q
ما دامت الساحة السياسية مليئة بالتفاهمات الجديدة وإمكانية فك الإلتزامات القديمة التي لم تعد صالحة للمرحلة الراهنة، فالتوافق والأغلبية سواء، المهم هناك من ينتخبه لرئاسة مجلس النواب ويعطيه بذلك دفعة قوية للأمام، وتعزيزاً لموقعه السياسي. الحلبوسي لم يخذل الصدر بل أن طريقته في التعاطي مع المتغيرات السياسية مختلفة عن طريقة السيد الصدر...

لم يكن حلفاء زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر على نفس حماسة الرجل في مسألة تشكيل حكومة أغلبية وطنية تستبعد الإطار التنسيقي الشيعي وتنصيب رئيس وزراء صدري خالص، مع تحمل التيار الصدري أي تبعات تترتب على هذه الحكومة المأمولة.

الحليف السني الأقوى للصدر محمد الحلبوسي والذي استفاد من تحالفه مع الصدر من خلال تجديد رئاسته للبرلمان، كان سريعاً ومستعجلاً في التوقيع على استقالة نواب الكتلة الصدرية، وكأنه يريد التخلص من حمل أثقل كاهله طوال المدة الماضية التي قضاها يتفاوض في الحنانة وبغداد وأربيل، وفي بعضها الأحيان إلى اسطنبول.

المتابع للشأن السياسي انتبه إلى سرعة رئيس مجلس النواب في التوقيع على استقالة نواب الصدر، وظهرت تفسيرات تفيد بأن الفرصة التي حصل عليها انقذته ممن يزاحمه على كرسي الرئاسة قبل كل شيء.

إنه نائبه حاكم الزاملي عضو الكتلة الصدرية، نائب نشيط وله قدرة على إصدار القرارات وتحريك المفاصل الساكنة، نافس الحلبوسي على رئاسة مجلس النواب عبر تبنيه مصطلح "هيأة رئاسة مجلس النواب"، هذا المصطلح أغضب الرئيس ودفعه لإصدار قرار بأن للبرلمان رئاسة وليست هيأة رئاسية، لكن ذلك لا ينفع مع شخص متمرس في العمل السياسي والبرلماني مثل حاكم الزاملي.

ربما بعث الحلبوسى شكوى للسيد الصدر بشأن مزاحمة نائبة حاكم الزاملي ومشاركته صلاحياته، هذا الكلام تداولته بعض الشخصيات وجزء من وسائل الإعلام.

وبسبب الزاملي أصر الحلبوسي على اجتثاث كلمة "هيأة رئاسة مجلس النواب"، في أول جلسة غاب عنها نواب الكتلة الصدرية، فصوت البرلمان المكون من نواب أغلبية إطارية لصالح رغبة الحلبوسي.

ولولا استقالة نواب الكتلة الصدرية لبقي الزاملي نائباً مزعجاً للحلبوسي، وقد يعكر عليه صفاء الذهن، ويقلص من سلطته بطرق متعددة، ومع الاستقالة تخلص رئيس المجلس من نائبه، وهذا قد يفسر سرعة التوقيع على طلبات نواب الكتلة الصدرية بالاستقالة من البرلمان العراقي.

ليس الزاملي هو الهم الأكبر للحلبوسي، فقد رئيس البرلمان تورط في مشروع سياسي جدّي يقوده السيد مقتدى الصدر، بينما المعروف عن الحلبوسي كثرة تحالفاته، وتنقلاته من تحالف إلى آخر حسب ما يحقق أهدافه.

والهدف الأول للحلبوسي تعزيز مكانته كزعيم سياسي سني، بل الزعيم السني الأول، لا يهمه مشروع الأغلبية السياسية بنفس القدر والحماسة التي تدفعه للترقي في سلم الزعامة، كما لا يتحمس الحلبوسي لإصلاح الوضع السياسي المتأزم، فقد نشأ وانطلق نحو قمة الهرم السياسي السني مستفيداً من الأزمات والخلافات التي عصفت بالمكون السني تحديداً والعراق عموماً.

بمعنى آخر لا يجد رئيس البرلمان ذلك الحرج من استمرار الفشل السياسي في العراق، لا سيما إذا كانت آثاره تقع على غيره وتبتعد عنه مسافات طويلة، حتى أن تظاهرات تشرين 2019 التي تعد أكبر حدث احتجاجي ضد المنظومة السياسية الحاكمة لم تمس السيد الحلبوسي، لقد خلع سترته ونزل مع المتظاهرين ليبدو في عيون الشعب ذلك السياسي الخالي من العيوب، ما عزز موقعه كزعيم له امتدادات سياسية محلية ودولية، وله قواعد شعبية.

بما أن الهدف الأساسي واضح لدى الحلبوسي وهو تعزيز مكانته كزعيم سياسي، فهو لا يجد صعوبة في التحالف مع أي طرف سياسي، ومن أي مكون كان، المهم أنه يستفيد منه لتثبيت مكانته وترقيته إلى أعلى السلم السياسي السني، وهذا ما يفسر تعدد تحالفاته خلال مدة زمنية ليست بالطويلة.

خلال الدورة البرلمانية الثالثة وجزء من الرابعة كان الحلبوسي رفيق درب الأخوين محمد وجمال الكربولي، فهو ليس رفيقهم السياسي بحسب، إنما صديقهم الحميم، فجأة تنقلب الأمور لنجد جمال الكربولي معتقل في السجن بينما يقف الحلبوسي يتفرج عليه وهو رئيس مجلس النواب والقادر على التأثير في قرارات كبيرة، لم يحرك ساكناً، واتُهم بأنه وراء اعتقال الكربولي.

في نفس المدة نشط تحالفه مع تحالف الفتح المقرب من إيران، وانتشر في حينها أن الحلبوسي كان مرشح إيران لرئاسة مجلس النواب، وهذه العلاقة أيضاً لم تعمر طويلاً، لتتفكك وتنقبل إلى عداء إعلامي وحرب بالتصريحات ضد حلفاء إيران في العراق.

كل القوى السياسية تحدد أهدافها التي تتمركز حول تعزيز مكانتها في السلم السياسي، وتطمح إلى الارتقاء إلى أعلى السلم، لكن وسائلها مختلفة في الوصول إلى القمة، وباختلاف الوسائل تتبدل التحالفات وتتفكك.

بعض الأحزاب والقوى السياسية لديها ثوابت تريد تحقيقها حيث تظن أن التزامها بهذه الثوابت يبني لها مكانة خاصة، وهو ما يحاول التيار الصدري الالتزام به، بينما تعمل القوى الأخرى وفق منطق المصالح المتغيرة، وهو ما ينطبق نوعاً ما على رئيس البرلمان الحالي السيد محمد الحلبوسي.

وعلى هذا الأساس قد يتحرج السيد الصدر من قواعده الشعبية لذلك يحاول الالتزام تجاه هذه القواعد التي تضغط لصناعة مشروع سياسي ناجح، حيث ترجم مطالب قواعده بطرحه مشروع الأغلبية السياسية، بينما لا يجد الحلبوسي ضرورة ملحة لتبني هذا المشروع فجمهوره لم يتظاهر ضده، بل يصفق له ويدعمه من أجل البقاء مدة أطول، أي أنه لا يعاني من ضغط الشارع كما يعاني السيد الصدر.

وما دامت الساحة السياسية مليئة بالتفاهمات الجديدة وإمكانية فك الإلتزامات القديمة التي لم تعد صالحة للمرحلة الراهنة، فالتوافق والأغلبية سواء، المهم هناك من ينتخبه لرئاسة مجلس النواب ويعطيه بذلك دفعة قوية للأمام، وتعزيزاً لموقعه السياسي. الحلبوسي لم يخذل الصدر بل أن طريقته في التعاطي مع المتغيرات السياسية مختلفة عن طريقة السيد الصدر.

اضف تعليق