q
من عاش أو تابع التجربة الديمقراطية العراقية يجب عليه أن يخاف من انتخابات مجالس المحافظات المزمع إجراؤها في كانون الأول ديسمبر 2023، فهذه العملية مغامرة تربك الأجواء السياسية، وتهز القوى الاجتماعية، وتنشر الخوف والقلق لدى الزعامات الكبيرة والمواطنين البسطاء، لأنها فعل من أفعال التغيير، وفي كل عملية تغيير هناك مثبطون للعملية، ومحركون للمضي بها...

من عاش أو تابع التجربة الديمقراطية العراقية يجب عليه أن يخاف من انتخابات مجالس المحافظات المزمع إجراؤها في كانون الأول ديسمبر 2023، فهذه العملية مغامرة تربك الأجواء السياسية، وتهز القوى الاجتماعية، وتنشر الخوف والقلق لدى الزعامات الكبيرة والمواطنين البسطاء، لأنها فعل من أفعال التغيير، وفي كل عملية تغيير هناك مثبطون للعملية، ومحركون للمضي بها.

من يملك زمام السيطرة والهيمنة يحاول دائماً أن تكون نتائج الانتخابات لصالحه، وعلى العكس تماماً، فاقد السلطة يسعى للتغيير والحلول محل المهيمن، وتلك هي معادلة الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية الراسخة، ومنها يستعاد التوازن دائماً، فالمهيمن الذي فشل في تحقيق طموحات الشعب تقل أصواته الانتخابية فيخسر اللعبة لصالح من يملك برنامجاً أفضل يتوقع الشعب أن يلبي رغباته في تغيير الواقع نحو الأفضل.

بالنتيجة يكون الشعب مصدر السلطات، فهو يمنحها لحزب أو كتلة معينة، على أساس جملة من التعهدات في تقديم الخدمة والبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وبعد إقناع الشعب ببرنامجه يهيمن هذا الحزب على السلطة من أجل الإيفاء بتعهداته وخلال مدة زمنية محددة (بالعادة تكون أربع سنوات وهي دورة انتخابية كاملة).

انتهاء الدورة الانتخابية يمثل عملية تقييم للفائز أو المهيمن على السلطة، إذا اقتنع الشعب بأدائه جدد له الانتخاب مرة أخرى، وإذا فشل الحزب في اقناع الشعب بأدائه، يحوز غيره على أصوات الناخبين الذين يمثلون السلطة الحقيقية فيمنحونها لمن يرونه مناسباً.

من يحمي هذه العملية التعاقدية بين السلطة والشعب؟

الدستور هو الضمانة الفعلية لممارسة الشعب لسلطته، فهو القانون الأسمى في البلاد، وإليه تلجأ جميع القوى السياسية والشعبية في حال التنازع.

وعند الحديث عن الدستور يبرز بشكل رئيسي القوى التي لا تحترم هذا القانون المقدس، والسؤال المتداول دائماً، لماذا تستطيع بعض القوى التجاوز على الدستور؟

يمكن للقوى الخارقة للدستور أن تستند إلى عوامل قوة ابعد من الدستور والشعب، فقد تستمد قوتها من دولة خارجية، وهذا متوفر بقوة في العراق، فالأحزاب هنا عبارة عن كيانات مسلحة لديها واجهات سياسية، تمارس عملها المسلح إلى جانب العمل السياسي، وفي حال فشلها سياسياً تخرج بسلاحها مستعرضة قوتها لتجبر غيرها على قبولها كقوة لا يمكن أن يمسها التغيير.

لا يمكن لأحد إنكار وجود عدد كبير من الجماعات السياسية التي تملك سلاحاً، وأحداث المنطقة الخضراء في الثامن والتاسع والعشرين من أغسطس آب 2022 كانت شاهداً على حجم القدرة المسلحة على تجاوز الإرادة الشعبية الانتخابية، فقد اندلع صراع مسلح بين القوى القوى السياسية للسيطرة على البرلمان، وأدى إلى مقتل وإصابة العشرات، وانتهى بانسحاب الكتلة البرلمانية الفائزة بالانتخابات وهي الكتلة الصدرية، وحلول القوى الخاسرة محلها.

هذا أحد أخطر التهديدات للعملية الديمقراطية في العراق، لأنها تجعل من التغيير الانتخابي فكرة ساذجة، وممارسة شكلية لإرضاء المنظمات الدولية.

بعض القوى لا تملك السلاح، لكنها تملك قوة قادرة على كسر حدود الدستور، وتحطيم إرادة الشعب عبر المال الذي يأتي عبر منافذ متعددة، منها التمويل الخارجي للدول التي تلمك مصلحة في صعود قوى سياسية معينة، والمال الذي يأتي عن طريق صفقات الفساد لتتضخم استثمارات بعض الأحزاب لدرجة تجعلها قادرة على شراء أي شيء بالمال، سواء أكان صوت ناخب بسيط أو مسؤول كبير في الدولة العراقية.

هذا المال تكشف عنه بشكل يومي هيأة النزاهة الاتحادية، لكنه يبقى مسيطراً ولا يستطيع أحد إيقافه من التوسع على حساب الدستور، ليكون هو القوة الخطيرة الثانية مع قوة السلاح الخارجة عن سيطرة الدولة.

ويأتي التدخل الخارجي ليكون العامل الثالث المؤثر على طبيعة الخليط السياسي في العراق، فالدولة التي يكون فيها فائض القوة والمال خارجاً عن قوة القانون، تصبح العلاقات مع الخارج مكملة لهذا الخرق، إذ لا يمكن للحكومة أن تتشكل بدون موافقة إقليمية ودولية أو على أقل إرضاء لهذه الرغبة بشكل أو آخر.

انتخابات عام 2018 كانت أكبر شاهد على حجم التدخل الخارجي بالشأن العراقي، ولو أن هذا التدخل خفت في اختيار رئيس الوزراء الحالي، لكنه بقي مؤثراً بشكل مباشر وغير مباشر.

هذا المثلث من تعاضد قوة السلاح، وقوة المال السياسي، مع القوى الإقليمية والدولية، يجعل الشعب ليس مصدراً للسلطة، بل غلافاً للسلطة، أما مصدر السلطات الحقيقي فهو في مثلث السلاح والمال والخارج.

أي إنسان في هذا الكوكب يرى هذه التدخلات يقلل من توقعاته بشأن التغيير في الانتخابات، ويفهم لماذا تستطيع القوى السياسية عدم الالتزام بالتوقيتات الدستورية عند تشكيل الحكومة، وتستطيع تأخير هذه العملية من 15 يوماً إلى سنة كاملة دون أن يكون لها رادع حقيقي.

الدستور لم يستطع حتى الآن ليكون القانون الأسمى في البلاد، لذلك لا تستطيع هذه الوثيقة القانونية أن تكون ضامنة لمصدرية الشعب للسلطات، فالمصدر الحقيقي ما يزال بيد مثلث السلاح والمال والخارج.

وإذا كان هذا هو حال الانتخابات الاتحادية لمجلس النواب، فإن انتخابات مجالس المحافظات يضاف لها عامل رابع وهو القوة العشائرية للشيوخ الكبار، وهو شخصيات مؤثرة في مجتمعها، ولهم أتباع بأعداد كبيرة، ولها قوة الأمر في قضايا لا حصر لها، حتى أنها صارت دولة داخل الدولة، تحاكم وتقاضي وتمارس دورها في إشعال الصراعات أو إطفائها بعيداً عن سلطة الدولة.

العنصر العشائري سيكون مؤثراً وبقوة في انتخابات مجالس المحافظات، وهو قابل للتغير حسب ما تقتضيه مصالحه الضيقة على حساب المصالح العامة، وتلك مشكلة أخرى تضعف من فائدة انتخابات مجالس المحافظات وتفرغها من محتواها.

هل من تأثيرات أخرى على انتخابات مجالس المحافظات؟

يمكن للقارئ تقصي هذه التأثيرات ومحاولة تقليصها أو على أقل تقدير التحذير من دورها السلبي على العملية الديمقراطية برمتها.

اضف تعليق