فأوعزت المخابرات الأمريكية للإعلام الأمريكي لمهاجمته، فاتهمته بتجارة المخدرات وانتهاك حقوق الإنسان وقمع المعارضة السياسية في البلاد. فجأة استيقظ الضمير الأمريكي وأصبح نورييغا شخصًا مجرمًا بعد أن كان حليفًا. وهذه نقطة شبه أخرى في السيناريو الذي تم وضعه لصدام حسين، جندوه، ثم مكّنوه، وحفّزوه لارتكاب الفظائع وقمع معارضيه...

في أحد أزقة مدينة بنما، العاصمة، وُلد مانويل أنطونيو نورييغا عام 1934، لأم فقيرة تعمل خادمة منزلية. لم يكن مجهول النسب. لكنه نشأ دون أن يجد أبًا في حياته. شبَّ انطوائيًا، يراقب ما حوله ولا يتدخل خوفًا من المشاكل، فكأنه يتعلّم مبكرًا أن من لا يحميه أحد، عليه أن يحتمي بالصمت والغموض.

 طفولته تشبه إلى حدّ بعيد طفولة طاغية العراق، صدام حسين، فكلاهما نشأ بلا أب وفي بيئة قاسية، وكان عرضة للتنمر، وكلاهما أصبح هدفا مبكرا للمخابرات الأميركية، التي رأت فيهما أدوات نافعة في لعبة النفوذ. 

درس مانويل نورييغا العلوم العسكرية في الكلية العسكرية في بيرو، في العشرينات من عمره، وخضع لاحقًا لدورات متقدمة في مدرسة الأمريكيتين التابعة للجيش الأميركي. في خمسينيات القرن الماضي، رصدته الـCIA، فجندته أولًا كمخبر محلي، يقدّم معلومات عن الحركات اليسارية التي كانت في صراع مع أمريكا وحلفائها، ويُبلّغ عن الاجتماعات السرية لقادتها. 

تعلّم نورييغا على يد المخابرات الأمريكية كيف يُسقط حكومة دون أن يُطلق رصاصة، وأصبح عينًا أميركية داخل المؤسسة العسكرية البنمية. بعد وفاة الجنرال عمر توريخوس رئيس بنما في حادث طائرة (غامض) عام 1981، بدأ نجم نورييغا يبرز، فقد أصبحت كل الخيوط في يده. تمامًا كما هو الدور الذي أعطوه لصدام حسين، بدأ نائبًا لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، فجمع كل خيوط الدولة بيده حتى إن البكر قال ذات مرة "إنه أسير لدى صدام". 

بهدوء، تولّى نورييغا قيادة الحرس الوطني، ثم أصبح بمباركة أمريكية، الحاكم الفعلي لبنما عام 1983. لم يُنتخب، ولم يُعلن نفسه رئيسًا، لكنه يملك كل القرارات. 

في تلك الفترة، كانت بنما مركزًا لتجارة المخدرات وغسيل الأموال، ونورييغا في صلب هذه الأعمال بمشاركة المخابرات الأمريكية حسب قوله. حيث قال في أحد تصريحاته: "لقد كنت أدير تجارة المخدرات بالشراكة مع وكالة المخابرات الأميركية." الأموال التي تمر عبر بنما كانت تُستخدم لتمويل عمليات سرية، لتسليح "الكونترا" في نيكاراغوا، ولشراء ولاءات في أماكن لا تصلها الدبلوماسية. 

لكن نورييغا سئم من التحكم الأمريكي به وبلاده، فتبنّى خطابًا قوميًا وهدد واشنطن بإنهاء وجودها في بنما. هذه الخطوة أشعلت الضوء الأحمر في واشنطن فقررت الإطاحة به، وبعد أن كانت ساكتة عن انتهاكاته لحقوق الإنسان وتجارة المخدرات، وقمع المعارضة، استخدمت كل هذه الملفات ضده.

فأوعزت المخابرات الأمريكية للإعلام الأمريكي لمهاجمته، فاتهمته بتجارة المخدرات وانتهاك حقوق الإنسان وقمع المعارضة السياسية في البلاد. فجأة استيقظ الضمير الأمريكي وأصبح نورييغا شخصًا مجرمًا بعد أن كان حليفًا. 

وهذه نقطة شبه أخرى في السيناريو الذي تم وضعه لصدام حسين، جندوه، ثم مكّنوه، وحفّزوه لارتكاب الفظائع وقمع معارضيه وغزو جيرانه، وفي الوقت المناسب استخدمت هذه الأوراق ضده فأُسقط.

وعام 1989 شنت الولايات المتحدة عملية عسكرية ضخمة، أُطلق عليها اسم "القضية العادلة"، شارك فيها أكثر من 27 ألف جندي، وقُتل فيها آلاف المدنيين البنميين، بهدف اعتقال رجل كان يومًا ما أحد أدواتها. حُكم عليه بالسجن أربعين عامًا، ثم نُقل إلى فرنسا وأعيدت محاكمته وحُكم عليه بسبع سنوات، ثم أُعيد إلى بنما، ومات في أحد المستشفيات عام 2017. 

ترى كم حاكم تم صنعه بهذه الطريقة، وكم حاكم تتم تهيئته ليتولى زمام الأمور في هذا البلد أو ذاك بتخطيط من رجال الظل والظلام المهيمنين على العالم؟

اضف تعليق