q
في تعليق لسماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- على جملة "بضعف قلوبهم"، يقول: "لو اردنا أن نستخدم كلمة جديدة بديلة عن كلمة ضعف القلوب، فهي الانهزامية، حيث توجد هذه الحالة راهناً، فالانهزام أمام الشرق وأمام الغرب"، عندما يكون الانسان فاقداً لسلاح المعرفة بإمامه الغائب الحاضر...

لو غُيب أحدنا في السجن، او أبعد الى مكان بعيد في جزيرة نائية، ثم افرج عنه وعاد الى أهله وبلده، فإن أول سؤال سيطوّق به منتظريه؛ ما صنعتم بهذا او ذاك؟ وماذا فعلتم حول هذه المسألة او تلك؟

يحب أن يعرف من الذي تزوج؟ ومن الذي أنجب؟ ومن تخطى مراحل الدراسة وصار طبيباً او مهندساً او عالماً او تاجراً؟ وهو سؤال بديهي جداً، كون جميع هؤلاء عاشوا مطلق الحرية بحياتهم، يؤثرون ويتأثرون بالمحيط الاجتماعي، وربما ثمة أمور مرتبط بالعلاقة بين هذا الشخص المفرج عنه وبين أهله وابناء مجتمعه، كأن تكون التصرف بالأملاك، والتراث، والحقوق بشكل عام، فيجدوا انفسهم فجأة أمام اسئلة دقيقة وصعبة لامناصّ من الاجابة عنها.

الامام المهدي المنتظر، وخاتم الأوصياء المعصومين لجدّه المصطفى، عجل الله فرجه، يعيش بيننا منذ ألف ومئة وخمسة عشر عاماً بالضبط –كما أحصى المدة أحد الاصدقاء- وقد مرّت أجيال، وعاش الناس، ثم رحلوا عن دار الدنيا، ولم يبرح المؤمنون يذكرون الامام الغائب بالدعاء له بالفرج، والتوسل اليه لحل المعضلات، وهو سامعٌ لهم و رائي على مر الايام والازمان، لاسيما في ظروف الشدّة والمحنة حيث شهدت البلاد الاسلامية أحداث دامية عصفت بالأمة، فقتل من قتل، ونُفي من نفي، وحل اليتم والترمّل بالملايين، وساد الجوع والمرض، والأخطر؛ الانحرافات العقدية والأخلاقية بما يستوجب الغوث للخلاص. ولكن!

لا خلاص!

نحن جميعاً ندعو يومياً عقب فريضة الصلاة بـ "اللهم كُن لوليك الحجة ابن الحسن"، كما نستغيث بالإمام الغائب في مناسبات عديدة، ولاسيما مثل هذه الأيام، حيث ذكرى مولده الشريف في الخامس عشر من شهر شعبان المعظم سنة 255للهجرة، و لنفترض أن الامام المهدي ظهر فجأة في حياتنا –وهو أمرٌ غير مستبعد وفق الحِكَم الإلهية- فما يكون جوابنا اذا سألنا عما فعلناه بتراث أهل بيت رسول الله، وبالعقيدة، والأحكام، والنظم الاسلامية، والقيم السماوية التي ضحى من أجلها رسول الله والأئمة من بعده؟

كم يبلغ عدد المؤمنون به كإمام معصوم مفترض الطاعة وهو غائب؟ ما هي نسبة تطبيق الأحكام الدينية؟ والى أين وصلت القيم الاخلاقية والانسانية في العلاقات الاجتماعية؟

بالحقيقة؛ كلما أقف قبالة ضريح الإمام الحسين، عليه السلام، وسائر الأضرحة المقدسة، وأطلب من الله –تعالى- بجاههم ومنزلتهم عنده، قضاء الحوائج، يقفز الى ذهني سؤال عمّا فعلته أنا أولاً للإمام الحسين، قبل ان أطلب منه؟! فالقاعدة المنطقية تقتضي الالتزام بالأخذ والعطاء معاً، فلا أخذ دون عطاء، حتى العُصاة المشمولين بالرحمة الإلهية، وبشفاعة أوليائه الصالحين، تقدموا خطوة أو اكثر في طريق التوبة، حاملين قلوبهم السليمة، و نواياهم الحسنة، فنالوا الشفاعة والنجاة.

المعرفة.. الخطوة الأولى

أكد العلماء غير مرّة على أن المعرفة أساس الإيمان، ولا عبادة لله –تعالى- دون معرفته، وإن حصلت هذه العبادة والالتزام بالاحكام، وحتى احترام المقدسات، فانها لن تعدو ممارسات شكلية دون محتوى من الوعي والمعرفة بما يمكّن صاحبه نقل هذه المعرفة الى غيره، من أفراد أسرته واصدقائه، و أينما حلّ وارتحل، لا أن يقف محتاراً أمام اسئلة عن حقيقة وجود الإمام الغائب، حيٌ يرزق؟ أو فائدة وجوده المبارك لنا وللأمة وهو غائب؟ أو لماذا لا يظهر لانقاذ الأمة من المهالك والشدائد والانحرافات التي تعيشها؟

متى نشعر بالحاجة الى هذه المعرفة؟ هل كما يحتاج طالب المدرسة والجامعة اليها قبل موعد الامتحان ليكون مستعداً للإجابة على معظم الاسئلة ويخرج بنتيجة مرضية؟

معظم أيام حياتنا –إن لم نقل جميعها- تمثل لحظات امتحان واختبار متعددة الاشكال والابعاد، تبدأ من داخل الأسرة، وربما بين الانسان ونفسه، ولا تنتهي سلسلة الاختبارات في محيط العمل والدراسة، وحتى في العلاقة بيننا وبين الله –تعالى- وطريقة تعاملنا مع الاحداث والتطورات، وما تعترضنا من أزمات، كلها أسباب تدفعنا للاستغاثة بالمنقذ الموجود بيننا، وهو اقرب وسيلة لنا الى الله –تعالى-، لأن يبصرنا بالطريق الأقرب والأفضل لحل المشاكل، بل وبالصورة التي تمكننا من ارتقاء سلّم التطور في الحياة لنكون أقوياء بكل المقاييس وسط هذا العالم المتلاطم.

يكفي أن نراجع النظريات والافكار المطروحة أمام البشرية طيلة ثلاثة قرون مضت على العالم تخللتها تطورات هائلة في مجال الفكر، والعلم، والثقافة، ثم لنلاحظ النتائج التي يتحدث عنها مفكروا الدول المتقدمة –وليس نحن- ممن لديهم مراكز الإحصاء، ليؤكدوا حجم الأضرار التي حلّت بالبشرية مقابل الفوائد من الثورة الصناعية، والحرية الفردية، في حين ما يقدمه الإمام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، للعالم أجمع هو "سُبل السلام" وما لا يعقبه ندم او أعراض جانبية سلبية مطلقاً.

وقبل الانتقال الى الجزء الآخر من المقال، جديرٌ بنا قراءة هذه الرواية التي أوردها الشيخ الكليني في "الكافي" عن الامام الباقر، عليه السلام: "عجبت من قوم يتولوننا ويجعلوننا أئمة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله ، لأن الله تعالى قال {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ثم يكسرون حجتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا، ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حق معرفتنا والتسليم لأمرنا".

في تعليق لسماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- على جملة "بضعف قلوبهم"، يقول: "لو اردنا أن نستخدم كلمة جديدة بديلة عن كلمة ضعف القلوب، فهي الانهزامية، حيث توجد هذه الحالة راهناً، فالانهزام أمام الشرق وأمام الغرب"، عندما يكون الانسان فاقداً لسلاح المعرفة بإمامه الغائب الحاضر، فيعتريه الضعف والهوان فـ "يعيبون" على الآخرين انتماءهم والتزامهم منهج أهل البيت، وتحديداً؛ الثقافة المهدوية.

دعاء الندبة وألم الفقدان

مما يحسسنا بوجود الإمام الحجة المنتظر، وبالمسؤولية الشرعية والأخلاقية إزائه، عليه السلام، فقدانه، وعدم وجوده الملموس في واقعنا.

بشكل بديهي، تهيج لدى الانسان مشاعر الحزن والألم لفقدان عزيز عليه، أو حتى شيئاً مما يقتنيه في حياته، فيبقى يستذكره، او يتوقع عودته من جديد، وبقدر الارتباط تكون درجة الألم في النفس.

وعندما نتحدث عن الألم، فهو في مساره الايجابي المحفّز للأمل والطموح نحو الأفضل، وليس الباعث على اليأس والانطواء، وقد أكد العلماء على أن الألم، في بدن الانسان او في روحه، تمثل نقطة ايجابية ولازمة لاكتشاف الثغرات والنواقص بغية ترميمها، ثم البحث عن البدائل الأفضل، ومن دونها لتكالبت على الانسان الأمراض الخطيرة في بدنه الى حد الموت، وفي روحه، يجد نفسه في فراغ قاتل يفصله عن فلسفة وجوده بالحياة، والسبيل الى تحقيق السعادة الحقيقية.

ولعل هذا النوع المميز من الألم في ثقافتنا هو الذي يقربنا الى الإمام الحجة المنتظر، ومن عوامل التقرّب هذه؛ دعاء الندبة الموصى بقراءته في صبيحة كل يوم جمعة، وايضاً؛ في الأعياد الثلاثة (الفطر، والأضحى، والغدير)، وفي هذا الدعاء الموجود في معظم بيوتنا، لغة شجيّة واضحة موجهة الى الامام الحجة المنتظر، تخاطبه بلسان الملكوم الملهوف طلباً للنجاة والخلاص.

في اللغة، النَدب: أثر الجرح، والنُدبة: النداء بـ "وا" مثل: واحسيناه –مثلاً-، وايضاً: نُدبة الجرح: أثره الباقي في الجلد.

إن قراءة هذا الدعاء المشحون بالمعارف، والمواظبة عليه، يعزز علاقتنا بالإمام، عجل الله فرجه، من خلال ربط واقعنا وحاضرنا ومستقبلنا بمنهجه وشخصه الكريم، وأنه مصدر الإلهام لحل كل معضلة، وفي محاضرة لسماحة آية الله الشيرازي –طاب ثراه- حول هذه المناسبة، يؤكد أن ثمة أكثر من ثمانين دعاء خاص بالإمام المهدي، أحدها دعاء الندبة، وأشار الى كتاب "الصحيفة الرضوية الجامعة" التي تضم أدعية مروية عن الإمام الرضا، والامام الجواد، والامام الهادي، والامام العسكري، والامام المهدي، عليهم السلام.

هذه الأدعية تكشف لنا ما يجب ان نستشعره بالحاجة لمزيد من المعارف والعلوم، وان لا نتوقع على ما عندنا من بعض فتات العلوم والمعارف التي بالكاد تكفي لتمضية حياتنا اليومية، ولا تنطلق الى رحاب المستقبل بما يحمي ابنائنا ويضمن مستقبلهم على الصعيدين؛ المادي والمعنوي، ولعل من فلسفة الغيبة واستمرارها هو "سوق البشر نحو التكامل النفسي والفكري والعملي من خلال الفقدان"، يقول آية الله الشيرازي.

اضف تعليق