كلاوس شواب

 

جنيف ــ ينبغي للعالم أجمع أن يتوقف عن النظر إلى الوراء. فمنذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، أهدرنا قدراً هائلاً من الطاقة في محاولة العودة إلى أيام التوسع الاقتصادي السريع. وكان الافتراض المعيب بأن التحديات التي واجهت العالم في مرحلة ما بعد الأزمة كانت مؤقتة هو الأساس الذي قامت عليه السياسات التي لم تسفر إلا عن التعافي الهزيل، في حين فشلت في معالجة المشاكل الأساسية مثل ارتفاع معدلات البطالة واتساع فجوة التفاوت.

لقد انتهت حقبة ما بعد الأزمة، وانتقلنا الآن إلى "عالم بعد ما بعد الأزمة". والآن حان الوقت لتبني إطار جديد لحلول واقعية تشجع الازدهار المشترك تحت مظلة الاقتصاد العالمي اليوم وغدا.

في هذا العصر الجديد، سوف يكون النمو الاقتصادي أقل سرعة ــ ولكن من المحتمل أن يكون أكثر استدامة ــ مما كان عليه قبل الأزمة. وسوف يعمل التغير التكنولوجي كقوة دافعة له. وكما حولت الثورة الصناعية الإمكانات الإنتاجية في مجتمعات القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن موجة جديدة من الاختراقات التكنولوجية تعمل على إعادة تشكيل الديناميكيات الاقتصادية بل وحتى الاجتماعية اليوم. والفارق هو أن تأثير هذه الثورة سوف يكون أعظم.

ومن بين السمات البارزة لهذه الثورة هو نطاق وحجم مساهمتها في تعطيل القديم. فقد حدثت الثورة الصناعية ببطء نسبيا، مثل الموجات الطويلة في المحيط؛ فرغم أنها بدأت في ثمانينيات القرن الثامن عشر، فإن تأثيرها لم يصبح محسوساً حقاً حتى ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. أما الثورة التكنولوجية الحالية فإنها على النقيض من ذلك تضرب الاقتصادات وكأنها تسونامي، بلا سابق إنذار وبقوة لا ترحم.

وقد تسارعت وتيرة التغيير بفعل الطبيعة المترابطة المتشابكة لعالم اليوم. فالتقدم التكنولوجي يحدث ضمن نظام بيئي معقد ومترابط للغاية، وهذا يعني أن يؤثر بشكل فوري على الهياكل الاقتصادية، والحكومات، والترتيبات الأمنية، وحياة الناس اليومية.

ومن أجل إعداد أي بلد لجني ثمار التغير السريع البعيد المدى، فيتعين على صناع السياسات أن يضعوا في حسبانهم مجمل النظام البيئي الذي يجري فيه هذا التغير، على النحو الذي يضمن تكيف الحكومات والشركات والمجتمعات مع كل تحول. بعبارة أخرى، سوف يتطلب التنافس في القرن الحادي والعشرين قدراً هائلاً من التكيف والتعديل.

والآن، لم تعد هناك أي منطقة محظورة. فكل ممارسة وكل معيار سوف يحتاج بالضرورة إلى إعادة النظر. وسوف تتعرض كل صناعة لخطر الانقلاب رأساً على عقب. فخدمة مشاركة السيارات أوبر، على سبيل المثال، لم تغير كيف يتنقل الناس فحسب؛ بل ويبدو أيضاً أنها تقود ثورة في عالم التجزئة حيث يهيمن مبدأ المشاركة على السلع والخدمات، فيدفع المستهلكون في مقابل استخدامها وليس امتلاكها.

ومن ناحية أخرى، سوف تتحول الصناعات التحويلية على نحو مماثل بفِعل تكنولوجيا الطباعة الثلاثية الأبعاد. وسوف تزول سلاسل العرض أو يُعاد تشكيلها ــ وهو التوقع الذي وصفه مؤخراً الرئيس التنفيذي لإحدى شركات تصنيع الألومنيوم الكبرى. وهو يعلم أن نجاح الشركات يستلزم قدرتها على توقع مثل هذه الاتجاهات والاستجابة لها. فقد ولت الأيام التي كان السمك الكبير فيها يلتهم السمك الصغير. ففي عالم بعد ما بعد الأزمة سوف تكون الغَلَبة للسمك السريع ــ وسوف يموت السمك البطيء.

ولكن الثورة التكنولوجية الحالية ليست مجرد إعادة تشكيل ما ننتجه وكيف ننتجه؛ بل إنها تقوم في الأساس على إعادة تشكيل من نكون ــ عاداتنا، واهتماماتنا، ونظرتنا إلى العالم. ولنتأمل هنا الفارق الهائل بين تفسير الشباب والأجيال الأكبر سناً للخصوصية في عصر الإنترنت. وهي تعمل أيضاً على إطالة متوسط عمرنا المتوقع، حيث كل طفل من طفلين يولدان اليوم في سويسرا من المتوقع أن يعيش أكثر من 100 سنة.

في عموم الأمر، سوف يكون تأثير التقدم التكنولوجي إيجابيا. ولكن هذا لا ينفي التحدي الهائل الذي يفرضه.

على سبيل المثال، في نهاية المطاف سوف يدفع التشغيل الآلي للوظائف المزيد من الناس نحو أجور أعلى، وعمل أكثر إنتاجاً وأفضل تناسباً مع عصر "الموهبة"، حيث يدفع عجلة النمو الاقتصاد الخيال البشري والإبداع، وليس رأس المال أو الموارد الطبيعية. ولكن إذا فشل العمال في اكتساب المهارات اللازمة لشغل هذه الوظائف الجديدة فإنهم لن يلحقوا بالرَكب.

إن الحكومة قادرة أكثر من أي قطاع آخر على تشكيل تأثير التغير التكنولوجي، وضمان التصدي للتحديات واغتنام الفرص. بل ينبغي للحكومة أن تكون في طليعة هذا التغيير، من خلال خلق البيئة القادرة على تشجيع الابتكار والإبداع في القطاع الخاص، في حين تضمن تجهيز مواطنيها لخوض المنافسة.

لا شك أن الحكومات لا تستطيع أن تكون في الطليعة دوما. إذ ينبغي لها أيضاً أن تتفاعل وتستجيب للاحتياجات والمطالب الجديدة، مثل التوقع بأن تلبي الخدمات العامة نفس المستوى من الكفاءة العالية التكنولوجيا والرحة الذي تعرضه شركات القطاع الخاص.

وقد يكون حجم التغيير مخيفا، ولكنه حتمي. بل إنه في واقع الأمر مصدر مهم للفرصة لتحسين أنظمتنا، واستراتيجياتنا، وأنفسنا. إن أحدث موجة من التغير التكنولوجي لا تزال بعيدة عن بلوغ ذروتها. وينبغي لنا أن نبتهج ــ وأن يعمر أنفسنا الأمل ــ عندما نتصور إلى أين قد تحملنا هذه الموجة.

* المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق