عندما أردت تسليط بعض الضوء على ما يجري في بلادنا من استنزاف للدم الشيعي بشكل مريع وبشع ومعد له سلفاً، تذكرت على الفور الدعوات التي كان يرددها البعض في سالف الايام، بعدم خوض الاعمال التي تؤدي الى "إراقة الدماء"، وذلك بدعوى الحفاظ على الأرواح في ظل التصادم المستمر بين الشعوب والانظمة الجائرة.
أما اليوم، فقد تغيّرت المعادلة، واصبحنا أمام واقع جديد ملؤه الدم والعنف، فرض نفسه علينا، عندما انفجرت الازمات السياسية التي كنا نعيشها مع الانظمة الديكتاتورية والقمعية، وتحولت الى حروب تحت شعارات طائفية، فالقتل الذي يتعرض له الانسان الشيعي، ابتداءً من باكستان مروراً بالخليج والعراق وحتى لبنان ومصر، ثم اليمن، لا يتم بدوافع سياسية بحتة، فهو لا يقتل فقط على يد ضباط التحقيق وخبراء التعذيب داخل المعتقلات، إنما أضيفت اليها أيدٍ جديدة متمثلة في عصابات ارهابية منظمة تحمل شعارات طائفية، كما حصل بالنسبة لتنظيم "القاعدة" في العراق، بعد الاطاحة بصدام، ثم جاء دور ما يسمى بـ "الدولة الاسلامية في العراق"، وفيما بعد "الدولة الاسلامية في العراق والشام". ومن خلال هذه الاسماء المثيرة ذات الوقع الكبير في جميع أنحاء العالم، يتم ذبح الآلاف من الشيعة، ليس في العراق، إنما في مختلف البلاد الاسلامية. وهذا لم يكن، لولا تصاعد المدّ الشيعي في العالم الاسلامي، والعالم أجمع، مما يكشف للمتابع؛ أن بحجم القوة والتأثير الذي يتركه الشيعة في الساحة، جاء رد الفعل عنيفاً ودموياً من جهات متعددة، لا نخوض في هويتها، وما اذا كانت اقليمية او دولية، او ربما يكون الاثنين معاً.
حروب مع أقل الخسائر
بالحقيقة؛ هي ليست حروباً بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما يفرض علينا من اسلوب في المواجهة لا مجال فيه للمنطق والحوار، وحتى العمل السياسي والقنوات الدبلوماسية، إنما هو الموت المحقق لاغير، فما عليك سوى الرد بالمثل، أو الموت صبراً، وهذا غير وارد طبعاً، وفي كلا الحالتين هو الموت والنزيف المميت او الاستنزاف المستمر. لذا يستدعي الامر النظر في خيارات تفيدنا في المواجهة، وفي الوقت نفسه تحفظ هوية الصراع، وتحدد المعايير الثابتة لكل من جبهتي الحق والباطل:
1- لا نكون وقوداً للآخرين
تمثل التحالفات الثنائية او اكثر، من الطرق المساعدة لتحقيق النصر، فهي مبدأ سياسي محترم من القدم، بيد ان العبرة منه، الاستفادة الحقيقية التي لا تنقلب تآمراً ودسائس من خلف الستار، او حتى الكيل بمكيالين وتحول الشيعة في الميدان الى وقود لحرب لا يكسبون منها سوى الموت والدمار.
وهذا بحاجة الى فطنة سياسية خاصة، ورؤية ثاقبة لآفاق المرحلة، كلها تشكل برنامجاً وخططاً خاصة، بمعزل عمّا لدى الآخرين، مهما كانوا، ولعل هذا يمثل نقطة قوة يفترض ان تلتقي مع نقاط قوة أخرى في الجبهة الواحدة، لا أن يكون الاعتماد على خطط الآخرين، لانها ببساطة معدّة لتحقيق مصالح معينة لأصحابها.
وخير دليل نستقيه من تاريخنا المضيء، وتحديداً من نهضة الامام الحسين، عليه السلام، عندما عرض عبد الله ابن الزبير، التحالف للعمل سويةً ضد النظام الأموي، بشرط أن يبقى معه في مكة، فكان جواب الامام، حديثاً رواه عن جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، بأن "هنالك كبشٌ يقتل في الكعبة"، و"أنا لا أريد ان أكون هذا الكبش...". فكان الكبش هو نفسه، عندما قتل في بيت الله الحرام في قصة معروفة، وعلّق الحجاج رأسه على باب الكعبة.
2- توظيف الجانب الحقوقي عالمياً
بما ان عالم اليوم يتبنى منطق القانون والمعاهدات الدولية ويرفع شعارات "حقوق الانسان"، فان هذه تمثل فرصة جيدة لطرح القضايا الحقّة من جانبها الانساني الى العالم، ووضع المنظمات الحقوقية والانسانية العالمية أمام استحقاق أكيد بما يعنيها من اهتمام خاص بها، في أن تمارس ضغوطها على الدول الراعية للجماعات الارهابية والدموية، او دعوة الدول الكبرى والعواصم المؤثرة في الصراع، لدعم ومساندة المتضررين من أعمال الارهاب والذبح والتشريد.
وثمة نقطة غاية في الأهمية، بالإمكان الاستفادة منها لإثارة الرأي العام العالمي، وهي "الأقلية المضطهدة"، فعندما تريد المنظمات الحقوقية، توجيه الإدانة الى نظام حكم او جماعة معينة، تشير الى كون الضحية من الأقليات الطائفية او العرقية او القومية، وهذا بحد ذاته يكسب دعماً معنوياً كبيراً في وسائل الاعلام ولدى الاوساط الحقوقية والسياسية، لتكون النهاية؛ التأثير على القرار السياسي، وهذا ما نلاحظه بالنسبة لقضية الأقباط في مصر، والمسيحيين في العراق، والأكراد في ايران او تركيا. ففي السعودية وباكستان والبحرين، تحدث انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، بسبب حالة الاستضعاف التي يعيشها بها الشيعة في مقابل تضافر جهود مخابراتية وسياسية وحتى مؤسسات دينية للإبقاء على النزيف الشيعي مستمراً.
3- التفكير في الحلول الجذرية
عندما نعرف أن النزيف الحادّ في جسدنا يأتي بسبب واحد يشترك فيه المبضع التكفيري والأيدي المخابراتية والسياسية في عواصم معروفة، فان العلاج لمواجهة هذه الحالة الخطيرة يجب ان تكون عبارة عن برنامج مشترك وخطة متكاملة الابعاد، وإلا فان التعبئة الميدانية والحشد العسكري المطلوب الذي نشهده في العراق، عبارة عن إجراء وقائي رادع، يعود اليه بالفضل في وقوف العناصر الارهابية عند حدّها، ثم أجبرت على هزائم نكراء. وهي بالمحصلة محاولة تضميد الجرح والحد من حالة النزف، بيد إن الأهم، النظر في أمر الجناة ومن يقف خلفهم، فهم اليوم أمام عدسات الكاميرا، عبارة عن مسؤولين حكوميين عند شعوبهم، وقد بلغ بهم الانجاز السياسي، أن كل ما يفعلوه ضد الشيعة هو حسنٌ ومطلوب!، وفي أضعف الاحتمالات، التحييد واللامسؤولية إزاء ما يجري، حتى وإن سمعت الشعب العربية والاسلامية بمقتل عشرة آلاف انسان مرة واحدة في العراق. أو قتل العشرات من الشيعة في السعودية او البحرين أو أي مكان آخر. فالاعلام العربي، الذي ارتدى البزّة العسكرية. يوحي ويرسل الرسائل تلو الرسائل الى المشاهد، بأن اعمال القتل التي يتعرض لها الشيعة، لا تأتي من فراغ، ولها ما يبررها.
لنراجع السيرة النبوية ونقتبس ما يضئ لنا في ظلمة الفتنة الطائفية السوداء، فقد بعث النبي الأكرم، أمير المؤمنين، الى اليمن وأوصاه بأن "يا علي... لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه الى الاسلام، وإيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس او غربت، ولك ولاؤه يا علي".
أمامنا تلازم منطقي جميل؛ الدعوة الى الهداية، وحتمية الحصول على الولاء. في حين نرى الاقتتال والجهد الجهيد لدى الانظمة السياسية والاحزاب والجماعات على كسب الولاء، بينما هي في المنهج النبوي عبارة عن خطوتين؛ الاولى: إيصال الكلمة الحق، والخطوة الثانية عند الموالين او على الاقل المتعاطفين.
بعيد المدى، شديد القوى
هكذا كان أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام، في تعامله مع محاولات الاستنزاف التي واجهها خلال فترة حكمه القصيرة جداً، فقد تعرض لهذه المحاولات من ثلاث جبهات، لو تكررت في نظام حكم واحد بحدود جغرافية محدودة اليوم، لكان انهزم او انصاع خلال أيام، فالجبهة الاولى: نكثت البيعة ورفعت شعار "الثأر لدم عثمان"، والثانية: قسطت في دينها وعقيدتها ورفعت شعار "لا حكم إلا لله"، والثالثة: مرقت عن الدين والولاية، وكلهم شهروا سيوفهم وارتكبوا الفظائع واراقوا الدماء واستباحوا الحرمات، وهم في ذلك يعدون اصحابهم بالجنة وأنهم على حق. تماماً كما يفعل "داعش" في العراق وسوريا، وما يرفعه من شعارات حول العالم. فما الذي فعله الامام علي، ليكون هو المصداق الحقيقي على الأرض لحديث النبي الأكرم: "علي مع الحق والحق مع علي"؟
الاجابة نجدها في رؤية سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في السلم والسلام، في كتابه "السبيل الى انهاض المسلمين"، حيث يعد "السلام ضمانة بقاء المبدأ"، وأن "السلام هو القاعدة العامة، إنما العنف ضرورة، والضرورات تقدر بقدرها". وهذا السلام الذي يستند الى المنهج الذي اتبعه الامام علي مع اعدائه، ومن قبله فعل رسول الله، لا يعني بأي حال من الاحوال، التراخي في المواقف الحاسمة وفقدان الرؤية والبرنامج المتكامل. فعندما يتحدث سماحته عما فعله النبي والامام، عليهما السلام، باستيعاب جميع عناصر المجتمع، بمن فيهم من يضمر الكفر والنفاق، واستقطبا العشائر والقبائل، بغض النظر عن سلوكها وعاداتها وتقاليدها، فانها كانت بالحقيقة "خطة حكيمة الى أبعد حد، ولهذا نجد أن أحد اصحاب علي، عليه السلام، يصف علياً، في كلام له يقول: "كان والله بعيد المدى، شديد القوى"، بمعنى أنه كان ينظر بعيداً، حيث عاقبة الأمور...".
وما أشبه اليوم، بما جرى في أيام حكم الامام علي، عليه السلام، فقد واجه "الخوارج" في أول ظهور لهم في التاريخ الاسلامي، وفي لحظاته الاخيرة قبل استشهاده، أوصى بأن "لاتقاتلوا الخوارج بعدي"، وهو بذلك كبّل أيدي كل من تسول له نفسه تشكيل أجندة طائفية لخوض دماء المسلمين، فقد سحب الامام المبرر – الصاعق من العقول المتحجرة التي لم تفهم الدين سوى طقوس جامدة وأحكام بلا روح، بعيدة عن حياة الانسان، وبذلك حقن دماء المسلمين من حروب داخلية في الاسلام، طيلة قرون طويلة، قبل أن يأتي "الخوارج الجدد" بدعم ومساندة عالمية، هذه المرة، ليتحدوا الأمة بكاملها.
اضف تعليق