ان الدول يمكن ان تكون حضارية حديثة لكن بدرجات متفاوتة في التحضر والحداثة، وانه يمكن تحقيق هاتين الصفتين بصورة تدريجية، وفي مختلف مؤشرات الدولة الحضارية الحديثة التي تصدرها المنظمات الدولية المختصة، مثل مؤشر الحرية، ومؤشر الديمقراطية، وموشر الهشاشة، ومؤشر التعليم العالي (الجامعات)، وموشر الفقر، وغيرها من المؤشرات الكثيرة...
تكرر مني القول في مقالات كثيرة سابقة ان الدولة الحضارية الحديثة نموذج اساسي ذو درجات كثيرة متفاوتة؛ بمعنى ان هناك عددا من الدول التي يمكن ان تندرج تحت عنوان الدولة الحضارية الحديثة، لكن هذه الدولة تتفاوت في درجة تمثيلها وتجسيدها لهذا النموذج.
ويقدم مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية غير الربحية مثالا توضيحيا لما اقول. ففي مؤشر عام ٢٠٢٣ الذي شمل ١٨٠ دولة وجدنا ان هناك ٥٧ دولة حازت على درجة ٥٠ فما فوق في المؤشر، وهذا يعني ان كل هذه الدول نجحت في اختبار النزاهة والشفافية للدولة الحضارية الحديثة. فكل هذه الدولة تقع ضمن خانة او توصيف الدولة الحضارية الحديثة فيما يتعلق بالنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد؛ لكنها ليست على درجة واحدة، فقد حازت الدانمارك على ٩٠ نقطة، وهي اعلى درجة في مؤشر هذا العام، فيما حازت كل من كرواتيا وماليزيا على ٥٠ نقطة فقط. والفرق كبير بين النقطتين.
فيما حازت الدول المتبقية درجات تفاوتت من ٤٩ درجة الى ١١. وهذه الدولة كلها فاشلة في اختبار النزاهة والشفافية للدولة الحضارية الحديثة. ولا يمكن اعتبار هذه الدول دولا حضارية حديثة بقدر ما يتعلق الامر بالنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد. والمؤسف ان العراق مازال ضمن هذا التصنيف منذ سنوات عديدة. فقد حاز العراق على ٢٣ درجة فقط، وهي درجة رسوب، فجاءت مرتبته ١٥٤ وهي الدرجة التي شاركت العراق فيها كل من اذربيجان وغواتيمالا وهندوراس. فالعراق دولة فاسدة، للاسف.
اقامة الدولة الحضارية الحديثة كما افادت التجارب المماثلة عبارة عن سيرورة متصلة وطويلة ينطبق عليها قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ". (الانشقاق 6) بالمعنى الذي اقترحته لكلمة "ملاقيه" وشرحته في مقال سابق.
وخلاصته ان مجموع كدح، اي سعي، الانسانية، بما ان المخاطب هنا هو الانسان عامة، سوف يثمر لقاء الله، اي تحقيق صفاته، اي صفات الكمال التي يتصف بها مثل العلم والقدرة والرحمة والعفو والقوة، في حياة الانسان. كلمة "ملاقيه" هنا تشبه بالضبط عبارة meet the requirements باللغة الانجليزية التي تعني تحقيق المتطلبات أو الشروط المحددة.
وتستخدم هذه العبارة في سياقات مختلفة، كما عند التحدث عن امتثال شخص ما لمجموعة من المعايير أو المواصفات أو عند التأكد من أن شخص ما يفي بجميع الشروط المطلوبة لإكمال مهمة ما أو الحصول على فرصة معينة.
وبشكل عام، تُستخدم عبارة "meet the requirements" للدلالة على الامتثال لشروط معينة مهما كان نوعها. وبناء عليه فان عبارة "كادح الى ربك كدحا فملاقيه" تعني ان دوام الكدح والسعي والسير سوف يؤدي الى توفر المعايير او الشروط او المواصفات التي يتطلبها الله من الانسان؛ سوف يؤدي الى الامتثال لله. لقاء الله لا يعني المواجهة الشخصية المباشرة وجها لوجه face to face بين الانسان بما هو شخص مادي، وبين الله بوصفه شخصا غير مادي، وانما تعني الامتثال المتحقق تدريجيا للصفات التي يؤمن الانسان بتوحيدها في الله سبحانه وتعالى. ومن هنا قلت في مقالات سابقة ان نموذج الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام.
لكن الذي نأخذه من قائمة الدول الناجحة ان الدول يمكن ان تكون "حضارية حديثة" لكن بدرجات متفاوتة في التحضر والحداثة، وانه يمكن تحقيق هاتين الصفتين بصورة تدريجية، وفي مختلف مؤشرات الدولة الحضارية الحديثة التي تصدرها المنظمات الدولية المختصة، مثل مؤشر الحرية، ومؤشر الديمقراطية، وموشر الهشاشة، ومؤشر التعليم العالي (الجامعات)، وموشر الفقر، وغيرها من المؤشرات الكثيرة. وبجمع هذه المؤشرات مع بعضها يمكن ان نتوصل الى معرفة موقع الدولة في سلم التطور الحضاري الحديث.
اضف تعليق