في مدينة لوزان السويسرية وفي الثاني من شهر نيسان 2015 وبعد مفاوضات وصفها البعض بالماراثونية توصلت إيران ومجموعة (5+1) إلى تفاهم مشترك بهدف التوصل إلى تسوية شاملة لمشكلة البرنامج النووي الإيراني بما يضمن الطابع السلمي للبرنامج ويسمح برفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، لم تكن تلك المفاوضات سهلة على الطرفين وكانت نقاط الخلاف بينهما عميقة لكن توافر القناعة والرغبة في الحل السلمي دفع الطرفين إلى التسليم بضرورة عقد اتفاق سياسي يجنب العالم أزمة حقيقية قد تؤدي إلى تفاقم التوتر في منطقة الخليج الذي يعاني من أزمات وصراعات تتشابك فيها المصالح الدولية بشكل واضح، وقد حدّد اتفاق لوزان نهاية حزيران 2015 موعدا لتوقيع الاتفاق النهائي والكامل لتسوية شاملة ونهائية لمشكلة البرنامج النووي الإيراني التي استمرت لمدة اثنتا عشر سنة تقريبا.

لم تتمكن الأطراف المتفاوضة من الالتزام بالموعد الذي حدده تفاهم لوزان وهو نهاية حزيران مما دفعهم إلى الاستمرار بالتفاوض حتى الثلاثاء الموافق 14 تموز، إذ أثمرت هذه المفاوضات عن التوصل إلى اتفاق وصفه دبلوماسي إيراني بأنه تأريخي ووصفه الرئيس الأمريكي أوباما بأنه أفضل اتفاق يمكن التوصل إليه مع إيران، وجاء في نص الاتفاق أن إيران والقوى العالمية الستة وافقت على آلية تسمح للوكالة الدولة للطاقة الذرية بالدخول إلى المواقع النووية المشتبه بها في إيران خلال 24 يوما، كما تضمن الاتفاق إقرارا صريحا من إيران بعدم السعي مستقبلا لتطوير سلاح نووي على أن تتمتع بكامل حقها في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، مقابل رفع مجلس الأمن للعقوبات المفروضة عليها بشكل كامل في كافة المجالات المالية والتجارية وحركة النقل البحري والجوي، على أن تلتزم بمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وحسب الاتفاق فإن لجنة مكونة من الدول المشاركة بالمفاوضات وإيران ستتشكل لمراقبة تنفيذ الاتفاق، تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فيما سيبقي الاتفاق النووي على حظر استيراد وتصدير الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إيران لخمس سنوات قادمة، كما إن عقوبات الأمم المتحدة المتعلقة بالصواريخ على إيران لن ترفع قبل ثماني سنوات بمقتضى الاتفاق، فضلا عن إن الاتفاق يسمح بإعادة فرض العقوبات خلال 65 يوما إذا لم تلتزم إيران بالاتفاق.

وعن مستقبل الاتفاق النووي وإمكانية تنفيذه والالتزام به، يمكن القول انه مازال في مراحله الأولى وتنفيذه بالكامل يتطلب إجراءات قانونية وفنية منها موافقة الكونغرس الأمريكي الذي ليس من المعلوم لحد الآن ما إذا كان سيوافق أو لا لذلك أعلن الرئيس الأمريكي أوباما بأنه سيستخدم حق الفيتو ضد أي معارضة لهذا الاتفاق من قبل الكونغرس، كما ان تنفيذ بنود الاتفاق يتطلب تشكيل فرق ولجان سياسية وقانونية وفنية مشتركة مابين إيران ودول 5+1، إذ توجد العديد من التفاصيل والجزئيات التي تحتاج إلى جهود ليست بالقليلة لإنجازها، ولعل مشكلة الزيارات التي ستقوم بها لجان التفتيش المتوقع تشكيلها إلى المواقع النووية والعسكرية الإيرانية ستكون الأبرز لأنها ستنطوي على عامل الاستفزاز والمماطلة مما قد يؤزم ويصعب من عملية القيام بهذه المهمة.

ولكن رغم ذلك لا اعتقد إن هذه العقبات البسيطة ستحول دون تنفيذ ما ورد في الاتفاق في وقت عكست تصريحات المسؤولين الإيرانيين والأمريكيين ترحيبا واضحا بهذا الاتفاق وكل طرف حاول أن يظهر بمظهر المنتصر وان يصوّر هذا الاتفاق وكأنه إنجاز عظيم ذو نتائج ايجابية كبيرة تصب في مصلحة دولته، لذلك فالدلائل تدفعنا إلى القول بأن هذا الاتفاق جاء ليطبق وليس التباهي أو الادعاء بتحقيق المكاسب والانتصارات، رغم وجود مواقف وردود أفعال معارضة لهذا الاتفاق بشدة كموقف إسرائيل التي أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بأن هذا الاتفاق خطأ تأريخي، في حين صرّح مصدر رسمي سعودي بالقول إن إيران ستصبح أكثر خطرا إذا انطوى الاتفاق على تنازلات لها، لأن هذه المواقف معروفة سلفا وليست بالجديدة وليست من المرجح أن تؤثر كثيرا بالقرار الأمريكي.

إن الظروف التي رافقت مراحل الإعلان عن الاتفاق أوضحت براعة المفاوض الإيراني وخصوصا وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي يتمتع بمؤهلات شخصية ودبلوماسية متميزة استطاع من خلالها كسب المزيد من الوقت والتنازلات من الطرف الآخر وإقناعه بأهمية التوصل إلى اتفاق وقد نجح في مهمته نجاحا واضحا، صحيح إن ما تواجهه الولايات المتحدة وأوربا من تحديات في منطقة الشرق الأوسط لم تكن مشجعة لها لاتخاذ مواقف متشددة أكثر تجاه إيران لكن القدرات التفاوضية لدى ظريف كانت عاملا مهما في تحقيق النجاح.

ولعل هناك من يتساءل، لمصلحة من يؤدي هذا الاتفاق النووي؟ والتأمل في بنود الاتفاق يعطي انطباعا أوليا إن ما ستحصل عليه إيران من مكاسب بعد تنفيذ الاتفاق يجعل منها الطرف الرابح الأكبر، فرفع العقوبات الاقتصادية عنها سيؤدي على الفور إلى رفع التجميد عن ما يقارب 80 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة وأوربا وكذلك سيسمح للشركات الأجنبية بالعمل والاستثمار في إيران وتطوير اقتصاده خصوصا في الجانب النفطي مما سيعطي دفعه منشطة للاقتصاد الإيراني الذي يعاني من ضعف بسبب العقوبات، كذلك سيتم رفع الحظر عن حركة الملاحة والطيران الإيراني إلى دول العالم المتعددة وهذا سيفتح الأبواب أمام إيران للعودة وبقوة إلى تفاعلات العلاقات الدولية كلاعب مؤثر، ولا ننسى تأثير هذا الاتفاق على الحروب التي تدور في سوريا والعراق واليمن، فالدور الذي تلعبه إيران في هذه الدول سيتأثر بشكل أو بآخر بهذا الاتفاق إذ من المتوقع أن تخفف الولايات المتحدة من موقفها الرافض للدور الإيراني في هذه الدول مما سيزيد من نفوذ إيران الموجود مسبقا في هذه البلدان، إذ طالما تحفظت الولايات المتحدة على هذا النفوذ مطالبة إيران بالكف عن التدخل في شؤون سوريا والعراق واليمن ولبنان، إلاّ أن هذا الاتفاق من المتوقع أن يغيّر من طريقة انتقاد الولايات المتحدة لهذا النفوذ الإيراني.

إن هذه المزايا التي سوف يضمنها الاتفاق لإيران لا يعني إن الطرف الآخر خسر الرهان بالعكس فقد حقق الغرب بقيادة الولايات المتحدة ما كان يطمح إليه من سنين طويلة وهو السيطرة على البرنامج النووي الإيراني وتحديده في الإطار السلمي وفرض قيود بقرارات دولية على هذا البرنامج من خلال فرض رقابة دائمة على المنشآت النووية الإيرانية بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية وبالتالي منع إيران من تصنيع أسلحة نووية قد تعرّض امن دول المنطقة للخطر وخصوصا حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل ودول الخليج، وهذا يعني إن هذا الاتفاق قد جنّب المنطقة حربا أخرى قد تشنها الولايات المتحدة على إيران لمنعها من صناعة قنبلتها النووية وقد قالها الرئيس الأمريكي صراحة في خطابه المتلفز عقب الإعلان عن الاتفاق عندما صرّح بأن (عدم الاتفاق يعني الحرب في الشرق الأوسط)، ولعل الاتفاق ينطوي على أهمية أخرى تكمن في توحيد الجهود وتنسيق العمل مابين إيران والولايات المتحدة من اجل إنجاح التحالف الدولي الهادف للقضاء على داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي تمثّل عدوا مشتركا للدولتين، وبالنتيجة قد يسرّع هذا الاتفاق من عملية القضاء على الإرهاب وخصوصا في العراق.

وبالنسبة لانعكاسات هذا الاتفاق على مجمل العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران فليس من المتوقع أن يتم تطبيع كامل العلاقات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية بين البلدين بسبب وجود مشكلات أخرى عالقة تؤخر هذا التطبيع مثلما أعلن الرئيس اوباما بقوله (إن الاتفاق لا ينهي جميع مشكلات الولايات المتحدة مع إيران) فهناك الخلاف الإيديولوجي مابين الدولتين والتي تجعل الولايات المتحدة تنظر إلى إيران كمعارض لسياستها في المنطقة، وهناك صراع إيران مع إسرائيل والعلاقات المتوترة مابين إيران والسعودية وهذه القضايا تنظر إليها الولايات المتحدة كعقبات تحول دون التطبيع الكامل لعلاقاتها مع إيران بسبب الضغوط القوية التي تتعرض لها من إسرائيل والسعودية التي طالما أعلنت الولايات المتحدة إنها مسؤولة عن الحفاظ على امن حلفائها في المنطقة.

ويبقى الأمل معقودا على هذا الاتفاق لتحقيق انتقالة كبيرة في الميادين كافة وخصوصا التخفيف من حدّة الأزمات التي تشهدها المنطقة والتي كان من أسبابها الرئيسية أجواء عدم الثقة مابين إيران وحلفاءها في المنطقة من جهة والولايات المتحدة وحلفاءها من جهة أخرى، ومن الممكن أن يؤسس هذا الاتفاق لتفاهمات أخرى تساهم في تغيير موازين القوى في المنطقة بما يضمن تحقيق الاستقرار المنشود.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق