السلطات العامة في العراق وعبر عقود من السنين مضت أهملت القيام بما يلزم لمواجهة تلك المخططات الهادفة إلى التوسع على حساب مصلحة الشعب العراقي، ما حرم الملايين من الناس من حقهم في الحصول على المياه الكافية أو اللازمة للزراعة لاسيما في محافظات الوسط والجنوب، ما تسبب بموجات هجرة كبيرة...

يعد الماء مورداً طبيعياً بيد أنه محدود بالنظر إلى كمية المياه الصالحة للاستهلاك البشري، ويعد الماء حاجة أساسية للحياة وبدونه سيفقد الإنسان حق التمتع بالصحة والسلامة الجسدية والنظافة الشخصية، فالحق في المياه حق إنساني وأساسي يضمن للفرد الحصول على كمية كافية من الماء، ويتصل هذا الحق بالفرد في حياته اليومية إذ يتعين ان يكون الماء بكميات (كافية، وآمنة، ومقبولة).

 ونقصد من قولنا كافية ان تكفي الفرد لسائر الاستعمالات اليومية في المنزل والمدرسة ومحل العمل للاستهلاك الشخصي كالشرب والطبخ والنظافة الشخصية، وأن تكون آمنة أي أن تخلو من التلوث الذي يتسبب بإصابة الإنسان بالأمراض المنقولة بالمياه أياً كان نوعها أو سببها، ومقبولة بمعنى أن يتيسر الحصول عليها مادياً ومكانياً كما تكون ميسورة التكلفة المالية وان تكون بمتناول الجميع عند استخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية.

 ولقد تم الاعتراف بحق الإنسان على مستوى العالم بالوصول إلى المياه للشرب وسائر الاستخدامات الشخصية والصرف الصحي بموجب المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعام 1966، المتضمنة الحق في مستوى معيشي ملائم، بما يفي بحاجتهم من الغذاء، والكساء، والمأوى، ولا يمكن فصل الحق في المياه عن الحق في العيش بأعلى مستوى من التمتع بالصحة الجسمية والنفسية والذي أشارت إلية المادة (12) من ذات العهد الدولي سالف الذكر، ولا شك ان هذا الحق يقترن بحقوق أخرى أخصها الحق في الحياة الحرة والكريمة أو ما يعرف بالكرامة المتأصلة في ذات الإنسان.

 وفي يوم 28/ تموز/2010 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً وصف بالتاريخي يعترف بالحق في مياه الشرب المأمونة أو النظيفة وبالمستوى المقبول من خدمات الصرف الصحي كمقدمة صالحة للتمتع بالحق في الحياة والصحة، حيث ورد في القرار ما نصه: ((تقر الأمم المتحدة بأن الحق في الحصول على ميـاه شـرب مأمونـة ونقيـة والـصرف الـصحي بات حقاً من حقوق الإنسان، ولا بد منه للتمتع التام بالحياة وبجميع حقوق الإنسان، وتهيب بالـدول والمنظمـات الدوليـة تقـديم المـوارد الماليـة وبنـاء القـدرات ونقـل التكنولوجيـا عـن طريـق المـساعدة والتعـاون الـدوليين، وبخاصـة للبلـدان الناميـة، بهـدف تعزيـز الجهـود الراميـة إلى تـوفير ميـاه شـرب مأمونـة ونقيـة يـسهل الحـصول عليهـا وميـسورة الكلفـة وتوفير الصرف الصحي للجميع)).

 وفي العام 2015 اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارا بذات الخصوص، وبمقتضى القانون الوطني أو الدولي تلتزم الحكومات بتحقيق الوصول الميسر إلى المياه لجميع المواطنين لاسيما الفئات الأشد حاجة إليها، وفي العراق ألزم على سبيل المثال قانون حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013 المعدل بالقانون رقم (11) لسنة 2024 الوزارات والهيئات الرسمية بجملة من الالتزامات التي من جملتها ما ورد بالمادة (15/ خامساً) بمعرض الإشارة الالتزامات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ((ز- إصدار التعليمات والضوابط اللازمة لتلبية متطلبات ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في تصاميم الأبنية قيد الإنشاء والموجودة وتهيئة أماكن خاصة لهم ....،ط- التنسيق مع الجهات ذات العلاقة لتوفير المتطلبات الحياتية والاجتماعية التي تسهل زج ذوي الإعاقة بالمجتمع بصورة طبيعية وفاعلة)).

 يشار إلى ان طيفاً واسعاً من الوثائق الدولية اعترفت بالحق في الماء ومنها الفقرة (2) من المادة (14) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة للعام 1979 والتي تنص على أن ((تكفل الدول الأطراف للمرأة الحق في التمتع بظروف معيشية ملائمة، ولا سيما فيما يتعلق بالإمداد بالماء))، وتشير الفقرة (2) من المادة (24) من اتفاقية حقوق الطفل للعام 1989 إلى التزام الدول الأطراف ((بمكافحة الأمراض وسوء التغذية عن طريق توفير الأغذية الكافية ومياه الشرب النقية)).

 فالمياه عامل أساسي للعيش ليس للإبقاء على قيد الحياة فحسب بل هو ضروري من أجل ممارسة الحقوق الاقتصادية كالحق في العمل والحقوق الاجتماعية كتأسيس الأسرة والحقوق الثقافية، كالحق في ممارسة الطقوس الدينية والحقوق البيئية والرياضية وغيرها من الممارسات اليومية، فمن يعمل في الزراعة أو تربية المواشي يكون بالنسبة إليه الماء ضروري للاستعمالات الشخصية والزراعية وكذا من يعمل في حقل الصناعة، ولا يكون ما تقدم بمجرد توفير المياه ليوم أو شهر أو سنة بل ينبغي ان تتوافر بشكل مستدام ليتحقق الأمن الشخصي للعاملين في الميادين المتقدمة بعبارة أخرى لا يكفي ان يكون الحق في الوصول إلى الماء إلا بالشكل الآتي:

أ‌- تأمين الوصول بشكل مستدام لمصادر المياه الصالحة للاستعمالات البشرية بكل صورها.

ب‌- تأمين الوصول المنصف لمصادر المياه بأن تتم عملية التنظيم لمورد الماء بشكل عادل ومنصف وبلا تمييز بما في ذلك التكنولوجيا المستعملة في إدارة مصادر وموارد المياه كتلك المستعملة في جمع مياه الأمطار وتخزينها ومن ثم استثمارها، وكذلك المياه الجوفية وغيرها من التطبيقات والى هذا المعنى أشارت المادة (114) من الدستور العراقي النافذ وهو بمعرض بيان الاختصاصات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات ((رسم سياسة الموارد المائية الداخلية وتنظيمها بما يضمن توزيعا عادلا لها، وينظم ذلك بقانون))، ويشمل مصطلح الموارد سائر مصادر المياه في العراق من الأمطار والثلوج والمياه الجوفية وغيرها. 

وبهذه المناسبة نشير إلى التزام الحكومة العراقية إزاء أبناء الشعب العراقي بتوفير مورد المياه للجميع بشكل عادل ومنصف ولذا يقع واجباً عليها التصدي لمحاولات دول الجوار العدوان على حصة العراق التأريخية من مياه نهري دجلة والفرات فقد أشار الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة (110) إلى ان من اختصاصات الهيئات المركزية أو الاتحادية الآتي: ((تخطيط السياسات المتعلقة بمصادر المياه من خارج العراق وضمان مناسيب تدفق المياه وتوزيعها العادل داخل العراق، وفقا للقوانين والأعراف الدولية)).

 بيد ان السلطات العامة في العراق وعبر عقود من السنين مضت أهملت القيام بما يلزم لمواجهة تلك المخططات الهادفة إلى التوسع على حساب مصلحة الشعب العراقي، ما حرم الملايين من الناس من حقهم في الحصول على المياه الكافية أو اللازمة للزراعة لاسيما في محافظات الوسط والجنوب، ما تسبب بموجات هجرة كبيرة جداً من مناطق الأهوار والقرى والأرياف نحو المدن والمحافظات الكبرى الأمر الذي صاحبه تمدد غير مسبوق على حساب المناطق الخضراء والأراضي الزراعية في محافظات بعينها، وبالنتيجة ان ما تقدم تسبب بتفاقم مسألة الاحتباس الحراري في العراق وتضاعف الطلب على الخدمات في المدن إلى الحد الذي تعجز اليوم الحكومات العراقية المركزية أو المحلية عن مواجهته، بل والأخطر أنه حرم العراق من الأمن الغذائي والزراعي وبات يعتمد على الاستيراد لمواجهة الطلب المحلي على بعض السلع الضرورية والمحاصيل الإستراتيجية.

 ونشير إلى ان التقصير الحكومي فيما تقدم يتنافى مع التزامات الحكومة العراقية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعام 1966 والذي تضمن التزاماً على الدول الأعضاء بموجب المادة الأولى منه والتي تنص على أنه (لا يجوز حرمان شعب "من وسيلة عيشه")، فلماذا لم تقاضي الحكومة العراقية الحكومة التركية أمام المحاكم الدولية أو تطلبها إلى التحكيم أو تمارس عليها ضغوطا دبلوماسية أو سياسية أو تستثمر صداقتها من الدول الكبرى في المجتمع الدولي للضغط على الحكومة التركية والسورية لضمان حق العراق التاريخي والقانوني المكتسب في تدفق الكميات الكافية من المياه عبر نهري دجلة والفرات؟ ولماذا تكاسل البرلمان العراقي في أداء دوره الرقابي فلم نسمع ان البرلمان استضاف أو ساءل وزير الموارد المائية بخصوص الخطوات الضامنة للحقوق العراقية في مورد المياه القادمة من خارج الحدود الوطنية خلال هذه الدورة البرلمانية على الأقل؟

إذ يتعين على الحكومة العراقية ان تطالب جيران العراق بالآتي:

1- احترام حصة العراق المائية كونها تمثل شريان الحياة في البلد لاسيما وان المادة (11) والمادة (23) من العهد الدولي السالف الإشارة إليه تشيران إلى التزام الدول الأطراف بالتعاون والمساعدة المتبادلة واتخاذ الإجراءات المشتركة أو المنفصلة لبلوغ الإعمال الكامل للحق في المياه.

2- حماية حصة العراق المائية من كل أشكال الاستغلال غير القانوني الذي يفضي مثلاً إلى تلويث المياه أو إنقاص الاستفادة منها بأي شكل من الأشكال، لذا يتعين على الجهات ذات العلاقة القضاء على ملوثات مياه الأنهار.

3- ضمان المساواة في الاستفادة من الموارد المائية داخل العراق.

ونشير في الخاتمة ان ضمان حق العراق والعراقي بالمياه يمر في جزء منه بالآتي:

‌أ- تيسير الانتفاع بالمياه بان تتخذ الخطوات اللازمة لضمان تدفق المياه إلى المواطن من خلال وزارة البلديات والأشغال العامة بإيجاد الإدارة الفاعلة لمشاريع تحلية المياه وامداداتها التي من شأنها ان توصل المياه إلى المواطنين لاسيما في المدن الكبرى مثل محافظة بغداد والبصرة وكربلاء التي تشهد حضور الملايين من المؤمنين لإحياء شعائر دينية في موسم الصيف بالعادة.

‌ب- التزام الحكومة بتعزيز الحق في المياه باعتماد استراتيجية إعلامية وبلدية مناسبة تتضمن اتخاذ الخطوات المناسبة لاستدامة المياه وعدم إهدارها بعبارة أخرى ورفع الوعي الشعبي بأهمية الإدارة الراشدة للمياه واعتماد أحدث التقنيات الخاصة بالتدوير والخزن لضمان تقليل الضائع من هذا المورد الحيوي.

‌ج- السعي الجاد وبالاستعانة بمنظمة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية وغيرها من المنظمات الدولية لشجب الممارسات غير العادلة من دول الجوار، والاستعانة بالأصدقاء في المجتمع الدولي والتحالفات الاقتصادية وغيرها من جماعات الضغط لضمان تدفق المياه إلى العراق بما يضمن المصلحة الوطنية للبلاد.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق