q
إسلاميات - القرآن الكريم

الطبع والتطبع في الإحسان

خدمة الناس والوطن (2)

المطلوب من كل واحد منا ان يبتدأ بالإحسان إلى الآخرين من غير ان ينتظر منهم ان يسألوا أو يطلبوا منه أو يتذللوا له أو يلحوا عليه، بل ينبغي ان يكون الإنسان هو المبادر بمدّ يد العون والعطاء إلى الآخرين، فإذا عرفت ان أحدهم بحاجة إلى قرض...

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(1).

انطلاقاً من الآية الكريمة، سنستعرض المباحث الأربعة الآتية بإيجاز شديد: بعض الدلالات التي تعبّر عنها مفردة (كَما) في الآية الكريمة، الطبع والتطبع في الإحسان وفي سائر خصال الإنسان، لمحة عن بركات الإحسان، والمضاعفات السلبية للإمساك والبخل والحرمان.

المبحث الأول: من دلالات مفردة (كَما)

لعل القارئ المرتحل لا يجد الكثير من المعاني وراء ظاهر الآية الكريمة، ولكن المتبحّر المتدبر لعله يكتشف بالتأمل والتفكر والتبصر، بحراً من الدقائق والرقائق واللطائف والإشارات، وإذا ما حاولنا ان نتوقف لنتدبر بعمق في مفردة (كَما) في الآية الكريمة فلعلنا نكتشف بعض المعاني الدقيقة والجوهرية في الوقت نفسه.. فان (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) تعني أحسن مثل ما(2) أحسن الله إليك، وإذا تدبرنا في خصائص إحسان الله تعالى إلينا اكتشفنا ان من خصائص إحسان الله تعالى للخلائق:

الابتداء بالإحسان من غير امتنان

أولاً: انه تعالى يبتدأ بالإحسان من غير طلب وسؤال أو امتنان، فقد منحنا العقل والإيمان وكافة الجوارح والأعضاء، من غير طلب.

وقد جاء في الدعاء ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَدَأْتَنِي بِالنِّعَمِ وَلَمْ أَسْتَوْجِبْهَا مِنْكَ بِعَمَلٍ وَلَا شُكْرٍ وَخَلَقْتَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئاً سَوَّيْتَ خَلْقِي وَصَوَّرْتَنِي فَأَحْسَنْتَ صُورَتِي وَغَذَوْتَنِي بِرِزْقِكَ جَنِيناً وَغَذَوْتَنِي طِفْلًا وَغَذَوْتَنِي بِهِ كَبِيراً وَنَقَلْتَنِي مِنْ حَالِ ضَعْفٍ إِلَى حَالِ قُوَّةٍ وَمِنْ حَالِ جَهْلٍ إِلَى حَالِ عِلْمٍ وَمِنْ حَالِ فَقْرٍ إِلَى حَالِ غِنًى...))(3)

وحيث يقول تعالى: (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) فان المطلوب من كل واحد منا ان يبتدأ بالإحسان إلى الآخرين من غير ان ينتظر منهم ان يسألوا أو يطلبوا منه أو يتذللوا له أو يلحوا عليه، بل ينبغي ان يكون الإنسان هو المبادر بمدّ يد العون والعطاء إلى الآخرين، فإذا عرفت ان أحدهم بحاجة إلى قرض أو انه عاطل يبحث عن عمل أو انه لا يملك داراً أو... فكن أنت المبادر لتوفير ذلك كله له، قدر وسعك، أو توسط له عند من يمكنه ذلك، وعندئذٍ تكون ممن تخلّق بأخلاق الله تعالى.

بنى 78 منزلاً للأيتام ووصّى أولاده أيضاً!

ومن النافع المفيد ان ننقل هنا القصة المعبّرة التالية: فقد زارني قبل ثلاث سنوات تقريباً تاجر متوسط الحال وقد رأيت فيه الطيبة البالغة والتواضع وسيماء الصالحين وعندما استنطقه أحد الحاضرين ممن يعرف عن خدماته وإنجازاته تهرب بلطف، كي لا يحبط عمله برياء وسمعة أو بعجب وخيلاء وإدلاءٍ وإدلال، ولكن أحد أصدقائنا ممن يعرفه حدثني ان هذا التاجر فكر قبل فترة ان مآل الجميع إلى حفرة ضيقة موحشة وانه سيموت كما يموت الآخرون ولا يبقى معه من أمواله وتجاراته شيء إلا قطعة كفن أبيض! وهكذا فكر في مبادرة رائعة وهي ان يبني بيوتاً لعوائل الشهداء والأيتام.. فبنى بيتاً وأهداه لإحدى العوائل الفقيرة من عوائل الشهداء، ابتداءً ومن دون طلب، ثم بنى بيتاً ثانياً وثالثاً ورابعاً حتى بنى ثمانية وسبعين بيتاً... ولقد توفي هذا التاجر الشهم الكريم بعد لقائي به بسنة واحدة، وقد أوصى أولاده بان يستمروا على نفس النهج!

الإحسان المتنوع والمتكاثر

ثانياً: ان نِعم الله تعالى متنوعة، وكثيرة، لا تتناهى كما لا تتناهى مراتب الأعداد (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها)(4).

وقد ورد في دعاء يوم عرفة ((إِبْتَدأتَنِي بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ أَنْ أَكُونَ شَيْئاً مَذْكُوراً وَخَلَقْتَنِي مِنَ التُرابِ ثُمَّ اسْكَنْتَنِي الأصْلابَ آمِنا لِرَيْبِ المَنُونِ وَاخْتِلافِ الدُّهُورِ وَالسِّنِينَ،... ثُمَّ أَخْرَجْتَنِي لِلَّذِي سَبَقَ لِي مِنَ الهُدى إِلى الدُّنْيا تامّاً سَوِيّاً وَحَفَظْتَنِي فِي المَهْدِ طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَنِي مِنَ الغِذاءِ لَبَناً مَرِيّاً وَعَطَفْتَ عَلَيَّ قُلُوبَ الحَواضِنِ وَكَفَّلْتَنِي الاُمَّهاتِ الرَّواحِمَ، وَكَلأتَنِي مِنْ طَوارِقِ الجانِّ وَسَلَّمْتَنِي مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمنُ حَتَّى إِذا اسْتَهْلَلْتُ ناطِقا بِالكَلامِ أَتْمَمْتَ عَلَيَّ سَوابِغَ الأنِعْامِ وَرَبَّيْتَنِي زائِداً فِي كُلِّ عامٍ،... ثُمَّ إِذْ خَلَقْتَنِي مِنْ خَيْرِ الثَّرى لَمْ تَرْضَ لِي يا إِلهِي نِعْمَةً دُونَ اُخْرى وَرَزَقْتَنِي مِنْ أَنْواعِ المَعاشِ وَصُنُوفِ الرِّياشِ بِمَنِّكَ العَظِيمِ الأَعْظَمِ عَلَيَّ وَإِحْسانِكَ القَدِيمِ إلى، حَتَّى إِذا اتْمَمْتَ عَلَيَّ جَمِيعَ النِّعَمِ وَصَرَفْتَ عَنِّي كُلَّ النِّقَمِ لَمْ يَمْنعْكَ جَهْلِي وَجُرْأَتِي عَلَيْكَ أَنْ دَلَلْتَنِي إِلى ما يُقَرِّبُنِي إِلَيْكَ وَوَفَّقْتَنِي لِما يُزْلِفُنِي لَدَيْكَ، فَإِنْ دَعَوْتُكَ أَجَبْتَنِي وَإِنْ سَأَلْتُكَ أَعْطَيْتَنِي وَإِنْ أَطَعْتُكَ شَكَرْتَنِي وَإِنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَنِي؛ كُلُّ ذلِكَ إِكْمالٌ لأنْعُمِكَ عَلَيَّ وَإِحْسانِكَ إلى فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ مُبْدِيٍ مُعِيدٍ حَمِيدٍ مَجِيدٍ وَتَقَدَّسَتْ أَسْماؤُكَ وَعَظُمَتْ آلاؤُكَ. فَأَيُّ نِعَمِكَ يا إِلهِي أحْصِي عَدَداً وَذِكْراً أَمْ أَيُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً؟ وَهِي يا رَبِّ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيها العادُّونَ أَوْ يَبْلُغَ عِلْما بِها الحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأْتَ عَنِّي اللّهُمَّ مِنَ الضُّرِّ وَالضَّرَّاءِ أَكْثَرُ مِمَّا ظَهَرَ لِي مِنَ العافِيَةِ وَالسَّرَّاءِ))(5)

وكذلك ينبغي للمؤمن ان يكون فإذا كان سباقاً في توفير فرص العمل للناس، فلا يصح ان يكتفي بذلك مثلاً عن خدمة أهله في المنزل ولا يزهّدنّه ذلك عن توفير القروض للناس مما أمكنه، وعن إصلاح ذات البين كلما سنحت له الفرصة؛ ذلك ان لكل معروف أثراً ولكل نمط من أنماط الإحسان ثمرة وجزاءً واجراً، ربما، من نوع آخر وشكل مختلف.

الإحسان المتواصل المستمر

ثالثاً: ان نعمه تعالى مستمرة متواصلة على الإنسان منذ لحظة ولادته حتى حالة وفاته، بل انها مستمرة متواصلة منذ نشوؤه في عوالم سابقة، عوالم الأرواح والظِلال والأشباح و...، وفي عوالم لاحقة، عوالم القبر والبرزخ والقيامة وما بعدها، وكذلك على الإنسان على ان لا (يتقاعد) عن عمل الإحسان ولا يتقاعس عنه مهما بلغ به العمر واشتد به الضعف، ولا يقولن أحد: انني قدمت الكثير الكثير والآن حان وقت الاستراحة! كلا.. فان الدنيا مزرعة الآخرة، وكلما زرعتَ أكثر تحصد أكثر، وأما الراحة فوقتها في البرزخ طويل – طويل!

الإحسان المباشر والطولي

رابعاً: ان إحسانه تعالى مباشر أحياناً وطولي أحياناً، فقد تطلب منه في جوف الليل البهيم حاجةً فيجيب دعاءك مباشرة، وقد يجب عليك توسيط أحد المعصومين (عليهم السلام) أو السفر إلى مشاهدهم أو توسيط أحد العلماء والصلحاء..

وكذلك على الإنسان المحسن ان لا يقتصر على الإحسان بالواسطة، عبر مؤسسةٍ أسسّها أو عبر دفع مبالغ إلى مؤسسة خيرية ترعى شؤون الأيتام والفقراء والأرامل وغيرهم، بل ان عليه أحياناً ان يذهب بنفسه، ومعه عدد من أفراد أسرته مثلاً، إلى بيوت الفقراء والأيتام ويقدم لهم المساعدة مباشرة، ففي ذلك أثر آخر كما انه سيجعلك وأسرتك تتفاعل أكثر فأكثر. هذا.

وهناك مظاهر وتجليات وخصائص كثيرة أخرى لإحسان الله تعالى لعباده قد نرجع إليها في بحث آخر.

المبحث الثاني: الإحسان بين الطبع والتطبع

إن جِبِلّة بعض الناس بنيت على الإحسان والإنفاق وخدمة الآخرين، ولذا تجده يلتذّ بالخدمة والعطاء وقضاء الحوائج والتوسط لإصلاح ذات البين أو لإطلاق سجين مظلوم أو غير ذلك.

الطفل الذي اهدى عُدّةَ مدرستِهِ لسائر التلاميذ!

ومن أروع القصص في هذا الحقل ما نقل عن أحد العلماء الكرماء وهو المرحوم السيد علي الفالي الذي عُرف بشهامته وكرمه وخدمته للناس، وبلا حساب، إذ نقل لي أحد أفراد أسرته ان السيد علي عندما بلغ سنّ الدراسة أرسله والده إلى الصف الأول الابتدائي وكما هي العادة زوده بالشنطة المدرسية والكتب والأقلام والمسطرة وغير ذلك إلا انه عندما رجع للمدرسة رجع من دون عدّته المدرسية! وعندما سألوه عنها أجاب: وجدت أحدهم من دون شنطة فأهديته جنطتي والآخر من دون قلم والثالث من دون كذا وكذا فأعطيته.. وهكذا أهدى كل ما معه لزملائه الفقراء! ولقد كان الفقر شديداً آنذاك في كربلاء، كما لا يزال كذلك، والغريب انهم زودوه في اليوم الثاني بكل المستلزمات إلا انه عاد بدون أي منها أيضاً!!.

طريق تغيير الشاكلة، التطبع

ولكن بعض الناس لم تُبنَ شاكلتهم على ذلك، وهؤلاء عليهم (التطبّع) على الإحسان فان (التطبّع) على خصال الخير يحوّلها بالتدريج إلى (طبع) وقد ورد ((إِذَا لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ))(6).

وكذلك أبناء الإنسان فان بعضهم بطبعه خدوم، يخدم أهله ويخدم زملائه ويساعدهم، ولكن البعض الآخر لا يكون كذلك وهنا عليك ان تربيه عبر نظام التطبع، فإذا لم يكن، مثلاً، من النمط الكريم بل كان ممسكاً بخيلاً فلا تجبره على إنفاق أمواله، بل اعطه يومياً ديناراً مثلاً ليعطيه بيده للفقير، فان ذلك بمرور الزمن يذيقه حلاوة العطاء ويتحول ذلك عنده إلى عادة محببة يصعب عليه ان يقتلع عنها، وهي نفس فلسفة الإدمان العامة إلا ان الإدمان تارة يكون على الشيء المبغوض، كالمخدرات، وأخرى على الشيء المحبوب كالخدمة في المساجد أو المجالس الحسينية أو العطاء للناس.

إضافة إلى ذلك فان إعادة بناء الشاكلة على طبيعة الخدمة والكرم والإحسان، يمكن ان تتم عبر طريقة فعالة وسهلة جداً وهي الاستمرار في مطالعة الروايات الشريفة والقصص الطريفة التي تتحدث عن أجر الإحسان وثوابه العظيم وعن المضاعفات السلبية للإمساك والبخل والحرمان وهذا هو محور العنوانين الآتيين:

لمحة من بركات الخدمة والإحسان

فقد ورد في الحديث ((رُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ فُلَاناً لَهُ عَلَيَّ مَالٌ وَيُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَقَالَ وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَالٌ فَأَقْضِيَ عَنْكَ قَالَ فَكَلِّمْهُ قَالَ فَلَبِسَ عليه السلام نَعْلَهُ فَقُلْتُ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَسِيتَ اعْتِكَافَكَ فَقَالَ لَهُ لَمْ أَنْسَ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَبِي عليه السلام يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم أَنَّهُ قَالَ مَنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ صَائِماً نَهَارَهُ قَائِماً لَيْلَهُ))(7) وهنا نقاط:

- يحتمل في قوله عليه السلام: ((مَا عِنْدِي مَالٌ فَأَقْضِيَ عَنْكَ)) انه عليه السلام لم يكن عنده مال معه في المسجد فلما علم شدة حاجة الرجل خرج من المسجد معه ليعطيه، ويحتمل انه عليه السلام لم يكن يملك حتى في داره ما يسدّ حاجته فخرج معه ليتوسط له عند شخصٍ ما أو ليبيع متاعاً من أمتعته أو شبه ذلك، ولعل الأظهر الوجه الأخير.

- وقوله عليه السلام: ((أَنَسِيتَ اعْتِكَافَكَ)) لأنه لا يجوز الخروج من المسجد أيام الاعتكاف في المسجد الجامع، ولعل السائل لم يكن يعلم ان لذلك استثناءات كالضرورة وفعل الواجب، كأداء الشهادة أو فعل مستحب كعيادة مؤمن مريض أو تشييع جنازة.

- والملفت ان الإمام عليه السلام لم يقل (من قضى..) بل قال: ((مَنْ سَعَى...)) وهو صريح في ان السعي في قفاء حاجة المؤمن مستوجب لهذا الأجر العظيم، سواء ءأمكنك قضاءها أم لا، وذلك من عظيم فضل الله تعالى وذلك لأن السعي الجاد بيدك ولكن كثيراً ما لا تكون النتائج بيدك فجعل الله تعالى الأجر العظيم على السعي نفسه جزاءً تفضّلاً وتشجيعاً على السعي وكي لا يتعلل أحد بان سعيي في الحاجة قد لا يُنتِج، وهو ما نراه في كثير من الناس حيث يتقاعسون عن السعي في حوائج الناس متعللين بذلك!.

كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: ((وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُهَا الْجَنَّةُ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَ قَرَابَتَهُ وَمَعَارِفَهُ وَإِخْوَانَهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونُوا نُصَّاباً))(8).

والمهم الإلفات إلى انك قد تقضي حاجة لأخيك ولا يستغرق ذلك منك وقتاً وقد لا يكلفك مالاً أو جهداً أو قليلاً من المال والجهد، إلا ان الله تعالى سيجزيك على ذلك بقضاء مأة ألف حاجة من حوائجك في الوقت الذي تكون فيه أنت بأشد الحاجة إليها، مع ان بعضها يعدل الدنيا بما فيها ويزيد!

من المضاعفات السلبية للإمساك والحرمان

وفي المقابل فان هنالك أناساً يبخلون عن الإنفاق والإحسان ولو علموا ان ما ادخروه من المال ولم ينفقوه، يفقد البركة وقد يكون وبالاً عليهم لما بخلوا به!

قصة الرجل الذي حاول الاحتيال على الإمام عليه السلام

والرواية التالية تعبر أصدق تعبير عن ذلك فقد قال إسماعيل بن محمد: ((قَعَدْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام(9) عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ فَلَمَّا مَرَّ بِي شَكَوْتُ إِلَيْهِ الْحَاجَةَ وَحَلَفْتُ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي دِرْهَمٌ فَمَا فَوْقَهَا وَلَا غَدَاءٌ وَلَا عَشَاءٌ قَالَ فَقَالَ تَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِباً وَقَدْ دَفَنْتَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَلَيْسَ قَوْلِي هَذَا دَفْعاً لَكَ عَنِ الْعَطِيَّةِ أَعْطِهِ يَا غُلَامُ مَا مَعَكَ فَأَعْطَانِي غُلَامُهُ مِائَةَ دِينَارٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ لِي إِنَّكَ تُحْرَمُهَا أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهَا يَعْنِي الدَّنَانِيرَ الَّتِي دَفَنْتُ وَصَدَقَ عليه السلام وَكَانَ كَمَا قَالَ دَفَنْتُ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَقُلْتُ يَكُونُ ظَهْراً وَكَهْفاً لَنَا فَاضْطُرِرْتُ ضَرُورَةً شَدِيدَةً إِلَى شَيْ‏ءٍ أُنْفِقُهُ وَانْغَلَقَتْ عَلَيَّ أَبْوَابُ الرِّزْقِ فَنَبَّشْتُ عَنْهَا فَإِذَا ابْنٌ لِي قَدْ عَرَفَ مَوْضِعَهَا فَأَخَذَهَا وَهَرَبَ فَمَا قَدَرْتُ مِنْهَا عَلَى شَيْ‏ءٍ))(10).

وتستوقفنا ههنا وبشدة نقطتان:

الأولى: ان من بنى حياته على الدجل والخداع فان وبال ذلك سيعود عليه، إذ ان أول معلم للأبناء هو الوالد فإذا رأوه محتالاً سارقاً أصبحوا، إلا من عصمه الله، مثله، وهكذا وجدنا ان هذا المحتال تلقى أعظم خيانة من أقرب الناس إليه وهو ابنه إذ سرق أمواله واختفى وتركه في شدة البؤس معدماً في وقت الحاجة!

الثانية: ان وظيفة الإنسان ان ينفق ويعطي لمن استعطى حتى لو ظنّ كذبه، ولقد اعطى الإمام عليه السلام رغم علمه بكذب السائل، ربما ليعلمنا ان الأصل الإنفاق والإحسان وانه لا يصح التعلل بان هؤلاء المستعطين والمستجدين أكثرهم كاذب وشبه ذلك.. فليكن فرضاً كذلك ولكن ألا يوجد في المأة منهم على الأقل عشرة صادقون؟، والإنصاف لهؤلاء والإنفاق عليهم أهم من الإمساك المطلق وحرمان هؤلاء الـ10% كي لا يأخذ أولئك التسعون؛ وذلك لأن في هؤلاء العشرة بالمأة مضطرون أشد الاضطرار ولعل بعضهم يتضور جوعاً أو يموت بعض أولاده مع استمرار حالة الحرمان وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً)(11) والحاصل: ان مصلحة وصول المال إلى هؤلاء المضطرين العشرة ترجح على مضرة خسارتك المال على التسعين الآخرين، حسب معادلات باب التزاحم.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

........................................
(1) سورة القصص: الآية 77.
(2) الكاف في (كَما) قد تكون حرفية وقد تكون اسمية بمعنى مثل.
(3) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء ـ بيروت، ج97 ص420.
(4) سورة النحل: الآية 18.
(5) السيد علي بن طاووس الحلي، إقبال الأعمال، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ص339، وعنه بحار الأنوار: ج57 ص372، مفاتيح الجنان، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ص346.
(6) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص112.
(7) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج2 ص189.
(8) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص192.
(9) المقصود الإمام الحسن العسكري عليه السلام.
(10) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص509.
(11) سورة المائدة: الآية 32.

اضف تعليق