التسليم لله -تعالى- يخرجنا من النظرة الضيقة للذات ورغباتها إلى آفاق النتائج والعواقب، أو ما يُسمى باستشراف المستقبل. فقد أثبت العلماء والفقهاء العلل العقلية للأحكام الدينية وحاجة الإنسان إليها، وإنها جاءت لتنظيم حياته أكثر مما يخالها البعض لتقييده...
قال الإمام الصادق، عليه السلام: "اعلموا أن الإسلام هو التسليم، والتسليم هو الإسلام، فمن سلّم فقد أسلم، ومن لم يسلّم فلا إسلام له".
ضمن قدراته الكبيرة والمتنوعة، يحسب الإنسان أنه قادر على تغيير كل شيء في الحياة، والإقرار بخلاف هذا يوصم صاحبه بالعجز والضعة والهوان، وهو ما لا يرتضيه أحد، لاسيما مع وجود المحفزات في الوقت الحاضر للانطلاق في رحاب العمل والتفكير تحت عنوان "الإبداع"، وشعارات مغرية مثل: "التفوق"، و"التطلع" لإضفاء الطابع الإيجابي على هذا المسار الذهني والعملي للتخفيف من النتائج السيئة المحتملة.
ومع المساحة الواسعة للإرادة، فإن ضرورة وجود كوابح تنظم الحركة تعد استجابة لطبيعة الإنسان نفسه، لاسيما المتمكن من جوانب: المال، أو العلم، أو السلطة، أو المكانة الاجتماعية، فيشعر أن لا حدود لقدراته على فعل أي شيء. فجاء مفهوم التسليم كأحد أركان العقيدة في الإسلام، يضع صاحبه ضمن أطر تنظيمية أكثر مما هي تقييدية للحرية ما يؤدي إلى التخلف والحرمان. وهذا ما تضمنته رسالة الإمام الصادق، عليه السلام، إلى شيعته، والتي شرحها وتدبّر فيها المرجع الديني السيد صادق الشيرازي -حفظه الله- في كتابه: "نهج الشيعة"، وفيها يبين الإمام الصادق الإطار العام للإيمان والعقيدة، فمن دونها لن تستقر نفس الإنسان وقلبه على مرفأ، وتبقى تتقاذفه الأمواج الفكرية طوال حياته. والتسليم هنا يكون لله -تعالى- ولما أنزله في كتابه المجيد، وما سنَّه نبيه الكريم، وما التزم به الأئمة المعصومون من أهل بيته من بعده، من سنن وأحكام ونظم للحياة.
التسليم مع قليلٍ من التغاضي عن الذات
رغم حاجته إلى ما تستقر به نفسه، وما يتطابق مع فطرته، بيد أن البعض يرى أن التسليم يعني سلبه الإرادة وحرية الاختيار بين ما يحب وما يكره، والقبول أو الرفض لأي حكم أو قانون، وإن كان نازلاً من السماء. ولعل حركة التشكيك والجدل في الدين تبدأ من هذه النقطة تحديدًا من جملة نقاط ومنطلقات نفسية، لاسيما فيما يتعلق بالسلوك الشخصي، والمثال الأبرز: الحجاب للمرأة، والمسؤولية عند الرجل. فثمة شعور ربما يختلقه البعض من أن الحجاب أو تحمل مسؤولية الأسرة، أو المسؤولية الاجتماعية، تمثل أواصر تقيد الحركة وتسلب حرية الإنسان في أن يكون كما يريد.
بينما التجارب قبل العواقب أثبتت لنا الحاجة القصوى للتسليم عقليًا، فضلاً عما ورد من تحذيرات من عواقب التمرد والانحراف الواردة في القرآن الكريم وعلى لسان النبي الأكرم والأئمة المعصومين، عليهم السلام. فالتسليم لأمر الحجاب -مثلاً- يحفظ للمرأة كرامتها، ويحفظ للرجل غريزته الجنسية من الطغيان. ومن يتحدث عن غض البصر والحرية الشخصية، وهو أمر وارد وبالإمكان تجربته، بيد أن التكلفة عالية إذا أراد أفراد المجتمع أن يعيشوا من دون علاقات محرمة تؤدي إلى الخيانات الزوجية، أو من دون شيوع حالة التشكيك وعدم الثقة بين الرجال والنساء، ومن ثم العزوف عن الزواج، وأحيانًا انزلاق البعض إلى الجنس المحرّم (الزنا). وبالنسبة للرجل، فإن تخليه عن مسؤولية أسرته، يخلق له نماذج "تسيبية" على شاكلته، وهذا لا يحصل خلال يوم أو يومين، وإنما الآثار تبدأ تدريجيًا كما هي الخلايا السرطانية المتغلغلة في بواطن جسم الإنسان، لا يستشعرها إلا عندما تستحيل عاملاً قاتلاً لا محالة.
وعليه؛ فإن التسليم لله -تعالى- يخرجنا من النظرة الضيقة للذات ورغباتها إلى آفاق النتائج والعواقب، أو ما يُسمى باستشراف المستقبل. فقد أثبت العلماء والفقهاء العلل العقلية للأحكام الدينية وحاجة الإنسان إليها، وإنها جاءت لتنظيم حياته، أكثر مما يخالها البعض لتقييده، أو ما يصعب الالتزام به. بل ورد التأكيد من العلماء أن نسبة المحرمات أقل بكثير من نسبة المباحات في الدين، وكل ما في الأحكام يتطابق ومصلحة الإنسان، وإلا فإن الإسلام يدعو إلى الزواج لحل المشكلة الجنسية، كما يدعو إلى العمل والتجارة والإثراء والملكية الفردية بما لا ينتهك حقوق وحرمة الآخرين، كما يدعو إلى حريات واسعة للإنسان في الحياة.
البديل في صناعة الأمر الواقع
هذا ما يدعو إليه العقل والنفس المطمئنة بقضاء الله وقدره وإرادته -تعالى-، ولكن ما يدعو إليه البعض ربما يكون شيئًا آخر يرنو إلى التسليم بواقع غير ما رسمته الشريعة والقيم السماوية، بدعوى سهولة التطبيق، ومواكبة تطورات العالم غير المسلم. فربما تكون أنت مسلِّم -بشد الميم- مع كونك مُسلِم -بكسر اللام-، ولكن ماذا عن الإنسان البوذي في اليابان والصين، أو المسيحي في أوروبا وأمريكا، والهندوسي في الهند؟ ومن أجل حلٍّ وسط، لا بد من صنع واقع اجتماعي جديد يساير الأوضاع في جميع أنحاء العالم، كما هو حال عطلة يوم السبت في العراق -مثلاً-
بيد أن هذا التبرير لا يفيد صاحبه على المدى البعيد، سوى بعض "الفوائد التكتيكية"، وإلا فإن النتيجة والعاقبة هي الخسران، لأن الآخرين يرافقونك ما درّت معائشهم ومصالحهم، وفي لحظة انتفاء الحاجة لأي سبب كان، تبقى وحيدًا في الساحة دون ظلال من هوية تعرّفك، فيكون لزامًا البحث عن هوية تستظل بها.
وفي كتابه، يشير سماحة المرجع الشيرازي إلى مثال تاريخي لمن رفض التسليم واستبدله بواقع جديد سعى لفرضه على الناس، وهو: علي بن حمزة البطائني، الذي يقول إنه كان "عالمًا دينيًا ومفتيًا ووكيلًا للإمامين الصادق والكاظم، عليهما السلام. وخلال فترة وجود الإمام الكاظم، تجمعت لديه آلاف الدراهم والدنانير، وثلاثون جارية، وعدد من الأغنام والإبل من الوجوه الشرعية. وحينما استشهد الإمام الكاظم، رفض التسليم بإمامة الرضا، عليه السلام، بل وأنكر إمامته، واصطنع لنفسه مذهبًا باسم الواقفية -بدعوى أن الإمامة متوقفة عند الإمام الكاظم، وأنه حي لم يمت- وقد سمى الإمام الرضا، الواقفية بـ "الكلاب الممطورة"، تشبيهًا لهم بالكلاب التي تزيد نجاستها بتساقط المطر عليها، بخلاف سائر الأشياء التي تطهر بماء المطر". كل هذا طمعًا بالمال والجاه تلبية لرغبة نفسية عابرة.
وكذا عاقبة "الشلمغاني" في عهد الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، وكان أيضًا من العلماء الفقهاء والمقربين، بيد أن حسده للحسين بن روح الذي اختاره الإمام سفيرًا له دونه، وعدم تسليمه تسليمًا عميقًا وصادقًا، دفعه لأن ينزلق عن جادة الحق، ويقول عنه المرجع الشيرازي، إنه كان من أعلام المذهب، ولكن العاقبة سحبته للخروج من المذهب "واتباع المذاهب الردية"، حتى خرج صرّح الإمام الحجة، عجل الله فرجه، بلعنه والبراءة منه، ليس هذا فقط، بل كانت خاتمة حياته القتل صلبًا بقرار أحد سلاطين بغداد بتهمة الارتداد والجحود. وهكذا نرى كيف أن الإنسان يخسر دنياه وآخرته بشكل مريع وغير متوقع.
اضف تعليق