المشكلة الأعمق هي أن إدارة المدن بلا رؤية لا تُنتج فقط مدنا فاشلة، بل تُنتج أجيالا تفقد ثقتها بالمؤسسات، تجعل من الاطفال ينشؤون في مدن تختنق بالغبار، مدارس بلا خدمات، شوارع بلا إنارة، شباب بلا فرص، أسر بلا استقرار. إذن ما مصير المدن التي تُدار بهذه الطريقة؟...

في عالم تتسارع فيه المدن نحو الحداثة، وتُبنى قراراتها على البيانات والتخطيط الاستراتيجي والحوكمة الرشيدة، تقف بعض المدن في البلاد على وجه الخصوص أمام معضلة خطيرة، تتمثل في سيطرة بعض الأشخاص على إدارتها وهم لا يملكون رؤية، ولا تصورا شموليا لطبيعة المشكلات ولا لطرق الحل. 

هذه الإشكالية ليست مجرد خلل إداري عابر، بل أزمة متكاملة تمس حياة الناس اليومية ومستقبل الأجيال، وقدرة المدينة على البقاء صالحة للعيش، فيما تمر مددنا في الوقت الحاضر بأزمة واضحة وهي وصول بعض الشخصيات التي لا تجيد إدارة منازلها فكيف وإذا بهم معنيين برسم سياسة لمدينة بأكملها يصل تعدادها قرابة المليونين نسمة او أكثر.

فعندما يتولى شخص بلا رؤية مهمة إدارة مدينة، فإن أول ما يمكن ان يتعرض للتهديد هو التخطيط الحضري، لاسيما وان المدينة بطبيعتها منظومة حية، تحتاج إلى من يفهم ديناميكياتها، من حيث توسعها السكاني، حاجات سكانها، متطلبات البنى التحتية، وتحديات النقل والبيئة والخدمات.

في حين غياب هذه الرؤية يعني غياب القدرة على قراءة هذه العناصر بطريقة مترابطة، بعد ذلك تتحول القرارات إلى ردود فعل آنية، لا إلى سياسات تراكمية تُبنى على أهداف بعيدة المدى.

ويمكن تشخيص اهم ما تعانيه المدن في العراق هو إنها تُدار بعقلية اللحظة غالبا، الامر الذي يجعلها في كثير من الاحيان تنزلق نحو الفوضى، فبدلا من معالجة جذور المشكلات عبر الوصول الى الأعماق، يتم التعامل مع مظاهرها فقط. 

مثال ذلك مدينة تواجه ازدحاما خانقا، المسؤول بلا رؤية قد يفكر بإضافة مطبات أو نشر مفارز أمنية أو غلق بعض الطرق بحجة التنظيم، بينما الحل الحقيقي يكمن في تحديث منظومة النقل، وإعادة توزيع الكتل السكنية، وتطوير الشوارع، وتنظيم حركة المرور وفق دراسات هندسية.

 وبينما يتوه المواطن في هذه الإجراءات الترقيعية، تتفاقم المشكلة وتصبح أكثر تعقيدا.

ثمة جانب آخر لا يقل أهمية، وهو الجانب الاقتصادي المحلي، فالمدينة التي لا تُدار برؤية تكون عاجزة عن خلق بيئة اقتصادية سليمة، يتم اختيار مشاريعها بعشوائية ليس على أساس الحاجة الفعلية لهذه المدينة او الحاجة المحلية بصورة عامة، يضاف الى جانب ذلك فإن الاستثمارات تُدار بالمنطق الشخصي وليس وفق احتياجات المدينة أو قدراتها والنتيجة؟

النتيجة هي مشاريع متعثرة وهدر مالي، فضلا عن عدم خلق فرص عمل حقيقية، ومن الطبيعي ان نصل الى هذه النتيجة، لان المسؤول الذي لا يملك رؤية لا يستطيع فهم حركة رأس المال أو تحفيز القطاع الخاص أو إطلاق مشاريع استراتيجية تُغير شكل المدينة، وبالتالي تبقى المدن فقيرة، وتعتمد بالكامل على التمويل الحكومي الذي قد يتذبذب أو يختفي.

اما المشكلة الأعمق هي أن إدارة المدن بلا رؤية لا تُنتج فقط مدنا فاشلة، بل تُنتج أجيالا تفقد ثقتها بالمؤسسات، تجعل من الاطفال ينشؤون في مدن تختنق بالغبار، مدارس بلا خدمات، شوارع بلا إنارة، شباب بلا فرص، أسر بلا استقرار.

إذن ما مصير المدن التي تُدار بهذه الطريقة؟

مصيرها واضح، تراجع حضاري الى جانب هجرة داخلية وخارجية، وكذلك انحسار اقتصادي، وتدهور مستمر في جودة الحياة، فالمدينة التي يفشل إداريوها في رؤية المستقبل تتحول إلى مكان طارد لسكانها، يهرب منها من يملك القدرة على الهجرة، ويبقى فيه من لا يملك خيارا آخر.

فما هو الحل؟

الحل يبدأ من الاعتراف بأن إدارة المدن علم وفن، لا يمكن أن يُترك للاجتهاد الشخصي، تحتاج المدينة إلى قائد يملك رؤية واضحة، مبنية على البيانات، وعلى فهم معمق للمشهد العمراني والاقتصادي والاجتماعين، ومن يمتلك هذه الصفات يكون شخص قادر على الحلم، وعلى تحويل هذا الحلم إلى خطة، والخطة إلى سياسات، والسياسات إلى واقع.

وأخيرا المدن لا تنهض بالحظ، بل بالخبرة والإدارة الواعية، وحين يُسند مصير مدينة كاملة إلى شخص لا يمتلك رؤية، فالمستقبل لن يكون إلا امتدادا للفوضى.

اضف تعليق