q

دائماً يتصور الطغاة والمستبدون، أنهم منتصرون بالسيف والمال والجند، كما هو حالنا اليوم، حيث تنوعات الامكانات وتضاعفت القدرات المادية لتجعل الحاكم بين أبناء شعبه، أكثر من طاغية وديكتاتور ومستبد بالرأي، ليصل الى درجة العصمة وحتى الدفع به نحو السماء...! بالكلمة الكاذبة والمديح الباطل. لذا نجد كلمة الحق والصدق، هي السلاح الذي يخافه هؤلاء على طول الخط، لانه الوحيد الذي يفضح حقيقتهم الجوفاء، لذا يحاولون بشتى الاساليب إخماد هذا الصوت، او التشويش عليه حتى لا يصل الى اسماع الناس وقلوبهم، و إن اقتضى الأمر استخدام العنف بوحشية او القتل غيلة.

مكفوف البصر يفضح الحاكم

بعد يوم واحد فقط على واقعة الطف، وحيث كان عبيد الله ابن زياد، يسعى للظهور كمنتصر أمام الناس في الكوفة، وتحديداً بعد خطابات عاصفة واجهها من أهل البيت، عليهم السلام، متمثلين بالامام زين العابدين وعمته العقيلة زينب وأم كلثوم، عليهم السلام، وفي مجلسه أمام جموع أهل الكوفة، حيث أماطوا اللثام عن واقعه الفاسد وانحرافه الفاحش عن الدين. اختلى بالجموع وصعد المنبر لترميم هيبته واستعادة شخصيته كونه الأمير المنصّب من "الخليفة" في الكوفة، فقال مما قاله:

"الحمد الله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر الأمير يزيد وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب...."!! فما زاد عن هذا الكلام شيئاً، إلا نهض اليه من وسط المجلس رجل طاعن في السنّ، مكفوف البصر، وهتف بأعلى صوته:

"يا ابن مرجانه...! ان الكذاب ابن الكذاب، انت وأبوك ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله...! أ تقتلون ابناء النبيين، وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين".

كانت هذه الكلمات المفاجئة، التي لم يتوقعها ابن زياد في الكوفة في تلك البرهة الزمنية، بمنزلة السهام التي صوبت اليه، فاستشاط غضباً، وسأل عن هوية المتكلم، فقيل له: انه عبد الله من عفيف الأزدي. ولعله يجهل هذه الشخصية، بيد ان التاريخ يذكر انه من خيار اصحاب أمير المؤمنين، عليه السلام، وقد لازمه في حروبه الثلاث، حتى فقد عينه اليمنى في الجمل، واليسرى في صفين، فبقي ملازماً المسجد، يصلي ويعبد الله – تعالى- والايمان يملأ قلبه، حتى جاء المواجهة الكبرى بين الحق والباطل. ومن أقوى الاحتمالات أن يكون هذا التابعي الجليل ممن كتب الى الامام الحسين، عليه السلام، ويعده صدقاً بأن يبايعه خليفة للمسلمين، لدى وصوله الى الكوفة. وربما هنالك آخرين على نفس الموقف، ولم تسنح لهم الفرصة بالظهور أمام الامة آنذاك، والتاريخ، بيد أن السعادة الأبدية كانت من نصيب هذا الانسان العظيم، الذي تجاوز حالة العوق بكل ثقة واعتداد، فهو لا يتمكن من نصرة الحق بيده، إلا انه يتمكن بلسانه عندما يسمع يواجه الباطل وهو يزعق في اوساط الامة.

وقد قالها أمام ابن زياد عندما اعتقله الجلاوزة و أتوا به، بأني كنت اتمنى الشهادة في جبهة الحق الى جانب الامام علي، عليه السلام، وبعد تعرضي للعوق بعيني، يئست منها، وقد دعوت الله – تعالى- بأن أرزق الشهادة قبل ان تلدك أمك، وان تكون ذلك على يد ألعن خلقه وأبغضهم اليه. والآن؛ أحمد الله على ان زرقني الشهادة بعد اليأس منها.

كم من اصحاب الامام علي، عليه السلام، الذين كانوا معه في معاركه الثلاث مع الناكثين والمارقين والقاسطين، وقد شهدوا واقعة الطف، او كانوا في الكوفة يومذاك؟ وأين هم من عبد الله بن عفيف الأزدي الذي نال الشهادة وهو مسرور بتحقيق مبتغاه؟ لم يسجل لنا التاريخ موقفاً بطولياً كالذي نقرأه عن هذا الصحابي البطل، وإلا لبرز وسطع وسط الظلام الدامس من الحياة التي عاشها المسلمون آنذاك. وما يؤكد ذلك؛ خلود مواقف بطولية، ليست من رجال إنما من نساء، مثل "طوعة"، تلك المرأة، التي كانت بين آلاف النساء في الكوفة، تميزت فقط لأنها آوت مسلم ابن عقيل في تلك اللحظة التاريخية والمصيرية. وكذلك تجدر الاشارة الى امرأة في سياق حديثنا عن هذا البطل، وهي ابنته الشابّة التي لم يذكر لنا التاريخ اسمها، ولكن موقفها البطولي ورباطة جأشها ما من شأنه ان يعطي دروساً بليغة وعظيمة للأجيال.

ليتني كنت رجلاً...!!

بعد ذلك الرد الشجاع من عبد الله ابن عفيف الأزدي في وجه ابن زياد وأمام الناس، وقبل ان يصل اليه الجلاوزة، تمكن اصحابه وابناء عشيرته من اخراجه من المسجد والانطلاق به الى منزله، فلحقوا به لاعتقاله، وبعد معارك دامية بين أنصار الأزدي من عشيرته، وبين جلاوزة ابن زياد، اقتحموا عليه الدار، فلم يكن معه في الدار سوى ابنته.

لنتصور الموقف...! شيخ طاعن في السنّ، ومكفوف البصر، ومعه ابنته الشابّة، ثم يتم اقتحام الدار لاعتقال الرجل وقتله، ما يكون موقف هذه الفتاة...؟!

بدلاً من ان نخوض في الحديث عن الحالة النفسية والتركيبة السيكولوجية لنساء تلك الفترة، والاختلاف الكبير وعدم وجود أي مقارنة مع نساء اليوم، حيث التجلّد وجشوبة العيش، والصبر وطول الأناة وغيرها، الى جانب الحالة الايمانية في اواسط الشريحة الواعية والقريبة من أهل بيت النبوة، عليهم السلام، يجدر بنا الاشارة الى آثار التربية الصالحة من أب موالي وشيعي حقيقي لابنته، فلولا تفانيه في القتال والتضحية والبسالة منذ عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، وحتى اللحظات الاخيرة وهو يواجه الجلاوزة بسيفه، يدور به لقتال الاعداء بثقة نفس عالية، لما وقفت ذلك الموقف العظيم، وهي تقوم بدور الموجّه لأباها وهو يدور بسيفه دفاعاً عن نفسه وحتى لا يتجرأ أحد بالاقتراب اليه. فكلما احتوشوه من جانب، صاحت بأبيها أن يحذر ذاك الجانب وينتبه الى الجلاوزة، مما أعياهم أمره وعجزوا عن الامساك به، إلا بعد فترة طويلة، وإصابة عدد كبيرة منهم بجراح.

وهنا صاحت هذه الأبنة المصونة والمؤمنة وهتفت: "يا ابتاه...! ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة قاتلي العترة البررة..."، هكذا ينقل لنا التاريخ مقاطع من كلامها، مما يستدعي التأمل بوجود هكذا وعي لدى شريحة من المجتمع الكوفي بحقيقة الأمور، بيد أن المشكلة في قلّة هذه الشريحة أمام السواد الأعظم الذي اشترى ابن زياد ذممهم وضمائرهم.

نعم؛ ربما ينتصر السيف ويغلب منطق القوة وتسود سياسة الغدر والغيلة والتضليل. فيسقط الشهداء وترتفع الابراج والقصور وتؤسس القوى العسكرية والمخابراتية لمزيد من تكريس السلطة الديكتاتورية، إلا أن سلاح الكلمة يبقى يقض المضاجع، لانه كامن في الزوايا المظلمة من المجتمع والامة؛ ينفجر فجأة من شاب صغير او امرأة او شيخ كبير، وفي ظروف غير متوقعة، فيكون لها الاثر في تغير مسار الاحداث، كما حصل بعد واقعة الطف، وكما حصل في تاريخنا المعاصر، وكلما تكثفت هذه المواقف، كلما تراجع الاستبداد والتفرّد بالسلطة وانحسر التفكير بالفساد والطغيان والانحراف.

اضف تعليق