q
مشاعر عارمة يحملها الاطفال الصغار في الشوارع والطرقات وهم يستضيفون المارة بالعصائر الباردة والشاي في أيام محرم الحرام، وفيما بعد في أيام اربعين الامام الحسين، عليه السلام، على طاولات وفي أماكن صغيرة، تثير في النفوس الفخر والاعتزاز، علماء النفس ربما يفسرون هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة بدوافع كامنة في نفس الاطفال العراقيين...

مشاعر عارمة يحملها الاطفال الصغار في الشوارع والطرقات وهم يستضيفون المارة بالعصائر الباردة والشاي في أيام محرم الحرام، وفيما بعد في أيام اربعين الامام الحسين، عليه السلام، على طاولات وفي أماكن صغيرة، تثير في النفوس الفخر والاعتزاز.

علماء النفس ربما يفسرون هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة بدوافع كامنة في نفس الاطفال العراقيين على وجه التحديد، تعبر عن حالات غريزية مثل حب الظهور، والتميّز، وكسب محبة الآخرين، وتقمّص أعمال الكبار.

هذه الحالات ربما نجدها في مناسبات أخرى طيلة ايام السنة، لاسيما في أجواء الدراسة وخلال العلاقات البينية في المدرسة، ومع الجيران في المنطقة السكنية، بيد أن بذل مجهود خاص، واهتمام بالغ في المناسبة المتعلقة بقضية الامام الحسين يعبر عن مشاعر خاصة إزاء ما تتضمنه هذه القضية من مشاهد وأحداث يسمعها من خلال المنابر والرواديد، وايضاً؛ من ثقافة الأسرة والوالدين.

إن أسماء لامعة من شهداء الطف ممن هم في مرحلة الطفولة، وهي تطرق اسماع أطفال اليوم، مثل علي الأصغر، والقاسم بن الحسن، والطفل صاحب الابيات: "أميري حسين ونعم الأمير، والحسن المثنى، نجل الامام الحسن المجتبى، وايضاً؛ رقية، سلام الله عليهم، تدعوهم، وتدعو كل طفل يظهر في مسيرة التاريخ الى التعاطف والتضامن مع ما لاقوه من ظلم وقسوة قلب، و أشد المظالم وطأة في النفس؛ العطش الذي ألمّ بالاطفال، فبدلاً من معاملة خاصة للاطفال في هكذا حالات دون الكبار بتوفير الماء والأمان لهم، كما هي اعراف الحرب في كل مكان، تلقى أطفال الامام الحسين، النبال والموت تحت حوافر الخيل.

ولا أبالغ بالقول في إن هكذا عواطف ومشاعر عميقة وموجهة مسبقاً تمثل فرصة تنموية عظيمة لا تضاهى في كل مكان بالعالم، إذ يعكف علماء التربية والتنمية والاجتماع لابتكار طرق وتنظيم مناهج تعليم وتربية للطفل ليكون متفوقاً في الدراسة، او يكون نظيفاً، و منتجاً، وما الى ذلك.

المجتمع الاسلامي بشكل عام، والمجتمع العراقي بشكل خاص، موعود بمستقبل مشرق إذا تم استثمار هذه العواطف الجيّاشة والنابعة ذاتياً من الفطرة النقية، في مسائل كبرى ليس أقلها تكريس قيم الخير والعدل والانسانية في المجتمع، والاحتكام على قوانين السماء المتوافقة مع تكوين البشر ومتطلباته وحاجاته الحقيقية، وهذه المطالب الكبيرة ذات البعد الاستراتيجي تُعد صغيرة أمام قدرات هائلة جسدها أطفال عاشوراء بمشاهد الشجاعة الفائقة امام جحافل الفرسان والقتلة المحترفين، ومشاهد الاندماج الكامل مع قضية الامام الحسين، وعدم التخاذل امام الموت واحتمال الاصابة بالسهام والسيوف، وهي المشاهد ذاتها التي كونت مجتمعة المشهد العاشورائي الخالد عبر التاريخ، مثل مشهد القاسم بن الحسن؛ الطفل الذي لم يبلغ الحُلم (غير بالغ)، يتقدم أمام جيش الاعداء فينخلع شسع نعله، فينحني لإصلاح نعله، كما لو أنه في أحد الازقة بمدينته، غير عابئ بالجموع المتوثبة لقتله بأبشع ما يكون.

وهذا بدوره يدعونا الى تفعيل الجانب المعرفي لدى شريحة الاطفال لتكريس الفعل الواعي والمسؤول لمختلف اشكال الشعائر الحسينية، في الوقت الحاضر، وفي قادم الايام عندما يتحول هذا الطفل الى رجل كبير ناضج بفكره الحسيني، مثال ذلك؛ حالة العطاء من خلال تقديم الطعام والشراب في مرحلة الصِغر، ثم تحول هذا الفعل الى منهج ثابت في الحياة في الكِبر بالعطاء في مناسبات ومجالات مختلفة، وهكذا؛ تفعيل وتكرس قيم لها مدخلية بتنظيم الحياة بشكل يخلو من الازمات عندما يعمّها التعاون والتواصي والتسامح والاحتكام الى قيم الحق والفضيلة، وليس الى الانتهازية والنفعية.

إن المنبر الحسيني، والرادود، والأديب، والرسام، والمصمم للوحات عاشوراء، بل وحتى المشرفون على مواكب التشابيه، كل هؤلاء وغيرهم ممن يسهمون في إحياء مشاهد عاشوراء باشكال مختلفة، لهم الدور البارز في ضخ المعرفة في نفوس الاطفال بشرط ان تكون موثقة ومتطابقة مع أصل المشهد التاريخي وأبطاله، ومنسجمة تمام الانسجام مع سلوكهم وتفكيرهم في الحياة، من خلال مراجعة سيرة حياتهم في التاريخ، مع شحة المعلومات عنهم، فهي أفضل من تأليف أمور من بناة أفكار وعواطف الكاتب او من يريد الاسهام في إحياء عاشوراء بنوايا صادقة.

هذه القضية لاتحتمل الخطأ والتجربة والتحليل، فكل شيء واضح مع صورة متكاملة للمشهد، ما يحتاجه؛ الاستلهام والاقتباس بأمانة دوقة متناهية، لاسيما اذا تعلق الأمر بالمخاطب الصغير، لأنه المشارك الحاضر اليوم، وهو القائد المؤسس غداً، فكلما حمل هذا الطفل من صور وافكار صحيحة عن الواقعة، فانه سينقلها كما هي في السنوات القادمة من عمره، حيث يكون الكبار ومن أوصلوا له هذه الصورة في عداد المرحومين، فنرجو ان نكون من المرحومين في السنوات القادمة وقد تعلم هؤلاء الصغار كل معاني التضحية والإباء والإيمان والإخلاص من النضهة الحسينية خلال هذه الايام، وايضاً خلال أيام اربعين الامام الحسين، عليه السلام.

اضف تعليق