الكتابة وسيلة فكرية أخلاقية يمكن الاستعانة بها من قبل الإنسان لكي يطوّر نفسه، أفكاره، رؤاه، ونظرته إلى الحياة، وكيفية التعاطي معها، والأمة التي لا يوجد فيها علماء ومؤلفون وكتّاب، لا يمكن أن ترتقي وتتطور، لأنها سوف تبقى تراوح في مكانها، بسبب غياب الأفكار الجديدة والمعارف المتجددة، والسبل التي يمكنها أن تغيّرها نحو الأحسن...
(يفترض بالكاتب أن يحمل خزيناً واسعاً من المعلومات)
الإمام الشيرازي
تطمح الأمم كلها إلى الارتقاء والتطور المستمر في الحياة، وهذا صنع نوعا من المنافسة الطبيعية بين البشر، ويبقى التفوق رهنا بسعي الناس وما يبذلونه من جدّية وعمل دؤوب يجعلهم في المقدمة دائما، ومن عوامل وأسس ارتقاء الأمم والشعوب عامل الكتابة، حيث تكون سببا مهمّا وأساسيا في هذا المضمار.
الكتابة وسيلة فكرية أخلاقية يمكن الاستعانة بها من قبل الإنسان لكي يطوّر نفسه، أفكاره، رؤاه، ونظرته إلى الحياة، وكيفية التعاطي معها، والأمة التي لا يوجد فيها علماء ومؤلفون وكتّاب، لا يمكن أن ترتقي وتتطور، لأنها سوف تبقى تراوح في مكانها، بسبب غياب الأفكار الجديدة والمعارف المتجددة، والسبل التي يمكنها أن تغيّرها نحو الأحسن.
إن الإسلام كما هو معروف وضع القواعد والأحكام الصحيحة التي نظّمت حياة الفرد والجماعة بما يتناسب وطبيعة المرحلة، لذلك ارتقت أمة المسلمين، وبنت دولتها القوية الناجحة وبنيتها الاجتماعية الجيدة، ولكن هنالك أسباب معروفة ومحددة تدخلت بالضد من تلك القواعد الصحيحة، منها المؤامرات التي حيكت ضد المسلمين من خارج الحدود، والتدخل الإعلامي الخبيث، وكذلك التطبيق المنحرف للأحكام والتعاليم الإسلامية، هذا الشيء حدد حركة التقدم ومساره الذي كان موجودا ابان الرسالة النبوية.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يبيّن لنا في كتابه الثمين (القطوف الدانية/ الجزء الرابع) أهمية الكتابة للإنسان ويوضح أسباب الحاجة للكتابة فيقول في إجابته عن السؤال المهم لماذا نكتب:
(هذا يتعلق بما تفرضه طبيعة المرحلة التي نعيش فيها؛ إذ أنّ الاسلام جاء متكاملاً، ووضع في مصادره، من الكتاب والسنّة، كل ما يحتاجه الإنسان والأمة. ولكن فعل المؤامرات الخارجية، والتضليل الإعلامي، والتطبيق الخاطئ لمبادئ الإسلام من البعض، جعل المرحلة تفتقد تلك الحيوية والخصوبة).
لقد صنع الإسلام أناسًا أحرارا في مطالع انطلاق الرسالة النبوية، حيث كان للرسول صلى الله عليه وآله فضلا على مجتمع الجزيرة، عندما بث في عقولهم موجات متجددة من الوعي، وأصبحوا يتعاطون مع الحياة الجديدة بما يضمن لهم التقدم والتطور والارتقاء بسبب تطور رؤيتهم للحياة، فكان انبثاق الرسالة النبوية لحظة تأسيس لدولة قوية ومجتمع متطور.
مقاييس التفاضل بين الناس
لكننا اليوم نعيش حالة أخرى، حيث بات الإنسان مقيّدا ومكبّل العقل والتفكير، ولم تعد التقوى هي مقياس التفاضل بين الناس، بل أصبحت هناك مقاييس ومعايير أخرى حلَّت محل التقوى، فصارت من أكبر العوائق التي أعاقت تقدم وتطور المسلمين، ومن هذه العوائق استبدال مقياس التقوى بمقاييس خاطئة مثل القومية، والنعرات الطائفية، وحتى اللغة، صارت مقياسا للأفضلية، فأدى ذلك إلى تراجع المسلمين إلى الوراء بدلا من مواصلتهم التقدم والتفوق على الآخرين.
إن عملية التشاحن بين البشر، لا تصب في صالح أحد، بل على العكس من ذلك، فهي تعيق عمليات التطور والتفوق والارتقاء، ولا أحد يستفيد من النزاعات الفكرية، أو العنصرية، أو الطائفية، بل يحدث العكس حين تغيب الألفة بين بني البشر، وتقلّ التقوى ولا تبقى كأساس تعتمد عليه الناس لاختيار الأفضل من بينهم.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(إن الإنسان الحرّ المنطلق الذي أوجده الإسلام صار مكبّلاً ومقيداً ومن ذلك أن مقياس التقوى الذي جعله القرآن الكريم مقياساً للكرم والفضل بقوله سبحانه: {إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ}. هذا المقياس بات اليوم هو القوم واللغة والنعرات الطائفية).
لذا يحتاج المسلمون إلى الكتابة وتأليف الكتب كوسيلة للارتقاء الفكري والعلمي والأدبي والديني وفي المجالات كافة، فلا يمكن التفريط بالكتابة، لأنها تقوم بمهمة صنع الأفكار الجديدة وتحويلها من عقل الكاتب أو المؤلف أو العالِم إلى العقل الجمعي الذي تمثله عامة الناس، فالكتابة هي الوسيط الصحيح والمهم بين الارتقاء والتقدم وبين عامة الناس.
لهذا يجب أن يتحلى الكاتب بالعلمية العالية وبامتلاكه ثروة كبيرة من الأفكار الجديدة والمفيدة والمبتكَرة، ويجب أن يمتلك متابعة جيدة للمستجدات، وعليه في ذات الوقت أن يتناول القضايا الحيوية التي تُسهم بقوة وفاعلية في عملية التقدم والارتقاء، لاسيما أننا نمتلك القدوة والأسوة المتمثلة بأهل البيت عليهم السلام، وما على الكاتب إلا أن يوصل لعموم الناس الأفكار الإسلامية السديدة التي يمكن أن ترتقي بعقول الناس وتضاعف من وعيهم وثقافتهم ورؤيتهم الصحيحة للحياة.
لذا يجب إيصال هذه الطاقة الفكرية الإيجابية التي يطرحها الإسلام ليس إلى المسلمين وحدهم، بل إلى عموم البشرية، لأن الحاجة الصحيحة إلى العلم والمعرفة الجادة، وسبل الارتقاء لا تتعلق بالمسلمين وحدهم، بل يجب إيصال ذلك إلى البشرية كلها، كونها تشترك معنا في هذا الكوكب الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الاستقرار والانشغال بما ينفع ولا يضر، وهذا يرتبط بقيمة وحجم المعلومات والأفكار المهمة التي يمتلكها الكاتب.
يقول الإمام الشيرازي:
(من هنا يفترض في الكاتب أولاً أن يحمل خزيناً واسعاً من المعلومات، وثانياً: عليه أن يكتب في المسائل الحيوية، التي تهدف إلى استنهاض الأمة من جديد).
وظائف العقل المسعِف
إن الكاتب يحتل هنا مكانة العقل المسعِف الذي يفتح الآفاق والمسارات الصحيحة للناس، لأن العقول غير المطّلعة وغير المتعلمة، تبقى تدور حول نفسها وقد تتراجع إذا لم يكن هناك عقل يسعفها، ويدلّها على سبل الصواب، هنا بالضبط تكمن أهمية العقل المسعِف، الذي يفتح الأبواب العلمية والمعرفية الصحيحة أمام عقول العامة ويرتقي بها.
وهناك نقطة في غاية الأهمية وهي على الكاتب الإسلامي أن يفتح الآفاق أمام البشرية، ولا يقتصر اهتمامه بالمسلمين وحدهم، فالإنسان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق كما قال الإمام علي عليه السلام، وطالما أنك تشترك مع الجميع في المساحة المكانية والجغرافية، فتقع عليك مسؤولية نقل الأفكار والعلوم الإسلامية الصحيحة لجميع الناس، حتى يتم إلغاء الفكرة الخاطئة عن الإسلام بسبب حملات التشويه التي تعرّض لها ولا يزال:
لذا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(على الكاتب أن يرسم القدوة للأمة استناداً إلى سيرة نبيها العظيم صلى الله عليه وآله، وأئمتنا المطهرين عليهم السلام، وإيصال المفاهيم الإسلامية وتعاليم الإسلام السمحاء إلى أقصى نقطة في العالم، لتبديل الفكرة السلبية التي روّجها أعداء الإسلام، عن الإسلام والمسلمين، وتوضيح الغموض السائد اليوم حول الإسلام وتعاليمه).
كذلك مطلوب من الكاتب أن يوضّح للجميع بأن الإسلام هو دين السلام والحرية، وهو أيضا منبع الأخلاق التي ترتفع بالإنسان عاليا، وتجعله في أعلى الدرجات الإنسانية في تعامله وتسامحه وتعاونه مع الآخرين.
أما إذا تم البحث عن صحة ما يمثله الإسلام من صفاء ونقاء وارتقاء للإنسان، فهذا يمكن العثور عليه في شواهد كثيرة، منها قربه والتصاقه بفطرة الإنسان، ومن الشواهد أيضا، أن المجتمعات التي وصل إليها الإسلام سرعان ما قامت باعتناقه كدين لها، وهذا دليل واضح وقاطع في نفس الوقت.
يقول الإمام الشيرازي:
(مما لا شك فيه أنّ الدين الإسلامي دين السلام والحرية، والأخلاق الفاضلة، والعلم والتقدم، وفوق هذا كله، فهو دين الفطرة السليمة. والشاهد على ذلك أن الدين الإسلامي ما وصل إلى بقعة من الأرض إلّا واعتنق أهلها الإسلام طواعية، إلّا المعاندين والمغرضين، فهؤلاء عرفوا الحق وانحرفوا عنه).
في الخلاصة نصل إلى أن الكتابة في غاية الأهمية للإنسان (فردا ومجتمعا)، حتى يمكنه استقبال الجديد من الأفكار والعلوم والمعارف التي ترتقي به عاليا، وتجعل من حياته منظّمة صحيحة ومستقرة على الدوام.



اضف تعليق