لا ينهض مجتمع يخجل من مواجهة ذاته، والفرق بين بيئة راكدة وأخرى مزدهرة ليس حجم النجاحات المعلنة، بل القدرة على التعامل مع الإخفاقات بصدق، فالنجاح الذي له ألف أب لا يُبنى إلا على فشل يعترف به صاحبه، ويتعلم منه، ثم ينهض ليكمل الطريق...
في المجتمعات النامية التي ابصرت النور بعد سنوات من القمع والنظام من قبل الأنظمة الشمولية، تتجلى ظاهرة لافتة تكاد تكون قانونا نفسيا واجتماعيا، اتسمت فيه اغلب قادة او مدراء المؤسسات، وهي ان الفشل يتيم، بينما النجاح له آلاف من الآباء.
اثبتت لنا التجارب في السنوات الماضية وحتى أيامنا الحالية، ان أي نتيجة إيجابية تتحقق، يتسابق الجميع لنسب الفضل إلى أنفسهم أو إلى دوائرهم القريبة، أما عندما يحدث إخفاق، فإن الأصابع ترتفع فورا بحثا عن متهم يمكن تحميله المسؤولية، أو تُترك الحقيقة بلا صاحب يدافع عنها.
هذه الثقافة لا تتعلق بالأفراد وحدهم، بل تمتد إلى المؤسسات الحكومية والخاصة، وإلى منظمات المجتمع وحتى البيئات العائلية، ولنا في العراق الكثير من الشواهد على هذا الطرح، فعند انهيار مجسر العطيشي، تنصل الجميع عن المسؤولية، وتحمل الأخطاء الإدارية موظف بسيط، بينما الرؤوس الكبار فللت من العقاب.
بالتأكيد مثل هذا الظاهرة تعود لسبب رئيس، وهو ان جزء منها يعود إلى التحيز النفسي نحو حماية الذات، فالإنسان بطبيعته يميل إلى الحفاظ على صورته أمام الآخرين، ويخشى أن يُنظر إليه باعتباره سببا للخطأ أو التقصير.
وهنا يظهر ما يسمى بـآلية الإسقاط، اي تحميل عوامل خارجية أو أشخاص آخرين مسؤولية الإخفاق، وإبعاد الذات عن دائرة الاتهام، وعندما يتحقق نجاح، تتفعل آلية معاكسة، حيث يُعاد تفسير أي مساهمة صغيرة باعتبارها دورا حاسما في تحقيق النتيجة، في محاولة لتعزيز المكانة الاجتماعية والاعتراف.
هذه الثقافة تتغذى أيضا من أنظمة إدارية لا تكافئ الصراحة، فالموظف الذي يعترف بخلل قد يُسجل عليه نقطة سلبية تلاحقه، بينما من يخفي الأخطاء قد يُكافأ ظاهرا لأنه لم يسبب مشاكل.
ومع مرور الوقت، يصبح الاعتراف بالفشل مخاطرة مهنية، ما يدفع الجميع إلى دفن الحقائق بدل معالجتها، ويحدث هذا الامر عادة في المؤسسات الحكومية، حيث يتضخم الخوف من اللوم والمحاسبة، يتحول الخطأ إلى سر مؤسسي، ويُحاط بجدار من الصمت، بينما يُقدم النجاح على شكل احتفال جماعي لا يخلو من المبالغة.
ومن زاوية اجتماعية، فإن ثقافة العار المرتبطة بالفشل تلعب دورا مهما، ففي كثير من البيئات، لا يُنظر إلى الفشل بوصفه خبرة تعلم، بل كوصمة تُلاحق صاحبها؛ لذلك يُفضل الأفراد تجميل الواقع أو تزييفه كي لا يواجهوا نظرات التقليل، ويُلاحظ هذا السلوك في المدارس، والجامعات، والبيوت، حيث يُسارع الآباء إلى إخفاء إخفاقات أبنائهم، بينما يتفاخرون بإنجازاتهم مهما كانت بسيطة.
المفارقة أن أعظم التجارب العالمية تُظهر أن الاعتراف بالفشل كان دائما مقدمة للابتكار، فالشركات الكبرى مثل “تويوتا” و“أمازون” و“سبيس إكس” تبني أنظمتها الإدارية على الشفافية، وتعتبر الخطأ جزءا طبيعيا من مسار التقدم.
بل إن بعضها يدعو فرق العمل إلى عرض ما يسمى بالفشل الأسبوعي؛ لتحليل الأسباب ومنع تكرارها، حيث لا يمكن لاحد هناك ان يخجل من السقوط، لأن الجميع يعلم أن الخطوات المتعثرة هي من تُوصل إلى النجاح، بينما ما يحصل في بلادنا هو العكس من ذلك تماما، وكل شخص يحاول ابعاد الشبهة عن نفسه، وفي النهاية يحصل الفشل الذريع نتيجة عدم تحمل المسؤولية الكاملة.
ويتطلب التحول من ثقافة إخفاء الفشل إلى ثقافة التعلم منه إصلاحا في ثلاثة مستويات:
الأول على مستوى الأفراد، اذ ينبغي ترسيخ فكرة أن الاعتراف بالخطأ قوة لا ضعف، وأن المراجعة الذاتية شرط للنمو.
اما المستوى الثاني، على مستوى المؤسسات، من الضروري بناء أنظمة تشجع على الشفافية وتجعل الإبلاغ عن الأخطاء جزءا من الأداء الجيد، لا علامة على السوء، بينما ثالث هذه المستويات هو المستوى الاجتماعي، اذ يجب تحرير الوعي من فكرة العار المرتبط بالفشل، واستبدالها برؤية تقدر التجربة والسعي، حتى وإن لم تُكلل بالنجاح.
في النهاية لا ينهض مجتمع يخجل من مواجهة ذاته، والفرق بين بيئة راكدة وأخرى مزدهرة ليس حجم النجاحات المعلنة، بل القدرة على التعامل مع الإخفاقات بصدق، فالنجاح الذي له ألف أب لا يُبنى إلا على فشل يعترف به صاحبه، ويتعلم منه، ثم ينهض ليكمل الطريق.



اضف تعليق