جورج سوروس

 

بروكسل ــ يحتاج الاتحاد الأوروبي اليوم إلى الخلاص والتجديد الجوهري. ولابد أن تكون الأسبقية لإنقاذ الاتحاد الأوروبي لأن أوروبا تواجه خطرا يهدد وجودها ذاته. ولكن كما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أثناء حملته الانتخابية، فإن إحياء الدعم الذي كان الاتحاد الأوروبي يتمتع به ذات يوم لا يقل أهمية.

الواقع أن الخطر الذي يهدد وجود الاتحاد الأوروبي خارجي جزئيا. فالاتحاد محاط بقوى معادية لما يرمز له ــ روسيا بقيادة فلاديمير بوتن، وتركيا بقيادة رجب طيب أردوغان، ومصر بقيادة عبد الفتاح السيسي، وأميركا التي يود دونالد ترمب لو يخلقها إذا تمكن من ذلك.

لكن التهديد يأتي أيضا من الداخل. فالاتحاد الأوروبي تحكمه معاهدات أصبحت في أعقاب أزمة 2008 المالية في غير محلها في ظل الظروف السائدة في منطقة اليورو. وحتى أبسط الإبداعات اللازمة لجعل العملة الموحدة مستدامة لا يمكن تقديمها إلا من خلال ترتيبات بين حكومات الدول خارج المعاهدات القائمة. ومع تزايد تعقيد عمل المؤسسات الأوروبية، أصبح الاتحاد الأوروبي ذاته بشكل تدريجي مختلا في بعض النواحي.

وأصبحت منطقة اليورو بوجه خاص عكس المقصود منها في الأصل. إذ كان المفترض أن يعمل الاتحاد الأوروبي كاتحاد طوعي يتألف من دول متشابهة الفِكر وعلى استعداد للتنازل عن جزء من سيادتها من أجل الصالح العام. بعد اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، تحولت منطقة اليورو إلى ترتيب تفرض بموجبه الدول الدائنة شروطها على الدول المدينة التي تعجز عن الوفاء بالتزاماتها. ومن خلال إملاء تدابير التقشف من قِبَل الدول الدائنة بات من المستحيل عمليا أن تتمكن الدول المدينة من تحقيق القدر الكافي من النمو لسداد التزاماتها.

إذا استمر الاتحاد الأوروبي في مزاولة العمل كالمعتاد، فإن الأمل يُصبِح ضئيلا في تحقيق أي تحسن. ولهذا السبب ينبغي إعادة اختراع الاتحاد جذريا. الواقع أن نهج القيادة من أعلى إلى أسفل الذي استخدمه جان مونيه لإطلاق عملية التكامل الأوروبي في خمسينيات القرن العشرين، حَمَل العملية شوطا طويلا قبل أن يفقد زخمه. والآن تحتاج أوروبا إلى جهد تعاوني يجمع بين النهج الذي تتبعه مؤسسات الاتحاد الأوروبي الذي يتجه من أعلى إلى أسفل والمبادرات التي تتجه من القاعدة إلى القمة اللازمة لإشراك الناخبين.

ولنتأمل هنا مسألة الخروج البريطاني، والتي ستلحق ضررا بالغا بالجانبين. ذلك أن التفاوض على الانفصال مع بريطانيا من شأنه أن يصرف انتباه الاتحاد الأوروبي بعيدا عن الأزمة التي تهدد وجوده، ومن المحتم أن تستمر المحادثات لفترة أطول من العامين المخصصين لها. والأرجح أن تستمر لخمس سنوات ــ وهي فترة تكاد تبدو أبدية في عالَم السياسة، وخاصة في الأوقات الثورية مثل وقتنا الحاضر.

ولذلك، ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يتعامل مع مفاوضات الخروج البريطاني بروح بنّاءة، انطلاقا من الاعتراف بعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل. فخلال عملية "الطلاق" المطولة، ربما يقرر عامة الناس في بريطانيا أن البقاء جزءا من الاتحاد الأوروبي أكثر جاذبية من تركه. بيد أن هذا السيناريو يفترض مسبقا أن يعمل الاتحاد الأوروبي على تحويل نفسه إلى منظمة ترغب دول أخرى مثل بريطانيا في الانضمام إليها، وأن يغير الناس على جانبي القناة الإنجليزية قناعاتهم ومواقفهم.

من الواضح أن احتمالات تلبية كلا الشرطين ضئيلة. وسوف يتطلب الأمر إدراك الاتحاد الأوروبي بالكامل لحقيقة مفادها أن الخروج البريطاني خطوة نحو التفكك الأوروبي ــ وهو بالتالي اقتراح يكفل الخسارة للجميع. وعلى النقيض من هذا، فإن جعل الاتحاد الأوروبي جذابا مرة أخرى من شأنه أن يعطي الناس، وخاصة الأجيال الأكثر شبابا، الأمل في مستقبل أفضل.

تختلف أوروبا المتصورة على هذا النحو عن الترتيب الحالي في جانبين رئيسيين. فهي أولا ستميز بوضوح بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. وسوف تعترف ثانيا بأن منطقة اليورو تحكمها معاهدات عتيقة، وأن تبديل ترتيبات حوكمة المنطقة أمر غير وارد لأن تغيير المعاهدة في حكم المستحيل.

تؤكد المعاهدات على أن كل الدول الأعضاء من المتوقع أن تنضم إلى اليورو إذا تأهلت وعندما تتأهل. وقد خلق هذا وضعا منافيا للعقل حيث أوضحت دول مثل السويد وبولندا وجمهورية التشيك أنها لا تعتزم الانضمام إلى اليورو، ولكنها رغم ذلك لا تزال توصف وتُعامَل على أنها في مرحلة "ما قبل الدخول".

والتأثير هنا ليس تجميليا محضا. فقد تحول الاتحاد الأوروبي إلى منظمة تشكل دول منطقة اليورو نواتها الداخلية في حين تُحال الدول الأعضاء الأخرى إلى مرتبة أدنى. ولابد أن تتبدل هذه الحال. ولا ينبغي أبدا السماح لمشاكل اليورو العديدة التي هي بلا حل بتدمير الاتحاد الأوروبي.

ويعكس الفشل في توضيح العلاقة بين اليورو والاتحاد الأوروبي خللا أوسع نطاقا: الافتراض بأن الدول الأعضاء المختلفة ربما تتحرك بسرعات مختلفة ولكنها جميعا تتجه نحو نفس المقصد. والواقع أن نسبة متزايدة من الدول الأعضاء رفضت صراحة زعم "الاتحاد المتزايد التقارب".

إن الاستعاضة عن أوروبا "المتعددة السرعات" بأوروبا أخرى "متعددة المسارات" والتي تسمح للدول الأعضاء بمجموعة أوسع من الاختيارات الديمقراطية من شأنها أن تخلف تأثيرات مفيدة بعيدة المدى. في ظل الوضع الراهن، ترغب الدول الأعضاء في إعادة التأكيد على سيادتها، بدلا من التنازل عن المزيد منها. ولكن إذا أسفر التعاون عن نتائج إيجابية، فربما تتحسن المواقف وتبدأ الأهداف التي تلاحقها تحالفات الراغبين في اجتذاب المشاركة الشاملة.

ولا غنى عن تحقيق تقدم ملموس في ثلاثة مجالات: التفكك الإقليمي المتمثل في الخروج البريطاني؛ وأزمة اللاجئين؛ والافتقار إلى النمو الاقتصادي الكافي. وعلى الجبهات الثلاث، تبدأ أوروبا من قاعدة شديدة الانخفاض من التعاون.

وتنخفض القاعدة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بأزمة اللاجئين، والاتجاه آخذ في الانخفاض. ولا تزال أوروبا تفتقر إلى سياسة شاملة في التعامل مع الهجرة. فكل دولة تلاحق ما تعتبره مصلحتها الوطنية، فتعمل غالبا ضد مصالح الدول الأعضاء الأخرى نتيجة لهذا. وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على حق: فقد تتسبب أزمة اللاجئين في تدمير الاتحاد الأوروبي. ولكن لا ينبغي لنا أن نستسلم أبدا. فإذا تمكنت أوروبا من إحراز تقدم ملموس على مسار الجهود الرامية إلى تخفيف أزمة اللاجئين، فسوف يتحول الزخم إلى اتجاه إيجابي.

الحق أنني من أشد المؤمنين بالزخم. فحتى قبل انتخاب ماكرون، بدءا بالهزيمة المقنعة التي لحقت بالمرشح القومي الهولندي خيرت فيلدرز في الانتخابات الهولندية العامة في مارس/آذار، كان بوسع المرء أن يرى زخما متراكما ربما يؤدي إلى تغيير العملية السياسية التي تتجه من أعلى إلى أسفل في الاتحاد الأوروبي إلى الأفضل. ومع فوز ماكرون، المرشح الوحيد المؤيد لأوروبا، في فرنسا، أصبحت على ثقة أكبر في نتائج الانتخابات الألمانية في سبتمبر/أيلول. فهناك ربما تؤدي تركيبات عديدة إلى إنشاء تحالف مؤيد لأوروبا، وخاصة إذا استمر دعم حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض لأوروبا والكاره للأجانب في الانهيار. وربما يصبح هذا الزخم المتنامي المؤيد لأوروبا آنئذ قويا بالقدر الكافي للتغلب على التهديد الأكبر: الأزمة المصرفية وأزمة الهجرة في إيطاليا.

وقد شجعتني أيضا المبادرات الشعبية العفوية التي نراها اليوم ــ والتي يدعمها الشباب في الأساس. وتحضرني هنا حركة "نبض أوروبا"، التي بدأت في فرانكفورت في نوفمبر/تشرين الثاني ثم انتشرت إلى نحو 120 مدينة في مختلف أنحاء القارة؛ وحركة "الأفضل من أجل بريطانيا" في المملكة المتحدة؛ ومقاومة حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا، وحزب فيديز بقيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان في المجر.

لابد أن يكون للمقاومة في المجر وقع المفاجأة على أوربان كما فاجأتني شخصيا. فقد سعى أوربان إلى وضع سياساته في إطار صراع شخصي معي، الأمر الذي جعلني هدفا للحملة الدعائية الشرسة التي تقودها حكومته. وهو يصور نفسه على أنه المدافع عن السيادة المجرية في حين يعتبرني مضاربا في العملة يستخدم أمواله لإغراق أوروبا بمهاجرين غير شرعيين كجزء من مؤامرة غامضة ولكنها شائنة.

ولكن الحقيقة هي أنني المؤسِّس الفخور لجامعة أوروبا الوسطى، التي تمكنت بعد 26 عاما من احتلال مرتبة مرموقة بين أفضل خمسين جامعة في العديد من العلوم الاجتماعية. ومن خلال الوقف الذي أوقفته لصالح جامعة أوروبا الوسطى، ساعدت في تمكينها من الدفاع عن حريتها الأكاديمية من التدخل الخارجي، سواء من قِبَل الحكومة المجرية أو أي جهة أخرى (بما في ذلك مؤسسها).

وقد تعلمت درسين من هذه التجربة. فأولا، لا يكفي الاعتماد على سيادة القانون في الدفاع عن المجتمع المفتوح؛ بل يتعين عليك أن تُناصِر ما تؤمن به. وهذا هو ما تفعله جامعة أوروبا الوسطى والمنح التي تقدمها مؤسساتي. وقد أصبح مصيرها الآن على المحك. ولكني على يقين من أن دفاعها الحازم عن الحرية الأكاديمية وحرية تكوين الجمعيات كفيل بدفع عجلات العدالة البطيئة في أوروبا في نهاية المطاف.

وثانيا، تعلمت أن الديمقراطية لا يمكن فرضها من الخارج؛ بل ينبغي للشعوب أنفسها أن تعمل على فرضها والدفاع عنها. وأنا معجب بالطريقة الشجاعة التي قاوم بها أهل المجر الخداع وفساد دولة المافيا التي أسسها أوربان، وما يشجعني أيضا الاستجابة النشطة من قِبَل المؤسسات الأوروبية للتحديات النابعة من بولندا والمجر. ورغم أن الطريق إلى الأمام محفوف بالمخاطر، فبوسعي أن أرى بوضوح في مثل هذه الصراعات آفاق إحياء الاتحاد الأوروبي.

* جورج سوروس، رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ورئيس مؤسسات المجتمع المفتوح
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق