ان التمسك بالقيم الدينية والاخلاقية بما ينعكس ايجاباً على المجتمعات الغربية، يكون مدعاة احترام واعتزاز، لاسيما اذا ترافقت الشخصية الاسلامية القوية مع الانتاج والابداع وإغناء المجتمعات الغربية بافكار اسلامية بناءة مستقاة من القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم وأهل بيته، عليهم السلام، تنشد السلام والمحبة والتسامح وجميع القيم الاخلاقية والانسانية...
في سالف الايام، كان من بين اولاد الجيران، فتى صغير يعيش على هامش الحياة، حيث لا دراسة ولا مهنة يشتغل بها، بسبب اختلال وضعه النفسي، مما كان يعرضه للسخرية والاستهزاء، فما كان منه إلا أن اعلن رغبته الجامحة للانضمام الى قوافل المغادرين الى الغرب طلباً للجوء؛ سواءً السياسي منه او الانساني، لا فرق، وعندما سألته ذات مرة عن الدافع لهذا القرار، قال بعفوية تامة: "هناك يحترمون الانسان".
كلام هذا الشاب اليافع يعكس شعور الآلاف من المهاجرين المسلمين الى الغرب، الذين قرروا اتخاذ البلاد الغربية موطناً بديلاً لاسباب منها؛ القمع والديكتاتورية، ومنها؛ الحروب الاهلية، الى جانب المشاكل الاقتصادية، ليجدوا هناك الحياة الافضل والاكثر أمناً ورفاهية.
هذه الاجواء الآمنة والمستقرة والاحتكام الى القانون والنظام، تحقق في الغرب بناءً على سلسلة من القواعد الفكرية اهمها؛ تبني الحرية الفردية الواردة في القاموس الليبرالي، والتي انسحبت ايضاً على حرية العمل، ولهذا المنجز الحضاري عوامل عدّة لسنا بوارد الخوض فيها، ولا في سلبياتها، إنما الشعوب، بل وطبيعة الانسان تبحث عن بصيص النور عندما تكون في ظلام الازمات القاتلة، مما يجعل البلاد الغربية ملزمة – اخلاقياً- بالتمسك بمبادئها وتوفيق القوانين المختلفة لديها مع هذه المبادئ الاساس، حتى وإن كان المستفيد ليس الانسان الاوربي او الاميركي، انما مهاجر مسلم، يقيم لديهم، لاسيما من اكتسب جنسية ذلك البلد.
ولذا نجد أن البلد الملتزم بهذه المعايير يعد نفسه النموذج الصالح للبلد الغربي المحافظ على القيم الليبرالية، وتكون المفخرة عامل تعزيز العلاقة بين المجتمع والدولة، فكما أن القوانين والاجراءات الحكومية تصون حقوق الانسان المسلم في عقيدته، فان الموطن في نفس المسار، عندما يكون على تماس مباشر مع المسلمين في المناطق السكنية، او ميدان العمل وفي الطرقات وغير ذلك.
"الاندماج" مطلب المتطرفين
على مدى اكثر من مئة عام، والمهاجرون المسلمون يعيشون في اوربا والولايات المتحدة، فضلاً عن بلاد اخرى في العالم، مثل البرازيل والارجنتين، أقاموا فيها واتخذوها وطنهم الثاني لاسباب كثيرة، وهناك مارسوا ادواراً هامة في تلكم البلاد وكانت لهم اسهامات في التطور العلمي والسياسي والاقتصادي، فكان منهم الطبيب والمهندس وايضاً السياسي في مراتب قيادية عليا، فضلاً عن المهنيين والعمال وهم بالملايين، ولم يحصل أن تحدث أحد عن فكرة اندماج هؤلاء المسلمون بالسكان في اميركا –مثلاً- او المانيا، او البرازيل، وغيرها من البلاد الغربية، وأن يذوب المسلمون في المجتمعات الغربية، فلا حجاب للمرأة، ولا اجتناب لبعض اللحوم والمشروبات، ولا التزام بالقيم الاجتماعية المعمول بها في البلاد الاسلامية، وغيرها كثير مما يشكل هوية الانسان المسلم، بل كان العكس تماماً، فقد شيدت المراكز والمؤسسات والجوامع، وانتشرت ظاهرة الحجاب وصلاة الجماعة بشكل محبب الى النفوس، بل وصل الامر الى أن نشهد انتشار ظاهرة جديدة من ظواهر الالتزام الديني في الغرب يتعلق بالطعام، وهي: "الحلال" مما يؤكد تفاعل وتفهّم الانسان الغربي للهوية الدينية للانسان المسلم.
نعم؛ بدأ الحديث عن الاندماج في المجتمع الغربي يتبلور ثقافياً ثم سياسياً في عقد الثمانينات من القرن الماضي، عندما احتوشت الهوية السياسية، الهوية الدينية للجاليات المسلمة في الغرب، بل وفي العالم بأسره، فالطقوس الدينية والالتزامات، بل حتى السلوك الشخصي، بات يعكس التوجه السياسي الأم – إن صح التعبير- لايران أو السعودية.
الامر الذي أعطى المبرر للتيارات السياسية المتطرفة في الغرب لأن تطالب بممارسة الضغط على المسلمين بالتخلّي عن هويتهم الدينية تجنباً للافرازات السلبية للتجاذب السياسي الشرق أوسطي المنعكس على حياة معظم المسلمين في الغرب، ولعل مصطلح "الارهاب" يكون أحد الملصقات الجاهزة التي فرضت على المسلمين في الغرب وهم منها براء، فالارهاب الحقيقي ما تمارسه الدول الديكتاتورية في الشرق الاوسط، وليس المسلمون من ابناء هذه الدول ممن هاجروا بدينهم وأرواحهم الى بلاد العالم الواسعة.
وبعد مضي سنين طوال من التوتر الشديد والضغوطات العنيفة تجرعها المسلمون في اوربا تحديداً، بدأت في الآونة الاخيرة بوادر صحوة ثقافية في الشارع الغربي لحقيقة الاسلام، وانه لايمثله الحكام، وإنما المسلمون، بمن فيهم العلماء والحكماء والمؤمنون المسالمون.
ومن الامثلة على ذلك يمكن الاشارة الى ما حصل مؤخراً في السويد عندما حصلت شابة مسلمة على تعويض مالي بعد أن توقفت لجنة توظيف في إحدى الشركات عن إجراء مقابلة عمل معها بسبب رفضها مصافحة رجل.
وحسب المصادر الاعلامية فقد قررت محكمة العمل السويدية، تعويض فرح الحاجي بمبلغ 40 ألف كرون، ألزمت الشركة بدفعها لأنها عاملتها بتمييز ولم تراع الحرية الشخصية الدينية التي تتجنب فيها النساء الملتزمات بالدين الإسلامي من الاتصال الجسدي بأي شخص باستثناء أفراد أسرتها المقربين.
وعندما نقلب تفاصيل الحدث، يتضح لنا مدى تفهّم الغربيين –السويديين على الاقل- للقضايا الانسانية بشكل لا يتنافى مع القيم الدينية والسماوية، فالشركة التي دافعت عن نفسها أمام دعوى الفتاة المسلمة، تذرعت بالمساواة بين الجنسين، وأن امتناع المصافحة يخدش هذه المساواة، وبالرغم من تأييد محكمة العمل السويدية لحجة الشركة، ولكنها رفضت ان تطبق المساواة في بشكل المصافحة بين الرجل والمرأة التي تخدش الهوية الدينية، وهي حقوق محمية بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وإن سياسة الشركة في المطالبة بتحية محددة تضر ببعض المسلمين - كما جاء في تقرير بي بي سي-، بما يعني أن العدل أعلى شأناً في حياة الانسان من المساواة، لانها تعطي كل ذي حقٍ حقه.
مواجهة التحديات لإظهار الاسلام الحقيقي
كثرت حالات الاضطهاد والتمييز بحق ابناء الجاليات المسلمة في الغرب خلال السنوات الماضية، وكانت المرأة والفتاة المستهدفين الاكبر في هذه المواجهة، لاسيما فيما يتعلق بالحجاب والمصافحة وكل ما يتعلق بالاختلاط مع الرجال في ميادين العمل والدراسة.
ان الاصرار على الالتزام بالهوية الاسلامية في الغرب، ليس مما يوصي به العلماء فقط، وإنما هو نداء الضمير والايمان في القلب، كما فعلت عدة فتيات من دول شمال افريقيا رفضن التخلّي عن الحجاب لقاء دخولهن الجامعة، او القبول بشروط مهينة لا تنسجم مع القيم الدينية، مقابل الحصول على فرصة عمل، والضغوط التي تمارسها بعض الدول ليست هيّنة، تصل الى حد حرمان الانسان المسلم من الجنسية، حتى وإن أمضى عشرات السنين من حياته في ذاك البلد، كما حصل في سويسرا مؤخراً عندما حرمت السلطات هناك زوجين مسلمين من الجنسية السويسرية والسبب؛ رفضهما مصافحة أشخاص من الجنس الآخر.
وكما الحال في الشركة السويدية، فان عمدة مدينة لوزان الواقعة على ضفاف بحيرة ليمان، يتذرع بالمساواة لتبرير قراره، فيما قال نائب العمدة الذي كان واحدا من ثلاثة أعضاء حضروا جلسة التجنيس الخاصة بالزوجين: بان "الدستور والمساواة بين الرجال والنساء يتفوقان على التعصب الأعمى"!
وهذه ليست المرة الأولى التي يؤدي فيها رفض مصافحة شخص من الجنس الآخر إلى إثارة الجدل في سويسرا، ففي العام 2016، قررت إحدى المدارس إعفاء طالبين مسلمين من مصافحة أساتذتهن، وأثارت القضية جدلا في البلاد وتم إلغاء الإعفاء في النهاية في أيار الماضي، وبعد شهر، تم تغريم والد مسلم مبلغ 3700 يورو لرفضه إرسال بناته إلى دروس السباحة في المدرسة.
من أمثال هذه الضغوطات التي يكون منشأها – على الاغلب- سياسي اكثر مما هو قانوني، يجدر بالمسلمين من ابناء الجاليات في الغرب بأن يوحدوا السلوك والاخلاق، مهما كان التنوع في الثقافات فيما بينهم، لان القضية تتعلق بهوية دينية وحضارية عامة، وليس بابناء بلد معين، والانسان الغربي ينظر الى الوافد من أي بلد اسلامي على أنه مسلم أولاً، ثم باكستاني او ايراني او عراقي او مغربي، من أي بلد آخر، ولذا فان التمسك بالقيم الدينية والاخلاقية بما ينعكس ايجاباً على المجتمعات الغربية، يكون مدعاة احترام واعتزاز، لاسيما اذا ترافقت الشخصية الاسلامية القوية مع الانتاج والابداع وإغناء المجتمعات الغربية بافكار اسلامية بناءة مستقاة من القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم وأهل بيته، عليهم السلام، تنشد السلام والمحبة والتسامح وجميع القيم الاخلاقية والانسانية.
اضف تعليق