السؤال الابرز والمثير للجدل منذ سنوات، يدور حول كيفية تعامل الحكومة العراقية مع الفصائل المسلحة التي يتزايد عددها، ومستقبل تواجد القوات الامريكية في البلد؟ وبعد سقوط الموصل بيد داعش وبعض المدن الغربية، تصاعد النقاش في اغلب الاحيان الى صدام كلامي، بين مؤيد لبقاء الفصائل المسلحة بشكلها الحالي او حتى توسيع نطاق عملها، ورافض لوجود اي قوة تحمل السلاح خارج سلطة الدولة، ويقابله نبرة تصعيدية ضد القوات الامريكية وتهديدات باستهدافها.

الاصوات المؤيدة _ بصوت عالٍ_ لبقاء سلاح الفصائل العراقية تكاد تكون محصورة في الاطراف الموالية لايران تحديدا فالشيعة ورغم ما يرفعونه من شعارات التجيل والثناء لعناصر الحشد الشعبي تجدهم يقفون في صف الحياد من هذه المسالة المعقدة او يؤيدون في الخفاء لكن القرارات العلنية متروكة لقيادتهم العليا، اذ تمثل هذا التوجه مرجعية السيد علي السيستاني الذي دعا منذ اليوم الاول لفتوى الجهاد الكفائي ان يكون تطوع المجاهدين تحت راية الجيش العراقي والقوات الامنية حصرا، الا ان بعض الامور لم تجري على هذه الطريقة لاسباب لسنا بصدد الحديث عنها هنا. وفي الوقت عينه ترى المرجعية ضرورة الحفاظ على استقلالية العراق من اي وجود اجنبي لكن بنبرة هادئة.

وفي الجهة المقابلة تتمثل الكتلة الرافضة لحيازة السلاح خارج اطار الدولة، لدى القيادات السياسية "السنية"، التي تنادي وبقوة بنزع سلاح الفصائل العراقية المسلحة، بل وحتى تفتيت الحشد الشعبي وتوزيعه على مختلف وحدات الجيش العراقي من اجل ضمان عدم حصول تكتلات معينة داخل اطار المؤسسة العسكرية العراقي، والمبررات كثيرة في هذا المجال، ويسوق بعض الساسة بعض المزاعم حول انتهاكات في معركة تحرير تكريت تحديدا والتي اتهم الحشد الشعبي فيها بسرقة الاموال العامة، في الفترة التي كان الاعلام الخليجي فيها على وفاق تام.

ولا يخفى على احد ولا يمكن لاحد ان ينكر الدور الذي لعبت فيه فصائل الحشد الشعبي بتحقيق النصر على تنظيم داعش الارهابي، بل ان قيادات الحشد تقول والشعب العراقي في غالبيته يرى ان وجود الحشد كان الركيزة الاولى لتحقيق النصر، وبدونه ربما اعيدت تسمية العراق الى "دولة الخلافة"، فالحرب لم تكن تقليدية والهجوم الداعشي كان ايدلوجيا اكثر منه عسكريا وهو ما تطلب عناصر تتسلح بقوة العقيدة والايمان لهزيمة العقائد المنحرفة لداعش، وقد اخذ الحشد الشعبي بمختلف فصائل على عاتقه هذه المهمة ليحرر اخر شبر من ارض العراق ويعلن نهاية الاحتلال الداعشي.

اذن فالموجبات لولادة الحشد كانت منطقية وضروية للحفاظ على كيان الدولة العراقية في اكثر الفترات التاريخية خطورة، والنقاش الذي يجري هذه الايام اذا ما اردنا تفكيكه فهو ينطلق من نقطة محورية تتعلق ببناء الدولة التي كان الحشد الشعبي لاعبا اساسيا في الحفاظ عليها من السقوط والانهيار، وانصار الدعوة لدمج الحشد في القوات الحكومية يقولون ان ما يطلبونه ليس بغضا بالحشد بل رغبة في الاستمرار من حيث انتصر ابطال الحشد.

لكن في المقابل ترى بعض الفصائل المسلحة ان مرحلة الخطر لم تنتهي بعد وموجبات وجود قوة عقائدية موجودة لحد الان وفي تصاعد مضطرد وهو ما يعني بالضرورة ابقاء هذه القوة، كما ان بناء الدولة لا يتاثر بوجود هكذا تشكيلات ما دامت تتمتع بشخصية معنوية ضمنها لها القانون تحت مظلة "هيئة الحشد الشعبي"، رغم عدم التوافق التام عليها. ايضا هناك التواجد الامريكي الذي يزداد يوما بعد اخر يوفر حجة كافية لبقاء الفصائل المسلحة ما دامت تنادي برفض المحتل كونها ترى في الاتفاقات بين الحكومة وواشنطن مفروضة من طرف واحد بحكم القوة والهيمنة.

كل هذه المبررات سواء بالنسبة للفريق المؤيد لبقاء الحشد او الرافض له تبدو منطقية، ولسنا بصدد تقيمها بقدر ما نبحث عن الاسباب لتي تؤدي التي تصعيد الامور وايصالها الى مستوى الازمة التي قد تعصف في البلد، وهو التدخل الخارجي بمختلف مسمياته، الذي يزيد الامور تعقيدا ويسخن الاجواء بشكل كبير، وتوتر العلاقات الايرانية السعودية واعلان الاخيرة الحرب الشاملة ضد ايران ودعم واشنطن للرياض (وكيل واشنطن في احد مستويات الصراع) يفرض على ساسة العراق ان يفهموا ما يجري قبل فوات الاوان.

الولايات المتحدة الامريكية ترى في استمرار الحشد تهديدا لوجودها في العراق، وتعتبره جزء من المنظومة الايرانية، في الوقت الذي تريد هي حضورا طويل الامد في العراق، وهذا ما كشفته صحيفة وول ستريت جورنال الامريكية (الاربعاء 8 تشرين الثاني/ اكتوبر) في مقال مطول لها عن دراسات امريكية اكدت على ضرورة ابقاء القوات الامريكية لفترات ممتدة لسنوات.

وقبل اسابيع شهدت الساحة العراقية اكبر مستوى من المواجهة الايرانية الامريكية حول شرعية بقاء الحشد الشعبي، كان ابطالها وزيري خارجية البلدين على خلفية دعوة ريكس تيلرسون الى حل الحشد الشعبي وعودة المقاتلين الى بيوتهم، فيما رد عليه الوزير الايراني محمد جواد ظريف في تغريدة على موقع "تويتر" قال فيها متهكما "إلى أي بلد يعود العراقيون الذين نهضوا للدفاع عن أنفسهم لمواجهة جماعة "داعش"، متابعا أنه أمر "مخجل للسياسة الأمريكية المملاة من طرف البترودولار"، في اتهام مبطن على ان تصريحات تيلرسون مدفوعة الثمن من الرياض.

امريكا التي خسرت على حربها في العراق ترليونات الدولارات منذ عام 2003 وحتى الان لا يمكن ان تخرج بهذه البساطة كما تريد الفصائل المسلحة العراقية، وبالمقابل فان هذه الفصائل تجد من البقاء الامريكي الدعم الشعبي لها الرافض لهذه القوات الاجنبية فضلا عن رصيدها الكبير في الدفاع عن العراق يزيد من كفتها في تبرير استمرار حيازتها للسلاح.

المهم في المستقبل ان يفهم قادة العراق كيف يتعاملون مع هذا الواقع المتضاد بين قوتين كبيرتين محلية توفر الشرعية اللازمة لبقاء الحكومة وديمومتها واجنبية يمكن ان تمثل مظلة لحماية العراق في المحافل الدولية ولو باضعف الايمان.

.........................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق