضعة لا تتناسب مع الصورة التي رسمها لنفسه، هنا يتضح أن ما كان يُسوق على أنه نصر لم يكن سوى هزيمة مؤجلة، فالإعجابات لا تعني أصواتا انتخابية، والمنشورات الرنانة لا تُقنع الناخب الذي يبحث عن منجز حقيقي لا عن مشاهد مصطنعة.
وما يلفت النظر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الوجوه الجديدة، بل تشمل أيضا شخصيات سياسية لها خبرة سابقة، يفضل بعضهم صناعة مجد افتراضي على مواجهة الواقع، ويعتمد على فرق إلكترونية لبث رسائل القوة والنجاح، ظنا أن التكرار يصنع الحقيقة، بينما التجربة أثبتت أن الجمهور أصبح أكثر وعيا من قبل، وأنه قادر على التمييز بين الإنجاز الحقيقي والدعاية الفارغة.
الانتخابات في جوهرها ليست مسرحا للوهم، بل اختبارا للثقة والقدرة، والمرشح الذي يبني حملته على إنجازات مصطنعة، يضع نفسه في مواجهة صدمة لاحقة، أما من يعمل بصمت، ويستند إلى أفعال واقعية، فغالبا ما يحقق نتائج تفوق الضجيج الإعلامي.
في النهاية، قد تنجح الدعاية في خلق لحظة زهو عابرة، لكنها لا تصنع نصرا حقيقيا، فالوعي الشعبي يتطور، والفضاء الرقمي لم يعد مجالا مفتوحا للتلاعب من دون مساءلة، وهكذا يبقى الفرق شاسعا بين من يصنع النصر على الأرض، ومن يعيش في وهمه على الشاشات.



اضف تعليق