سيرة السيدة أمِّ البنين تعلِّمنا أنَّ العظمة لا تُنال بالأقوال؛ بل بالأعمال، وأنَّ العلم والمعرفة هما مفتاح الفهم، والعمل الصَّالح هو طريق التَّطبيق، والمودَّة لأهل البيت هو نور يقود الإنسان إلى أعلى درجات الوفاء والفضيلة. ومن أراد أن يرتقي، وأن يترك أثرًا خالدًا، فعليه أن يسير على نهجها يزرع الفضائل...
المواقف العظيمة لا تولد من فراغ، ولا تنشأ مصادفة، فهي ثمار النُّفوس الكبيرة التي أعدَّت نفسها منذ البداية لتحمل الرسالة وإضاءة دروب الحقِّ. ومن يتأمَّل حياة السيِّدة الجليلة أمِّ البنين (عليها السلام)، يلمس بوضوح عمق الإيمان، وسمو الوفاء، وعلو المقام، ويتبيَّن أنَّ تلك المواقف الخالدة لم تأتِ إلَّا نتيجة أسس راسخة وأسباب متينة شكَّلتها روحها الطَّاهرة وعقيدتها الرَّاسخة. فهذه السيِّدة العظيمة لم تكن نموذجًا في الوفاء لأهل البيت (عليهم السلام) فحسب؛ بل كانت مدرسة في العلم، والحكمة، والتَّضحية، والصَّبر، والتَّربية.
فكيف وُلدَت تلك المواقف، وتكوَّنت تلك الجهود، وتجلَّت تلك الأعمال العظيمة؟
لقد كانت خلفها مجموعة من الأسباب العميقة التي صنعت تلك النتائج المشرقة؛ وأهمُّها:
السَّبب الأوَّل: المنبت الطَّيِّب
لقد أكَّد الرَّسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) على أهميَّة اختيار الزَّوجة الصَّالحة، مشدِّدًا على أصالتها ونسبها، فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ؟
قَالَ: المَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ فِي مَنْبِتِ السَّوْءِ"(1). فالمنبت الطَّيِّب هو الأساس الذي يُثمر صلاح الإنسان وصلاح ذريته.
وكانت السَّيدة أمُّ البنين (عليها السلام) من سلالة طيِّبة، فقد اشتهر أجدادها بالشَّجاعة، والكرم، والعطاء، والسَّخاء، وعزَّة النَّفس، وهي خصال تعكس نفوسهم النقيَّة وصفاء سريرتهم. وهذه النَّشأة كانت سرًّا من أسرار عظمة السيِّدة أمِّ البنين (عليها السلام)؛ إذ نشأت في بيئة أنبتت الفضائل في أعماقها، فانعكس صفاؤها في قلبٍ امتلأ مودَّةً وولاءً للعترة الطَّاهرة (عليهم السلام)، حتَّى غدت نموذجًا مضيئًا للوفاء والإخلاص. وقد ورد في الحديث الشَّريف عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: "سَمِعْتُ عَلِيّاً (عليه السلام) يَقُولُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ"(2).
وهذا الحديث يوضح أنَّ الإيمان الخالص والأصل الطَّيِّب هما من أهمِّ العوامل التي تُثمر المواقف الصَّادقة والخالدة، كما جسَّدته السيِّدة أمِّ البنين (عليها السلام) في حياتها.
لقد كانت السيِّدة أمُّ البنين (عليها السلام) تحمل في قلبها حبًّا جمًّا لإمامها الحسين (عليه السلام)، حبًّا جعله يتربَّع على عرش قلبها، متقدِّمًا على كلِّ شيءٍ آخر. وحين وقف النَّاعي بين يديها يحمل أنباء المعركة، لم تبادر بسؤالٍ عن مصير أبنائها الأربعة. وكان همُّها الأوَّل معرفة ما جرى للإمام الحسين (عليه السلام)؛ فهو مركز قلبها، وذروة ولائها، وكلّ ما عداه يأتي بعده.
وعلى العكس، إذا نشأت المرأة في منبت سيئ، فإنَّ النُّفوس القاسية غالبًا ما تسبقها الميل إلى بغض أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه الغيرة أو العداوة تصبح من أولى الذُّنوب والمعاصي الكبيرة التي تلوث النَّفس. ولذلك، عند مراجعة تاريخ أولئك الذين نصبوا العداء للمعصومين (عليهم السلام)، نجد أنَّ كثيرًا منهم افتقر إلى الأصل الطيِّب في النَّسب والحسب، وهو ما يوضح أنَّ المنبت الطيِّب هو أساس الحبِّ والوفاء والارتقاء.
والدَّرس المستفاد من هذه النقطة هو أهميَّة اختيار الزَّوجة أو الزَّوج من منبت حسن، فأساس الأسرة الصَّالحة يبدأ بالحجر الأوَّل: الإنسان الذي يحمل في ذاته الفضائل والأخلاق الرَّفيعة. فإذا أراد الإنسان أن يؤسّس بيتًا صالحًا ومجتمعًا مزدهرًا، فعليه أن يختار شريكة حياة أو شريك حياة من أصالة ونقاء، فالأم المؤمنة هي الأساس الذي يثمر الأبناء الصَّالحين، وتكون البداية الحقيقيَّة لكلِّ أسرة ترتقي بالحبِّ والإيمان والتربية الصَّالحة.
إنَّ صلاح المجتمع وصلاح الذرّية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمرأة الصَّالحة، فهي اللبنة المحوريَّة التي يُبنى عليها الخير في الأسرة والمجتمع. ومن هنا جاء تأكيد أمير المؤمنين (عليه السلام) لعقيل، حين قال له: "أبغني امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلامًا فارسًا"(3). في إشارة إلى أهميَّة النَّسب الشَّريف، فاختيار المرأة الصَّالحة لا يقتصر على الشكل أو الجمال؛ وإنَّما يشمل الأصالة الأخلاقيَّة والنَّفسيَّة، فهي التي تزرع الفضائل في المنزل وتغرس القيم الصَّحيحة في الأجيال القادمة.
السَّبب الثَّاني: بناء النَّفس.
والمقصود به ذلك التَّمهيد الذي يجعل الإنسان قادرًا على احتضان العلوم والمعارف الإلهيَّة، فالنَّفس التي لم تُهيَّأ من الدَّاخل لا تستطيع أن تحمل نورًا، مهما بلغ صفاؤه.
لقد كانت السيِّدة أمُّ البنين (عليها السلام)، قبل أن تدخل بيت أمير المؤمنين (عليه السلام)، امرأة ربَّت ذاتها تربية واعية، وزكَّت قلبها تزكية خالصة، حتَّى غدت روحُها موئلًا للإخلاص والصِّدق واليقين.
كانت تعرف أنَّ القرب من بيت الوحي يحتاج إلى قلبٍ نزيه، وعقل منفتح، وروح نقيَّة تتشرَّب العلم كما تتشرَّب الأرض الطيِّبة ماء السَّماء. ونحن ندرك أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يودع علومه في أيِّ نفس، فهو ميزان الله (سبحانه) الذي يختار لمعارفه مواضعها، ولا يضع أسراره إلَّا في أرواح قويَّة لا تضعف أمام ثقل الحقيقة. وحين رأى في هذه السيِّدة الطَّاهرة تلك القابلية العجيبة، وذلك الاستعداد الفطري والكسبي، بدأ يفيض عليها من علومه وأنواره، فكانت تُسقى العلم سقيًا، لا سماعًا عابرًا. وهكذا نمَت في داخلها أشجار الحكمة حتَّى أثمرت مكارم الأخلاق وروائع التَّضحية.
لقد كانت أصيلة في إيمانها، عميقة في معرفتها، عريقة في حسبها ونسبها، فاجتمع لها شرف النَّسب مع شرف الرُّوح، وسموّ العائلة مع سموّ الذَّات. وهذه العناصر مجتمعة هي التي مهَّدت لظهور تلك المواقف العظيمة التي بقيت تُخلِّد اسمها عبر التَّاريخ.
ومن هذا الضَّوء المشرق نتعلَّم أنَّ السيدة الجليلة أمَّ البنين (عليها السلام) قدوةٌ بتاريخها، وقدوةٌ بالمنهج التربويّ العميق الذي تقدِّمه لنا ولأولادنا: كيف نبني أنفسنا، وكيف نغرس في قلوب أبنائنا طاعة الله (تعالى) وطاعة المعصومين (عليهم السلام)، حتَّى يصبح الإيمان في داخلهم قوَّة دافعة ومسارًا واضحًا للحياة.
إنَّ البناء الحقيقي يبدأ بالعلم؛ فالعلم يفتح البصيرة، ويوقظ القلب، ويهدي الخطى. ثمَّ يأتي العمل ليترجمَ تلك المعارف على أرض الواقع. فالعظمة لا تُنال بالأقوال ولا بالشعارات، وإنَّما تُكتسب حين يتحوَّل العلم إلى ممارسة، والمبدأ إلى تضحية، واليقين إلى فعلٍ يثبت عند الامتحان.
ومن سار في طريق نصرة الله (تعالى)، وجعل طاعته محور حياته، تولَّاه الله (تبارك وتعالى) برعايته ونصره. وقد وعد (سبحانه) في كتابه الكريم وعدًا لا يتخلَّف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(4).
وهذا هو سرّ الارتقاء الذي بلغته أمُّ البنين (عليها السلام): علمٌ صافٍ، وعملٌ نقيّ، وقلبٌ ثابت، فصار اسمها مدرسة في الولاء، ونموذجًا يُهتدى به لكلِّ من يريد أن يربِّي نفسه وأهله ومجتمعه على طريق الله (جلَّ جلاله).
السَّبب الثَّالث: الدُّخول إلى مدينة العلم.
والمقصود هو الدُّخول إلى مدرسة الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) من الباب الذي وضعه وحدَّده لنا، وأكَّد عليه بقوله الشَّريف: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ الْبَاب"(5)، وهذه الحقيقة هي منهجٌ يحدّد الطَّريق لمن أراد بلوغ الوعي، وركوب سُلَّم المعالي، والوصول إلى أنوار المعرفة الإلهيَّة.
وقد دخلت السيِّدة أمّ البنين (عليها السلام) هذا الباب بصدقٍ وتسليم، فكان نصيبها من العلم والمعرفة نصيب الأرواح الطَّاهرة التي تُحسن التَّلقّي وتُتقن الفهم. درست في هذه المدرسة المحمديَّة العلويَّة دراسة القلب قبل دراسة العقل، فأصبحت من النساء العظيمات اللواتي بلغن من الفضل والكمال والوعي مرتبةً يندر بلوغها.
وحين يصفها بعض العلماء في مؤلفاتهم بـ "العالمة"، فإنَّما يشيرون إلى هذه المنزلة الرفيعة التي لم تُمنح في تلك العصور إلَّا لفئة نادرة جدًا، حيث لم يُلقَّب بهذا اللقب إلَّا عقيلة الطَّالبيين زينب الكبرى (عليها السلام). وهذا وحده يكشف عن مستوى الوعي الذي بلغته أمّ البنين (عليها السلام)، وعن مقدار ما نهلته من علوم أمير المؤمنين (عليه السلام)، حتَّى صارت مثالًا للمرأة التي تفتح قلبها لباب العلم فيفيض عليها نورًا ووعيًا وتضحيةً لا حدود لها.
لقد اغترفت أمُّ البنين (عليها السلام) من منابع الطَّهارة بأصفى ما يكون؛ فتعلَّمت الصدق من الصدِّيق الأكبر أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ ذلك الصدق الذي لا يعرف التلوّن ولا يخضع لضعفٍ أو خوف. وتعلَّمت الوفاء من سيِّد الأوصياء، ذلك الوفاء الذي يجعل الإنسان ثابتًا في العهد، راسخًا في المسؤوليَّة، لا يتخلَّى عن الحقِّ مهما كانت التضحيات. أمَّا حبّ الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد شربته من نبعٍ لا ينضب، من قلب والد السبطين (عليه السلام) الذي كان يربِّي أبناءه وأهله على أن يكون الإمام الحسين (عليه السلام) روحًا تُعانَق، لا مجرَّد إمامٍ يُطاع.
ومن كان في قلبه حبُّ أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فقد فتح الله (تعالى) له أبواب البركة والخير. فالإمام الحسين (عليه السلام) باب الرَّحمة، ومن أحبَّه جعل الله (تعالى) في قلبه نورًا لا يُطفأ. وقد ورد في الحديث الشَّريف: "مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ الْخَيْرَ قَذَفَ فِي قَلْبِهِ حُبَّ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) وَحُبَّ زِيَارَتِهِ"(6).
وهكذا امتلأ قلب أمِّ البنين (عليها السلام) حبًّا للحسين (عليه السلام)، فصار كلُّ ما قدَّمته من تربية، وموقف، ودمعة، وتضحية، امتدادًا لهذا الحبِّ الإلهي الذي يحوّل الإنسان إلى نور يمشي على الأرض.
ولذلك، من أراد أن يعتلي مراتب العُلا، وأن يصعد سلَّم المعالي، فعليه أن يزداد تعلقًا بحبِّ الإمام الحسين (عليه السلام)، وأن يقدِّم كلَّ ما يملك في سبيل نصرة سيِّد الشهداء (عليه السلام).
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ؛ وإنَّما استقت أمُّ البنين (عليها السلام) من معين أمير المؤمنين (عليه السلام) علم الغيب وأسرار القدر، فتعلَّمت منه قضايا الغيب وعلم المنايا والبلايا، حتَّى أُوحي إليها بأسرار عظيمة تكشف ما سيحدث لأهل بيتها الكرام. وعرفت قبل وقوعه مقتل أولادها الأربعة، وأُخبرت بالطَّريقة التي سيستشهد بها أبو الفضل العباس (عليه السلام)، ومع ذلك لم تتردّد ولم تحزن، وأعلنت بقلبها ولسانها: كلُّ ما أملك فداء للإمام الحسين (عليه السلام).
هكذا أوضحت أمّ البنين (عليها السلام) نموذج الإيمان الرَّاسخ، والولاء المطلق للمعصومين (عليهم السلام)، فكان حبُّها وتضحيتها امتدادًا للعلم الغيبي الذي تلقت، وتحقيقًا لمقامها الرَّفيع بين النِّساء الصَّالحات.
لذلك، ينبغي للمرأة اليوم أن تتعلَّم، وتعرف، وتدرس، حتَّى تستطيع شقَّ طريقها نحو العظمة الحقيقيَّة. فالعلم هو جسر الطاعة لله (تبارك وتعالى)، بينما الجهل يفتح أبواب المعصية. ولكي ترتقي الروح وتبلغ المراتب الرَّفيعة، عليها أن تنهل من علوم أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ الإنسان الذي يسير بلا علم يفسد أكثر ممَّا يصلح، أمَّا من يسير وفق العلم فيزرع الخير ويعمّره في كلِّ مكان.
وهذا ما تعلَّمناه من السيِّدة أمِّ البنين (عليها السلام). فكما أنَّ المرأة تعتني بمظهرها الخارجي وما يتعلَّق به، عليها أن تولي اهتمامًا أكبر للقضايا المعنويَّة والدِّينيَّة، فهي جوهر العظمة، وعليه يقوم البناء الحقيقي للفرد والمجتمع. صحيح أنَّه من الصَّعب أن تتكرَّر امرأة بمثل مكانة أمِّ البنين (عليها السلام)، ولكن يسهل على كلِّ امرأة أن تسير على خطاها، مستلهمةً من وفائها وإخلاصها.
والواقع أنَّ المرأة اليوم تمتلك كلَّ التقنيات التي تمكّنها من التَّعلم والمعرفة، ولكن المشكلة تكمن في عدم استثمار هذه الفرص. فلماذا لا تستغل المرأة هذه الوسائل لتتعلَّم القرآن الكريم، ولتعرف من هم أهل آل محمَّد (عليهم السلام)، وتدرك حقّهم؟ فالواقع المحزن أنَّ نسبة لا يستهان بها من النِّساء؛ بل وحتَّى الرِّجال، لا يعرفون شيئًا عن بيت النبوَّة (عليهم السلام): متى وُلد الإمام؟ ومتى استشهد؟ في حين أنَّ معرفتهم (عليهم السلام) واجبٌ أصيل وحقٌّ من حقوقهم.
وقد جاء في الحديث الشَّريف عن الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: "الْزَمُوا مَوَدَّتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَوَدُّنَا دَخَلَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْفَعُ عَبْداً عَمَلُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ حَقِّنَا"(7).
إنَّ هذا الحديث يُظهر أنَّ معرفة أهل البيت (عليهم السلام) هي طريق النَّجاة، وسبيل التَّوفيق في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ العلم والعمل معًا هما أساس العظمة الحقيقيَّة، كما عكسته أمُّ البنين (عليها السلام) في حياتها.
وعن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية: "(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)(8)، قال: "... هم آل محمَّد (عليهم السلام) لا يدخل الجنَّة إلَّا من عرفَهم وعرفَوه، ولا يدخل النَّار إلَّا من أنكرَهم وأنكرُوه"(9).
إنَّنا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التَّعرف على أوصياء النَّبي محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، والاقتداء بهم (عليهم السلام) في القول والعمل، لنقترب من معاني الإيمان الحقيقيَّة، وننال البركة في حياتنا وفي مستقبلنا الأبدي.
لقد أدركت السيدة أمُّ البنين (عليها السلام) قيمة معرفة أهل أصحاب الكساء (عليهم السلام)، وفهمت من هم بحقّ، وما هي مكانتهم في الدِّين والحياة. ومن هذا الوعي العميق انبثقت مواقفها الخالدة، التي لم تقتصر على زمنها؛ بل ستظل منارة مضيئة تُرشد الأجيال إلى يوم القيامة، شاهدة على إخلاصها، وثباتها، ومودَّتها المطلق لسادة الهدى (عليهم السلام).
السَّبب الرَّابع: الدِّفاع عن الإمامة الإلهيَّة.
الدِّفاع عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، والتَّضحية في سبيلها، هو شرف الرِّسالة الذي ينهض به المؤمنون والمؤمنات بكلِّ إخلاص. وكانت السيدة أمُّ البنين (عليها السلام) من أولئك الذين حملوا هذا الواجب على كتفٍ ثابت وقلبٍ مطمئن. وقد تجلَّى هذا الدور العظيم في دفاعها الحازم، وذودها المتين عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، يوم كانت الكلمات مواقف، والمواقف شهادات تُكتب بالنور، وفي فضحها لأعداء الله (تعالى) وأعداء رسوله (صلَّى الله عليه وآله)، مظهرةً بذلك شجاعةً وإخلاصًا وروحًا فذة، جعلتها نموذجًا يُقتدى به في الوفاء والنُّصرة والولاء المطلق لآل العصمة (عليهم السلام).
لقد أظهرت السيدة أمّ البنين (عليها السلام) تلك المهمَّة العظيمة بأبهى صورها، فقد فهمت معنى قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): "اللهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ"(10). وهذا القول العظيم كان منهجًا للحياة، وميثاقًا للوفاء. وعن طريقه أدركت أمُّ البنين واجب الولاء التام للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وواجب الدِّفاع عن دين الله (تعالى) وفضح أعدائه. فكان قلبها ثابتًا، وعزمها صلبًا، وروحها متوقدة، حتَّى صارت مثالًا حيًّا للإخلاص المطلق الذي يترجم القول إلى عمل، والحبَّ إلى تضحية.
لقد نصرت أمُّ البنين (عليها السلام) الإمام عليًّا وأولاد عليٍّ (عليه السلام)، وعرفت أنَّ رضاهم طريق رضى الله (تعالى)، وأنَّ من أراد الله (سبحانه وتعالى) ابتدأ بهم (عليهم السلام)، وأنَّ الأعمال لا تُقبل إلَّا بولايتهم (صلوات الله عليهم)، فكانت تحرص على رضاهم؛ وبذلك، وصلت أمُّ البنين (عليها السلام) إلى مرتبة الفقه بأبعادها وأركانها، وأقصد بالفقه هنا العلم الغزير، والمعرفة العميقة، والحكمة الرَّشيدة، فالفقيه الحقيقي هو من يجمع بين فهم الدِّين ومعرفة مقاصده، (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(11)؛ لأنَّها تفتح له أبواب الفهم والتمييز، وتمكِّنه من السَّير في طريق الحقِّ بثبات.
إنَّ سيرة السيدة أمِّ البنين (عليها السلام) تعلِّمنا أنَّ العظمة لا تُنال بالأقوال؛ بل بالأعمال، وأنَّ العلم والمعرفة هما مفتاح الفهم، والعمل الصَّالح هو طريق التَّطبيق، والمودَّة لأهل البيت (عليهم السلام) هو نور يقود الإنسان إلى أعلى درجات الوفاء والفضيلة. ومن أراد أن يرتقي، وأن يترك أثرًا خالدًا، فعليه أن يسير على نهجها: يزرع الفضائل في نفسه، ويغرسها في أولاده، ويجعل العلم والعمل منهجًا لحياته، ليصبح اسمه محفورًا في ذاكرة التَّاريخ، كما حفرت أمُّ البنين (عليها السلام) اسمها بمداد الوفاء والإيمان والصِّدق المطلق.



اضف تعليق