بفضل محكمي البنك الدولي، يكسب الأثرياء ثروات ضخمة على حساب البلدان الفقيرة. وتتغذى الشركات المتعددة الجنسيات على مشاريع غير معتمدة ولا وجود لها. ويجب أن يبدأ إصلاح نظام التحكيم المعيب بإلغاء الحكم الشائن الفاضح ضد باكستان وإجراء تحقيق شامل في العملية المعيبة الفاسدة التي سمحت...
بقلم: جيفري ساكس

نيويورك ــ تسببت صناديق التحوط والمحامون في وال ستريت في تحويل مؤسسة منتجة للمعاهدات الدولية إلى أداة لصنع المال، على حساب أفقر فقراء العالم. كانت أحدث حالة ابتزاز متمثلة في حكم صادر بقيمة 5.9 مليار دولار أميركي ضد حكومة باكستان لصالح شركتين عالميتين للتعدين ــ أنتوفاجاستا بي إلي سي من شيلي وباريك جولد كوربوريشن الكندية ــ عن مشروع لم توافق عليه باكستان قَط ولم يُنَفَّذ منه أي شيء.

إليكم الحقائق.

في عام 1993، دخلت شركة تعدين أميركية، BHP، في مشروع مشترك مع هيئة تطوير بلوشستان، وهي شركة عامة في إقليم بلوشستان الفقير في باكستان. أنشئ المشروع المشترك للتنقيب عن الذهب والنحاس، ثم الحصول على رخصة تعدين في حال التوصل إلى اكتشافات مبشرة بالنجاح. لم تكن شركة BHP متفائلة بشأن ربحية المشروع فشرعت متثاقلة في الاستكشاف. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، خصصت حقوق التنقيب لشركة أسترالية، والتي أنشأت شركة Tethyan Copper Company (TCC) لتولي المشروع.

في عام 2006، استحوذت شركة أنتوفاجاستا على شركة TCC في مقابل 167 مليون دولار، وباعت نصفها لشركة باريك جولد. ولكن بعد فترة وجيزة من الشراء، قُـدِّم طعن في صحة اتفاق المشروع المشترك الأصلي مع شركة BHP في المحاكم الباكستانية. وفي عام 2013، وجدت المحكمة العليا في باكستان أن شروط المشروع المشترك انتهكت قوانين عقود التعدين في باكستان بعدة طرق وأعلنت أن الاتفاق ــ وبالتالي الحقوق التي تطالب بها شركة TCC ــ باطل ولاغ.

وعلى وجه التحديد، قضت المحكمة بأن هيئة تنمية بلوشستان لم تكن تملك سلطة إلزام إقليم بلوشستان بشروط اتفاق المشروع المشترك؛ وأنها منحت العقد دون منافسة أو شفافية؛ وأنها تجاوزت إلى حد كبير سلطتها وانتهكت القانون عندما وعدت بانحرافات واسعة النطاق عن القواعد المعمول بها عادة في مشاريع التعدين. علاوة على ذلك، فشل المشروع المشترك في الحصول على، أو حتى محاولة الحصول على، العديد من الموافقات الإلزامية من حكومة الولاية والحكومة الفيدرالية، كما فشلت شركة BHP في تنفيذ عمليات التنقيب في الوقت المناسب وفقا لقانون التعدين.

جاء قرار المحكمة العليا بعد سنوات من الدعاوى القضائية التي طعنت للصالح العام في الاتفاق بسبب انتهاكات القانون المحلي وحقوق العامة. من ناحية أخرى، تبين أن رئيس هيئة تنمية بلوشستان يمثل تضاربا في المصالح وأن إنفاقه يتجاوز كثيرا الدخل المتحصل من راتبه الرسمي، وهو ما اعتبرته المحكمة فسادا.

في عالَم طبيعي، كان حكم المحكمة ليحترم في غياب دليل ثابت على فساد أو مخالفة أخرى ضد القضاة. ولكن في العالم الذي نسكنه بالفعل، يعمل ما يسمى حكم القانون الدولي على تمكين الشركات الغنية من استغلال البلدان الفقيرة دون عقاب وفي ظل تجاهل تام لقوانين هذه البلدان ومحاكمها.

عندما خسرت شركة TCC قضيتها في المحكمة العليا في باكستان، لجأت ببساطة إلى المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية التابع للبنك الدولي، في تجاهل تام لقوانين باكستان ومؤسساتها. وقضت لجنة مؤلفة من ثلاثة محكمين يفتقرون إلى أي خبرة في النظام القانوني الباكستاني أو احترام له بأن شركة TCC تستحق التعويض عن كل أرباح المستقبل التي زعمت أنها كانت لتجنيها لو كان المشروع غير الموجود، الذي قام على اتفاق باطل ولاغ، مضى قدما!

نظرا لعدم وجود مشروع فعلي أو اتفاق يقضي بإنشاء مشروع، فلم يكن لدى المحكمين أي أساس يسمح لهم بتحديد أي الشروط ــ حقوق الامتياز، وضرائب الشركات، والمعايير البيئية، ومساحة الأرض، وغير ذلك من الشروط ــ كان من الواجب على حكومة بلوشستان أو حكومة باكستان أن تضعها. الواقع أن الخلاف حول العديد من هذه الشروط أدى إلى توقف المفاوضات لسنوات.

ومع ذلك، قررت اللجنة التي شكلها المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية أن شركة TCC كانت لتحصل على حق التعدين في حدود 1000 كيلومتر مربع، رغم أن قانون التعدين يحظر الترخيص لمثل هذه المساحة الشاسعة. كما قضى المحكمون بأن شركة TCC كانت لتحصل على إعفاء ضريبي لمدة خمسة عشر عاما، حتى على الرغم من غياب أي دليل على أن مثل هذا الإعفاء الضريبي كان واردا ــ أو حتى قانونيا. وقرر المحكمون أن شركة TCC كانت لتستفيد من معدل امتياز أقل بعدة نقاط مئوية من المعدل القانوني الإلزامي، على الرغم من عدم وجود أي سبب كان ليجعل باكستان تقبل مثل هذا المعدل المنخفض.

علاوة على ذلك، قضى المحكمون بأن شركة TCC كانت لتفي بكل المعايير البيئية، أو أن الحكومة كانت لتعفي الشركة من المتطلبات ذات الصلة، برغم أن منطقة التعدين تقع في منطقة صحراوية تعاني من ضائقة مائية شديدة، وأن مشروع التعدين كان ليتطلب كميات هائلة من الماء. كما قرر المحكمون أن الحصول على الأرض اللازمة لتمديد خط الأنابيب التابع لشركة TCC كان يستلزم قيام الحكومة بالاستيلاء على الأرض من مالكيها وسكانها.

كان قرار التحكيم منحازا تماما. فقد وجدت لجنة التحكيم التابعة للبنك الدولي أن هذا المشروع غير القانوني، الذي أعلنت المحكمة العليا في باكستان أنه باطل ولاغ ولم تُبذَل أي مساع لتنفيذه، يعادل في القيمة أكثر من 4 مليارات دولار مستحقة لمالكي شركة TCC، الذين دفعوا 167 مليون دولار كتكلفة له في عام 2006. علاوة على ذلك، أعلنت لجنة التحكيم أن باكستان ملزمة بتعويض شركة TCC بالكامل، مع فوائد التأخير، وتغطية الرسوم القانونية، مما رفع الفاتورة إلى 5.9 مليار دولار، أو ما يقرب من 2% من الناتج المحلي الإجمالي في باكستان. وهذا المبلغ يتجاوز ضعف الإنفاق العام على الرعاية الصحية في باكستان التي تغطي 200 مليون مواطن، في بلد حيث يموت 7% من الأطفال قبل سن خمس سنوات. وعلى هذا فإن قرار التحكيم الصادر عن البنك الدولي يُعَد بمثابة حكم بالإعدام صادر ضد العديد من مواطني باكستان.

الواقع أن المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية التابع للبنك الدولي ليس وسيطا نزيها. إن أحد أعضاء لجنة التحكيم في قضية TCC يستخدم نفس الخبير الذي تقدمت به شركة TCC لقضية أخرى حيث يمارس المحكم دور المحام! وعندما ووجِه بهذا التضارب الواضح في المصالح، رفض المحكم التنحي واستأنف المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية عمله كما لو كان كل شيء طبيعيا تماما.

بفضل محكمي البنك الدولي، يكسب الأثرياء ثروات ضخمة على حساب البلدان الفقيرة. وتتغذى الشركات المتعددة الجنسيات على مشاريع غير معتمدة ولا وجود لها. ويجب أن يبدأ إصلاح نظام التحكيم المعيب بإلغاء الحكم الشائن الفاضح ضد باكستان وإجراء تحقيق شامل في العملية المعيبة الفاسدة التي سمحت بإصدار مثل ذلك الحكم.

* جيفري دي ساكس، أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسة الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة. من كتبه "نهاية الفقر، والثروة المشتركة، وعصر التنمية المستدامة، وبناء الاقتصاد الأمريكي الجديد"، وآخرها "سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأمريكية"
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق