مسند أحمد بن حنبل من المصادر المهمَّة التي يعتمد عليها أصحاب المذاهب الأربعة، فضلاً عن أنَّه مصدر رئيس عند الحنابلة. شهد بصحة ما نقله في مسنده، فهو لم يذكر الأحاديث الضعيفة، ذكر طرق عدَّة لحديث الغدير المبارك، مما جعلنا نقطع بتواتره في المسند فقط. ذكر احتجاجات أمير المؤمنين...
الملخص
ومسند أحمد بن حنبل هو من الكتب المعتبرة الستة التي يستند إليها المسلمون من أهل الفرق الإسلامية، وقد أشار المصنِّف إلى صحته واختياره لما صحَّ من الأحاديث، فوقع الاختيار عليه في البحث، فرحنا نجمع ما ذكره من طرق للحديث الغديري المبارك فوجدناه قد ذكره بطرق وأسانيد مختلفة حتى بلغ حدُّه ما فوق التواتر -في مصطلح علم الحديث-، وقد قسَّمنا البحث على تمهيد: درسنا فيها ماهيَّة الحديث وطرق اسناده، ومكانة مسند أحمد بن حنبل بين كتب الحديث، ومن ثم جاء بعده مبحثان: المبحث الأوَّل: درسنا فيه الطرق التي جاءت عن الإمام علي (عليه السلام) بالاحتجاج بالحديث أمام مناوئيه، لأنَّ هذه الشبهة قد ذكرها كثير من العلماء على أنَّ الإمام لم يحتج بحديث الغدير؛ لذا لم يكن ذا حقٍّ بالخلافة، فعمد البحث إلى ذكر الطرق والأماكن التي احتجَّ بها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بحديث الغدير في المسند.
أمَّا المبحث الثاني: فدرسنا فيه الطرق الأخرى التي جاءت تؤكد صحة حديث الغدير وتواتره في المسند، وخُتم البحث بخاتمة، جاءت فيها أبرز النتائج، وبعدها قائمة بالمصادر والمراجع.
والحمد لله رب العالمين..
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدِّمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه وحافظ سرِّه محمد بن عبد الله وأتمَّها على آله الذين اصطفى من عباده المخلصين؛ الذين (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)الأنبياء/27.
وبعد
منذ أن حجَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجته الأخيرة وقفل راجعاً من مكة المكرمة إلى المدينة المنوَّرة وأوقف الحجيج في ذلك الهجير عند غدير خم ليُعلِمَ الناس بتمام النعمة وإكمال الدين، وأعلن عن ذلك صراحة برفع يد خليفة الله ورسوله أمام زرافات من المسلمين ونطق الذي (مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم/4)، بذلك الحديث؛ إذ ألزم به جميع الناس أن يكون الإمام عليٌّ (عليه السلام) المولى عليهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصار الحدث الأبرز والأهم في تاريخ السيرة النبوية والسيرة العلوية، فانتشر الناس في الأمصار يتحدَّثون به ويُذيعونه على الملأ، وقد عُرف ذلك الحديث (بحديث الغدير)، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"، ولمَّا دُوِّنت الأحاديث بعد مائة ونيِّف من السنين؛ تناقلته الألسن حتى صار من أصحِّ الأحاديث، فصُنِّفت المصنفات وأعتُمدت المؤلفات، وصارت الفرق الإسلامية تعتمد من المؤلفات ما تراه موافقاً لشروطها.
ومسند أحمد بن حنبل هو من الكتب المعتبرة الستة التي يستند إليها المسلمون من أهل الفرق الإسلامية، وقد أشار المصنِّف إلى صحته واختياره لما صحَّ من الأحاديث، فوقع الاختيار عليه في البحث، فرحنا نجمع ما ذكره من طرق للحديث الغديري المبارك فوجدناه قد ذكره بطرق وأسانيد مختلفة حتى بلغ حدُّه ما فوق التواتر -في مصطلح علم الحديث-، وقد قسَّمنا البحث على تمهيد: درسنا فيها ماهيَّة الحديث وطرق اسناده، ومكانة مسند أحمد بن حنبل بين كتب الحديث، ومن ثم جاء بعده مبحثان: المبحث الأوَّل: درسنا فيه الطرق التي جاءت عن الإمام علي (عليه السلام) بالاحتجاج بالحديث أمام مناوئيه، لأنَّ هذه الشبهة قد ذكرها كثير من العلماء على أنَّ الإمام لم يحتج بحديث الغدير؛ لذا لم يكن ذا حقٍّ بالخلافة، فعمد البحث إلى ذكر الطرق والأماكن التي احتجَّ بها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) بحديث الغدير في المسند.
أمَّا المبحث الثاني: فدرسنا فيه الطرق الأخرى التي جاءت تؤكد صحة حديث الغدير وتواتره في المسند، وخُتم البحث بخاتمة، جاءت فيها أبرز النتائج، وبعدها قائمة بالمصادر والمراجع.
والحمد لله رب العالمين..
التمهيد
الحديث النبوي، ماهيته، طرق أسانيده
الحديث النبوي والشريف هو الركيزة الثانية التي يرتكز عليها الإسلام الحنيف بعد كلام الله (القرآن الكريم)، حيث أن كلام الله تعالى أُحيط بهالة قدسية ربانية لا يمكن خرقها، إذ(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت/42)، فالقرآن الكريم النص الإلهي الصادر من الله تعالى المُنزل بطريق الوحي الأمين على صدر الخاتم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) المنقول إلينا بالتواتر لفظه ومعناه(1)، وهذا ما تسالم عليه جميع المسلمين بلا استثناء، وانطلاقاً من هذا المفهوم علينا أن نلتزم بكل ما جاء في القرآن الكريم ونطبقه على الواقع.
أمَّا الحديث النبوي: فهو الحديث الصادر من الإنسان الكامل الذي بعثه الله رحمة للعالمين وأمرنا باتباعه وأننسلِّم إليه تسليما، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/7)، إذ إنَّ الذي لا يتبع أوامر الرسول ولا ينتهي بنواهيه فلا يسلم من عقاب الله تعالى الشديد.
وهنا يرد سؤال: هل إنَّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتكلم كما يتكلم الناس؟، أي: أنَّه يتعرض للخطأ والنسيان والسهو والذنب وغيرها؟
الجواب: إنَّ القرآن الكريم أعطى حصانة لرسول الأعظم لم يُعطها لأحد غيره، حيث عصمه من الزلل والخطأ والنسيان والسهو وكل ما يُشين الإنسان، وذلك في قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )(النجم1/5)، وبهذه الآيات الكريمة يُلزمنا الله تعالى بإتباع رسوله الكريم دون تردد، وهذه العصمة أكَّدت عدم زلل رسول الله وإنَّه مسدد من الله تعالى.
ومن هذا المنطلق نعتقد أنَّ كل ما جاء على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله) له أصل في القرآن لكريم، إمَّا لفظاً ومعنى، أو معنى بألفاظ من رسول الله.
ولا يخفى على أحد المكانة التي كان يتمتع بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من رسول الله (صلوات ربي عليهما وآلهما)، وقد قال فيه ما لم يقل في أحد من الصحابة، وبإعتقادنا إنَّ لكل حديث من رسول الله في أمير المؤمنين له أصل في آيات الله المباركة.
طرق وأسانيد الحديث النبوي:
الإسناد في اللغة: "سند: السَّنَدُ: ما ارتَفَعَ من الأَرض في قُبُل الجبل أَو الوادي، والجمع أَسْنادٌ، لا يُكَسَّر على غير ذلك. وكلُّ شيءٍ أَسندتَ إِليه شيئاً، فهو مُسْنَد. وقد سنَدَ إِلى الشيءِ يَسْنُدُ سُنوداً واستَنَدَ وتسانَد وأَسْنَد وأَسنَدَ غيرَه. ويقال: سانَدته إِلى الشيء فهو يتَسانَدُ إِليه أَي أَسنَدتُه إِليه"(2)، فالإسناد هو إسناد شيء لشيء لإضافة القوة له.
الإسناد في الحديث النبوي: وهو إسناد الرجال للحديث الشريف وبيان مدى صحته وهو ماخوذ من المعنى اللغوي لهذا المفهوم، إذ يُقوَّى الحديث بمصداقية ناقله، وقد قالوا في الأحاديث: "هذا إسناد لا تقوم به حجّة"(3)، وقالوا: "هذا اسناد ضعيف جداً"(4) وقالوا أيضا: "إسناد هذا الحديث صحيح"(5) وهذا معلول، وهذا من الآحاد، وهذا حسن، وهذا قبيح ----. إلى آخره من الأوصاف التي ينعتون الحديث الشريف بحسب رواته الذين رووه، وأفضل طرق الحديث؛ هو الحديث المتواتر الصحيح الذي جاء بمن طرق عدة صحيحة لا شية فيها، ورجالها ثقاة.
مسند أحمد بن حنبل ومكانته بين كتب الحديث
هو من أحد كتب الحديث النبوي المشهورة وأوسعها على نطاق الكتب الحديثية، والتي حصلت على مكانة عالية عند أهل السنّة من المذاهب الأربعة؛ حيث تُعدُّ من أمَّات مصادرهم بالحديث، وكذلك هو من أشهر المسانيد العالية عندهم، جعله المحدِّثون من المحققين والجامعين من بعد الصحيحين والسنن الأربعة.
يُنسب المسند "لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164هـ -241 هـ / 780-855م)، يحتوي حسب تقديرات المحدثين على ما يقارب (40) ألف حديث نبوي، منها حوالي (10) آلاف مكررة، مُرتَّبة على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث، حيث رتبه فجعل مرويات كل صحابي في موضع واحد، وعدد الصحابة الذين لهم مسانيد (904) صحابي، وقسَّم الكتاب إلى ثمانية عشر مسندًا، أولها مسند العشرة المُبشرين بالجنة وآخرها مُسند النساء، وفيه الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا توجد في الصحيحين"(6).
وكان أحمد بن حنبل لا يُحبذ التصنيف؛ فهو يرى أنَّه لا ينبغي على المسلم أن ينشغل بكتاب غير القرآن الكريم، إلَّا أنَّه آثر على نفسه أن يكتب الحديث؛ فانتقى أحاديثه في المسند مما سمعه من شيوخه ومؤدبيه؛ ليكون للناس مرجعاً حديثياً يرجعوا إليه في فقههم وأصولهم وتفسيرهم؛ فقال عن مسنده في المقدمة: "عملت هذا الكتاب إماما، إذا اختلفت الناس في سنة رسول الله (ص) رجع إليه."(7)، وقد اختلف المحققون في صحة الأحاديث التي أوردها في المسند، فمنهم من ذهب إلى صحته بالكامل كأبي موسى المديني، ومنهم من قال أنَّه فيه الصحيح والضعيف والموضوع؛ كابن الجوزي والحافظ العراقي وابن كثير، ومنهم من حسن أحاديثه وذهب إلى أنَّه ليس فيه موضوع مثل ابن تيمية وشمس الدين الذهبي والعسقلاني وجلال الدين السيوطي، وقد أضاف إليه ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل زيادات من عندياته ليست من الرواية الواردة عن أبيه، وعُرفت بــ(زوائد عبد الله)، وكذلك زاد فيه الحافظ أبو بكر القطيعي الذي روى عن عبد الله عن أبيه احمد زيادات عن غيره (8).
"انتهى ابن حنبل من تأليف المسند سنة 227 هـ أو 228 هـ تقريبًا، حيث ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن عبد الله بن أحمد بن حنبل سمع المسند من أبيه في هاتين السنتين. استجمع أحمد مادة مطوَّلة من مشايخه ضمن إقامته في بغداد، ورحلاته إلى بلاد الشام واليمن والحجاز، حتى جمع أكثر من سبعمائة ألف حديث كما أخبر، ويشمل ذلك المرفوع والموقوف والمقطوع وغيره. كان أحمد يجمع المسند فيكتبه في أوراق مفردة ومفرَّقة في أجزاء منفردة، على نحو ما تكون المسودة، وقبل وفاته بادر بإسماعه لأولاده وأهل بيته، ومات قبل تنقيحه وتهذيبه فبقي على حاله، ثم إنَّ ابنه عبد الله أَلْحق به ما يُشاكله، وضمَّ إليه من مسموعاته ما يشابهه، فسمع القطيعي من كتبه النسخة الموجودة حاليًا، وبقي كثير من الأحاديث في الأوراق والأجزاء لم يُظفر بها"(9).
فكان لهذا المسند مكانته الكبيرة بين كتب العامَّة، وقد حققه مجموعة من العلماء الذين عُرفوا بالبصر التحقيقي كشُعيب الأنؤوط، وحمزة أحمد الزين، وعبد الله بن عبد المحسن التركي، وبشار عواد معروف، وفي تحقيقهم أشاروا إلى تواتر حديث الغدير المبارك.
المبحث الأوَّل
احتجاج الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) بحديث الغدير في الرحبة
توطئة
احتجاج الإمام علي (عليه السلام) بحديث الغدير على أحقية خلافته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مواطن كثيرة، إلَّا أنَّ المغرضين والذين نصبوا العداء لأمير المؤمنين (عليه السلام) شنَّعوا على أنَّه لم يُطالب يوما بحقِّه ولم يستشهد بهذا الحديث، مما دعاهم إلى نكران الخلافة في هذا الحديث، وكأنَّ عيونهم عميى وآذانهم صمَّاء عمَّا سنذكره على لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من المطالبات والخطب التي قرع بها آذان الكون ليسمعها من لسانه الذي لكان لسان صدق وهو دعوة إبراهيم(عليه السلام) في قوله تعالى: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(الشعراء/84)، فكان جوابه تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم/50)، في حين أنَّ هؤلاء أوردوا شبهات على عدم استشهاد الأمير بحديث الغدير، منها:
الشبهة الأولى: "إنّ الإمام علي بن أبي طالب لم يستدل أبداً بحديث الغدير على خلافته، وهذا ما يدل على أنّ هذا الحديث لم يكن نصّاً على خلافته، لأنّه لو كان نصّاً لادعاه الإمام علي بن أبي طالب، ودعوى ادعائها باطلة بالضرورة"(10).
الشبهة الثانية: "إنّ الإمام علي بن أبي طالب لم يحتج بحديث الغدير على خلافته إلاّ بعد أن آلت إليه الخلافة، فسكوته عن الاحتجاج بذلك، يدل بوضوح على أنّ هذا الحديث لم يكن نصّاً على خلافته بلا فصل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)"(11).
فقد أورد أحمد بن حنبل استشهاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم لبيان أحقيَّته بالخلافة، فجاء في حديث (641) قوله: "حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، فِي الرَّحْبَةِ وَهُوَ يَنْشُدُ النَّاسَ: "مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وَهُوَ يَقُولُ مَا قَالَ؟ فَقَامَ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ "(12)، وقد حكم المحقق على الحديث بالصحة لغيره، وذلك في قوله: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لجهالة أبي عبد الرحيم الكندي، لكن متن الحديثِ صحيح ورد من طرق كثيرة تزيد على ثلاثين صحابياً، قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء8/335: متنه متواتر، وانظر صحيح ابن حبان (6930) و(6931)"(13)، فهو صحيح، وهذا ما دفع أحمد بن حنبل بتخريجه، وهو ردّ على الشبهتين التي ذكرناها آنفاً.
وفي الرحبة أيضاً؛ يُخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث من طريقٍ آخر في قوله: " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي صَالِحٍ الْأَسْلَمِيَّ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يَنْشُدُ النَّاسَ فَقَالَ: " أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا مُسْلِمًا سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَا قَالَ: فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا فَشَهِدُوا"(14)، وقد صححه المحقق في قوله: "صحيح لغيره، زياد بن أبي زياد ترجمه أبو زرعة العراقي في ذيل الكاشف فقال: سمع علي بن أبي طالب وجماعة من البدريين وعنه الربيع بن أبي صالح الأسلمي، قال الخطيب في المتفق والمفترق: أحسبه من أهل الكوفة، ولم يورده ابن حجر في التعجيل مع أنه من شرطه، وباقي رجاله ثقات."(15)، يبدو أنَّ هذا الحديث لا يستطيع المحقق أن يُضعفه وإن جُرح أحد رواته، لأنَّه من مسلَّمات الأحاديث النبوية الشريفة.
وأشار أحمد بن حنبل إلى حادثة الرحبة في موضع آخر بشيء من التفصيل أكثر مما سبق، في قوله: " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، قَالا: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحَبَةِ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ إِلا قَامَ، قَالَ: فَقَامَ مِنْ قِبَلِ سَعِيدٍ سِتَّةٌ، وَمِنْ قِبَلِ زَيْدٍ سِتَّةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " أَلَيْسَ اللهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ؟ "قَالُوا: بَلَى قَالَ: " اللهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"(16)، وقد خرَّج المحقق الحديث في كتب الحديث ليؤكد تواتره وصحته، فحديث الغدير عند أحمد بن حنبل بوروده على لسان إمام المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ينماز بصحة الحادثة وصحة الحديث.
وكذلك ما جاء في قوله: " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا، فِي الرَّحَبَةِ يَنْشُدُ النَّاسَ: أَنْشُدُ اللهَ مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بوآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ لَمَّا قَامَ فَشَهِدَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَحَدِهِمْ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْوَاجِي أُمَّهَاتُهُمْ؟ فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"(17).
وهنا يذكر المحقق حسيكة البخاري ونبزه للذين يوالين أمير المؤمنين (عليه السلام) عبر تحسينه لهذا الحديث بإسناده المذكور، فيقول: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لِضعف يزيد بن أبي زياد، ويونس بن أرقم لينَهُ ابنُ خِراش والهيثمي، وذكره ابن حبان في الثقاوت، 9/287 وقال البخاريُّ في التاريخ الكبير: 8/410: معروفُ الحديث وكان يتشيعُ."(18)، لذا لم يُخرِّج البخاري رواية واحدة للإمام الصادق (عليه السلام)؛ في حين روى لمجموعة يُعرفون بالنصب لآل البيت (عليهم السلام) كعمران بن حطَّان وسمرة بن جندب وغيرهما.
وذكر المصنِّف طريقاً آخر لحادثة الرحمة في قوله: " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ نِزَارٍ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَبْسِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ شَهِدَ عَلِيًّا فِي الرَّحَبَةِ قَالَ: أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ وَشَهِدَهُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ إِلا قَامَ، وَلا يَقُومُ إِلا مَنْ قَدْ رَآهُ، فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ حَيْثُ أَخَذَ بِيَدِهِ يَقُولُ: اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ فَقَامَ إِلا ثَلاثَةٌ لَمْ يَقُومُوا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، فَأَصَابَتْهُمْ دَعْوَتُهُ"(19)، من الذين أصابتهم دعوة أمير المؤمنين (عليه السلام) الصحابي (أنس بن مالك) إذ دعا عليه الإمام (عليه السلام) ببياض لا تغطيه العمامة؛ فأُصيب بالبرص.
وهذا الخبر جاء في قول ابن قتيبة: "حيث نزل إليه الإمام علي من المنبر وقال له: ما لك يا أنس لا تقوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سمعته منه يومئذ كما شهدوا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت سني ونسيت، فقال الإمام علي: إن كنت كاذبا فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة، فما قام حتى أبيض وجهه برصا، فكان بعد ذلك يبكي ويقول: أصابتني دعوة العبد الصالح لأني كتمت شهادته."(20).
وليس هذا فحسب؛ وإنَّما ذكر أحمد بن حنبل حادثة الرحبة واحتجاج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الحديث في مواضع متعددة(21) ولكننا نكتفي بهذا القدر خشية الإسهاب.
المبحث الثاني
حديث الغدير في سبيل الرواية
في هذا المبحث نُشير إلى ورود حديث الغدير المبارك في مسند أحمد بن حنبل من غير الاحتجاج الوارد على لسان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكما أشرنا فيما سبق من أصحيَّة احتجام الإمام بهذا الحديث وشهد له الصحابة، وكان ختامه دعوة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على أنس بن مالك وإصابته بالبرص مما يكشف عن مظلومية الإمام (عليه السلام) حتَّى في حكومته، وهذا نلمس منه حريَّة الرأي وعدم حكم الناس بالحديد والنار؛ لذا بقيت تلك الدولة صوت العدالة الإنسانية على مر العصور.
روى أحمد بن حنبل حديث الغدير في قوله: " حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ابْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ، وَرَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ بَعْدُ: وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"(22)، فالمحقق يُصحح الصدر القول وينسب الفقرة الثانية إلى الناس، فالمقطع الأوَّل اخذه من المسلَّمات في صحته.
وأروع ما جاء في مسند أحمد بن حنبل ما ذكره من فضائل على لسان بن عباس لمَّا سمع الناس تطعن في أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك ما جاء في قوله: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَلْجٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، إِذْ أتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ، إِمَّا أَنْ تَقُومَ مَعَنَا، وَإِمَّا أَنْ يُخْلُونَا هَؤُلَاءِ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ أقُومُ مَعَكُمْ، قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: فَابْتَدَءُوا فَتَحَدَّثُوا، فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا، قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ، وَيَقُولُ: أُفْ وَتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرٌ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللهُ أَبَدًا، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ، قَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ قَالُوا: هُوَ فِي الرَّحَى يَطْحَنُ، قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدُكُمْ لِيَطْحَنَ؟ قَالَ: فَجَاءَ وَهُوَ أَرْمَدُ لَا يَكَادُ يُبْصِرُ، قَالَ: فَنَفَثَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ.
قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ فُلَانًا بِسُورَةِ التَّوْبَةِ، فَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، قَالَ: لَا يَذْهَبُ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، قَالَ: وَقَالَ لِبَنِي عَمِّهِ: أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟، قَالَ: وَعَلِيٌّ مَعَهُ جَالِسٌ، فَأَبَوْا، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ: فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ فَأَبَوْا، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ.
قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَفَاطِمَةَ، وَحَسَنٍ، وَحُسَيْنٍ، فَقَالَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب: 33].
قَالَ: وَشَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ، لَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ، قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ نَائِمٌ، قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ، قَالَ: فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَدْرِكْهُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ.
قَالَ: وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى نَبِيُّ اللهِ، وَهُوَ يَتَضَوَّرُ، قَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ، لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَلَئِيمٌ، كَانَ صَاحِبُكَ نَرْمِيهِ فَلا يَتَضَوَّرُ، وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وَقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: وَخَرَجَ بِالنَّاسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَخْرُجُ مَعَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللهِ: لَا فَبَكَى عَلِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي.
قَالَ: وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي. وَقَالَ: وسَدَّ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ جُنُبًا، وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ، قَالَ: وَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ عَلِيٌّ"(23)، لو لم تكن غير ما ذكره ابن عباس في علي لكفى، ماذا أقول فيك وقد:
غـالـى يـسـارٌ واسـتخفَّ يمينُ ---- بك يا لكهنك لا يكاد يبينُ
تُـجـفـى وتُـعـبد والضغائن تغتلي ---- والدهر يقسو تارةً ويلينُ
وتـظـلّ أنـت كـمـا عهدتُك نغمة ---- للآن لم يرقى لها تلحينُ
فـرأيـت أن أرويـك مـحض رواية ---- للناس لا صور ولا تلوين
فـلا أنـت أروع إذ تـكـون مـجرداً ---- ولقد يضر برائع تثمين
ولـقد يضيق الشكل عن مضمونه ---- ويضيع داخل شكله المضمون
إنـي أتـيـتـك أجـتليك وأبتغي ---- ورداً فعندك للعطاش معين
وأغـض عـن طـرفـي أمام شوامخ ---- وقع الزمان وأسهن متين
وأراك أكـبـر مـن حـديث خلافة ---- يستامها مروان أو هارون
لـك بـالنفوس إمامةٌ فيهون لو ---- عصفت بك الشورى أو التعيين
فـــدع الــــمـــعـــاول تـــزبـئـر قساوةً ---- وضــــــراوةً إن الـــــبـنـــاء مـتـين(24)
يبدو أن هذا الحديث المبارك لم يكن في واقعة الغدير فقط، فمما ذكره ابن عباس يُؤكد لنا أنَّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يُردد هذا الحديث الشريف في أكثر من موضع للتأكيد ورفع الشك من أذهان المتلقين، حتى لا تكون للناس على النبي (صلى الله عليه وآله) حجة بعد ذلك.
ومثل ذلك ما جاء في قوله: " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْفَسْطَاطِ: فَسَأَلَهُ عَنْ ذَا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ قَالَ مَيْمُونٌ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْقَوْمِ، عَنْ زَيْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ[وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ"(25)، وقد صحح المحقق هذا الحديث دون الفقرة الأخيرة، وهذا الحديث جاء من طريق زيد بن أرقم، واللافت للنظر أنَّ أحمد بن حنبل في هذه الروايات المباركة اعتمد على طرق الحديث المختلفة، وقد صححها وأثبتها في مسنده مما يُشعر بتواتر الحديث بطرقه الواردة في مسند أحمد بن حنبل.
وليس هذا فحسب؛ وإنَّما جاء بطريقٍ آخر في قوله: "حَدَّثَنَا الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَرَ اسْمُهُ جِبْرِيلُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الْأَزْدِ فَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا. الْتَمِسُوا لَهُ ذَا رَحِمٍ. قَالَ: فَلَمْ يُوجَدْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: ادْفَعُوهُ إِلَى أَكْبَرِ خُزَاعَةَ ---- فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ ذَكَرْتُ عَلِيًّا فَتَنَقَّصْتُهُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ فَقَالَ: يَا بُرَيْدَةُ أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"(26)، وهذا السند يكشف أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشار إلى الحديث في أكثر من موضع، وفي هذا الإسناد جاء بطريقة التهديد لبريدة، وبريدة في هذا الحديث هو مصداق لمفهوم النصب الذي كان يكنُّه كثير من الصحابة لأمير المؤمنين (عليه السلام) فأشار النبي الأعظم إلى بريدة من باب المصداق وهو يشمل جميع من يبغض أمير المؤمنين (عليه السلام).
وكان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، يُناشد الناس في مواضع عدَّة ليشهدوا أنَّهم سمعوا هذا الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأهميَّته في أحقيَّة الإمام على غيره من الصحابة، من هذه المواضع ما ذكره أحمد بن حنبل في قوله: " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَامَ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ، فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"(27)، وهذا يؤكد أن الإمام (عليه السلام) كان يُطالب بحقه في كل حين إلَّا أن الناس لم تُعر لمناشدته أدنى أهميَّة، وما ذاك إلَّا لينتشلهم من الحضيض ليرقَ بهم سُلَّم الرقي ورفعهم من جبِّ العبودية إلى سمو الأحرار، وهم يفضلون العيش بين نثيلهم ومعتلفهم، فكان ما يطلبون بسعر ما يُخرجون.
وغير هذه الرواية ما جاء بذكرها أحمد بن حنبل(28) إلَّا أننا نكتفي بما ذكرناه خشية الإطالة والتكرار. والحمد لله رب العالمين..
الخاتمة
بعد هذه الرحلة الممتعة في مقام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الأسمى، الذي اختصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) به، ولم يقل مثل ذلك في غيره فكان من خصائصه الفريدة، وقد تمخض هذا البحث بالنتائج الآتية:
1- مسند أحمد بن حنبل من المصادر المهمَّة التي يعتمد عليها أصحاب المذاهب الأربعة، فضلاً عن أنَّه مصدر رئيس عند الحنابلة.
2- شهد أحمد بن حنبل بصحة ما نقله في مسنده، فهو لم يذكر الأحاديث الضعيفة، فكان خرِّيتاً في علم الحديث ومن الحاذقين.
3- ذكر أحمد بن حنبل طرق عدَّة لحديث الغدير المبارك، مما جعلنا نقطع بتواتره في المسند فقط.
4- ذكر أحمد بن حنبل احتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الحديث، وبهذا كشف لنا بمطالبته (عليه السلام) جاءت لشحذ الهمم والنصرة، إلَّا أنَّهم صمَّوا آذانهم دون نصرته.
5- هدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل ناصبي للعداء من طريق تحذيره لبريدة الأسلمي، فكان مصداق القول (بريدة) إلَّا أن الكلام عام وشامل لكل من يبلغه الحديث الشريف.
6- علاوة على تصحيح أحمد بن حنبل لطرق الحديث المتعددة؛ قام محقق المسند بتصحيحه أيضاً عبر إشاراته وإحالاته إلى كتب الحديث الأخرى.
ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا هذا القليل بكرمه وأن يجعل هذا العمل ذخراً لنا عند الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والحمد لله رب العالمين.
اضف تعليق