q
إن المهم في الوقت الحاضر تفهّم القيادة السعودية للأبعاد الثقافية والحضارية لإعادة بناء مقبرة البقيع كواجهة تاريخية امام العالم، لاسيما بعد تشكل رؤية عالمية جديدة إزاء المراقد المقدسة مثل مرقد الامام الحسين، وكيف انه تحول الى رمز للقيم الانسانية العليا يجتذب اليه أي انسان من مختلف المذاهب والاديان في العالم...

ليست كأية مقبرة في العالم، فهي ليست كمقابر الفراعنة في مصر، ولا كمثاوي من قتلوا دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم وحريتهم، ولا هي مثل مقبرة لينين؛ مؤسس الدولة السوفيتية السابقة، وقضية إعادة بنائها لا تنحصر ضمن أطر تراثية او سياسية بقدر ما يتسع الأمر الى الدائرة الحضارية بإقرار عالمي بالمكانة السامية والاستثنائية لأئمة البقيع من نسل رسول الله، خاتم الانبياء والمرسلين، حيث نجد كتاب الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق للإمام زين العابدين على طاولة الاكاديميين في الغرب، فيما يتذاكرون العلوم التي بلورها وطورها الامام الصادق، كما يدرسون أول معاهدة صلح ناجحة في التاريخ على يد الامام الحسن المجتبى.

حسب الشواهد التاريخية، فقد كانت ثمة بناء مشيّد على مراقد الأئمة الاربع في هذه المقبرة بالمدينة المنورة منذ العهد العثماني، بيد أنها لم تكن بحجم ومهابة ما تحظى به المراقد المقدسة في ايران والعراق، ولكن صدرت فتوى غير رصينة في ظروف غير طبيعية، ولاسباب غير مقنعة حتى بالنسبة لعلماء الوهابية انفسهم لوجود القبة الخضراء على مرقد النبي الأكرم الى جوار مقبرة البقيع، ولسبب آخر سنأتي عليه في سياق هذا المقال، فهم يدعون أن البناء على القبور من دواعي الشرك بالله –تعالى- بينما يعلم علماء الوهابية علم اليقين أن لا شرك في الموضوع، فهم يرون بأمّ أعينهم أنها سبباً لترسيخ التوحيد من الناحية العقدية، ولخلق أجواء ايجابية مفعمة بالأمل والرجاء من الناحية النفسية والانسانية.

الذهنية السياسة الحاكمة في السعودية تتطلع الى تغييرات جذرية في ميادين عدة بالحياة العامة، لاسيما على صعيد الحريات الفردية متجاوزة رأي شريحة رجال الدين السعوديين بعد استنفاد أغراضه طيلة عقود من الزمن، وبعيداً عن البعد السياسي لهذه الاجراءات، فان ما يهمنا البحث في آثار هذه التغييرات على مشروع إعادة بناء مراقد الأئمة المعصومين في البقيع الغرقد، كمطلب عالمي ذو طابع حضاري.

جرت محاولات ومطالبات عديدة طوال العقود الماضية في هذا السبيل، بيد أنها لم تترك بصماتها على العقلية السعودية بسبب الصورة النمطية الزائفة في هذه العقلية والاحكام المسبقة عليها بأنها محاولات ذات بعد مذهبي يختصّ بالشيعة، وأنها تأتي في خضم الصراع المذهبي منذ حوالي قرنين من الزمن.

كما إن هذه المحاولات لم ترق الى مستوى المطلب الاسلامي العالمي مما يفرض أمراً واقعاً كما حصل بالنسبة للحريات الفردية التي رضخ لها النظام السعودي لكسب ودّ الغرب، غير عابئين بالتقاطع الحاصل بين كثير من هذه الحريات مع الثوابت الدينية، بل وبشعارات تطبيق الشريعة الاسلامية، وأن القرآن الكريم هو دستور المملكة طيلة العقود الماضية.

إن المهم في الوقت الحاضر تفهّم القيادة السعودية للأبعاد الثقافية والحضارية لإعادة بناء مقبرة البقيع كواجهة تاريخية امام العالم، لاسيما بعد تشكل رؤية عالمية جديدة إزاء المراقد المقدسة مثل مرقد الامام الحسين، وكيف انه تحول الى رمز للقيم الانسانية العليا يجتذب اليه أي انسان من مختلف المذاهب والاديان في العالم، وهو ما من شأنه تغيير تلك الصورة النمطية السيئة في الذهنية السعودية، او الحجج التي يسوقونها بأن تشييد المراقد مدعاة للطائفية. 

هذه الصورة النمطية المصطنعة تعرضت لهزّة عنيفة بفضل المحاولات الذكية للشهيد المفكر السيد حسن الشيرازي في سبعينات القرن الماضي عندما تحرك بمفرده في هذا الطريق الوعر ليصل لشجاعة فائقة الى أعلى المستويات الدينية والسياسية في الدولة السعودية، وأسقط في أيديهم ما جاء من أدلة وبراهين عقلية مقنعة بضرورة إعادة بناء مراقد الأئمة البقيع، مما اضطرهم للتشبث بذريعة الحاجة الى طلب رسمي من الدولة الايرانية او الدولة العراقية، وكان هذا الشرط التعجيزي كافياً لخلاص السعوديين من ورطة ربما كانت تتحول الى حادثة تاريخية تترك بصماتها مسائل كثيرة في تلك السنوات.

وهذا يؤكد لنا جدوائية المطالبة العالمية لإعادة بناء مقبرة البقيع عالمياً، وأن تصدر من البلاد الاسلامية ومن المسلمين في مختلف انحاء العالم، ليكون رأياً عاماً وليس رأياً خاصاً لفئة من المسلمين. 

وعندما نتحدث عن البعد الحضاري للأمة، فنحن مدعوون لإيجاد مصداق عملي لحديث الامام الرضا، عليه السلام، "رحم الله عبداً أحيا أمرنا"، ثم أوضح في جوابه على السؤال: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: "يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا".

وهذه رسالة واضحة لتجاوز الدائرة العاطفية في التعامل مع المراقد المقدسة بالرثاء واستذكار المصاب على الأئمة المعصومين، وتحديداً؛ أئمة البقيع، مع التأكيد على دور العاطفة في تليين القلوب وتهذيب النفوس لتكون مهيئة لحمل الرسالة التي حملها وضحى من أجلها الأئمة المعصومون، عليهم السلام. 

اضف تعليق