يرى إنَّ هذه الظاهرة جاءت بفقدان الحس البلاغي والدلالي والذوق المعنوي للفرد العربي فالكلمات العربية إكتنفها الغموض، مما أفقد اللفظ إيحاءه وظلاله، فلم نعد نحن العرب نملك رهافة الحس التي كانت تكشف الفرق ما بين لفظتي قرب اقترب" أو فكر إفتكر، حتى لم نعد نعرف الفرق بين الكلمات...
من الظواهر اللغوية التي شغلت العرب دراسة ونظراً عميقاً؛ ظاهرة الترادف، وهي ظاهرة قديمة قدم البحث والتنقيب الدلالي والبلاغي، وهو تتابع شيء خلف شيء، وقال الجوهري: "الردف المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب، والرَّديف: المرتدف، والجمع رِدَاف"، فهو التتابع من وجهة نظر اللغة.
أمَّا مفهومه من الناحية اللغوية يُعرِّفه الشريف الجرجاني بأنَّه: "دلالة عدَّة كلمات مختلفة ومنفردة على مسمَّى واحد أو المعنى الواحد"، مثل: (المطر والغيث)، (البُر والحنطة) (البعير والجمل)، (الدار والبيت والمسكن والمنزل)، (الريح والرياح)، (فكر وافتكر) (روى وشرب)، (زوجة وإمرأة)، (مصحف وكتاب، وقرآن، وذكر، وفرقان)، (الشكر والحمد)، (جلس وقعد)، (قام ونهض)، (جاء وأتى) وغيرها من الكلمات التي أوردها العلماء السابقون بالترادف.
الترادف عند اللغويين
جاء الترادف في كتب اللغة، وقد عنوا به عناية كبيرة؛ حيث ورد في معنى الخبر عند أحمد بن فارس أنَّه "في صفاته [تعالى] بمعنى العالم ببواطن الأمور وظواهرها، وبما كان منها، وما يكون: والخبر: النبأ، وهو الكلام الذي يُفيد به المتكلم السامع واقعةً من الواقعات"، أي أنَّ (الخبر والنبأ) بمعنى واحد، ولا يخلو كتاب من كتب اللغة (المعجمات) من هذا المفهوم، في حين أنَّ هذا المعنى في مفهوم الترادف يفقد قيمة الكلمة الدلالية، إذ إنَّ مفهومها في السياق سيكون غير قصدي وإنَّما جاء به الباث اعتباطاً للوصول بوساطته إلى الغاية المرجوَّة دون الإلتفات إلى القيمة الدلالية التي تُزيد من تماسك السياق النصي، وإلى هذا المعنى وغيره ذهب كثيرٌ من اللغويين القدامى والمحدثين في تفسيرهم لمعاني الكلمات.
الترادف في رؤية السيد الشيرازي
يرى المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي: إنَّ هذه الظاهرة جاءت بفقدان الحس البلاغي والدلالي والذوق المعنوي للفرد العربي فيقول: "إنَّ الكلمات العربية إكتنفها الغموض، مما أفقد اللفظ إيحاءه وظلاله، فلم نعد -نحن العرب- نملك رهافة الحس التي كانت تكشف الفرق ما بين لفظتي "قرب ـ اقترب" أو "فكر ـ إفتكر"، حتى لم نعد نعرف الفرق بين الكلمات "سار ــ سارب ــــ وبكَّر"، "دلك وأولج ــــ ودخل" وما أشبه"، ويوعز سماحته سبب عدم معرفة ذلك إلى أسباب منها:
1ـ كثرة استعمال الألفاظ في غير معانيها الأدبية، فحينما يستعمل العربي كلمة قرب في المجال المحدد لـ(اقترب) أو حتى كلمة سار في موضع سرب، تختلط ظلال الكلمتين مع بعضهما، وتضيع الإيحاءات الخاصة.
2ـ تعلق أذهاننا بمعان جامدة ومحددة للألفاظ العربية، وفقدنا الشعور بمحور شعاع الكلمة، وباستعمالنا كلمة (جن) يتبادر إلى أذهاننا ذلك المخلوق الغريب دون التفكير بوضعها السياقي ومعناها الرئيس، وكذلك كلمة (جنين) تذهب أذهاننا مباشرة إلى الولد الذي في بطن أمه، دون أن نعرف أنَّ هناك علاقة تناسب مع معنى الولد الذي في بطن أمه ومعنى المخلوق الغريب، وهي أن كليهما مستور عن أعين الناس.
وهذا لا يعني أن المشكلة في اللغة؛ وإنَّما المشكلة في الاستعمال الذي حدد مفهوم الكلمة بمصداق واحد وترك مصاديقها الأخرى، فعنده السيد الشيرازي لا اشكال في وقوع الاشتراك المعنوي؛ أمَّا اللفظي ففيه أقوال خمسه: أصحها إمكانه وقوعه للنقل والتبادر وصحة السلب، ومثله فيهما الترادف.
وهكذا تتداخل إيحاءات اللفظ العربي ببعضها ونفقد بذلك فهم أهم سمة من سمات اللغة العربية التي بفهمها يسهل فهم القرآن الكريم.
ممكن مثل هذا المعنى يحدث في كلام العرب والشعر العربي والكلام المتداول، ولكن لا يمكن أن يكون السياق القرآني بمفرداته يحتمل هذا المعنى، لأنَّ القرآن الكريم فيه إعجاز لغوي قد تحدَّى الله به العرب على سبيل الحكاية، فالسيد الشيرازي يرفض ظاهرة الترادف في القرآن الكريم رفضاً قاطعاً ولا سبيل للترادف في كلام الله تعالى بمفهومه اللغوي الذي قول مطابقة المعنى للألفاظ المتعددة مطابقة تامَّة.
والسؤال: كيف نخرج من هذا المفهوم إلى المعنى القرآني الحقيقي؟
يُجيب السيد الشيرازي بنقاط ثلاث؛ على النحو الآتي:
1ـ عدم الاندكاك، والانتقال دفعة ليس بمحال وعلى فرضه ينسبق الأقرب منها إلى الذهن.
2ـ إنَّه لا حاجة إلى المعاني غير المتناهية، بل يستحيل من الإنسان المحدود أن يُحيط بكلام اللامحدود.
3ـ إن الحكمة قد تقتضي التطويل؛ وقد تقتضي الإجمال، وقد يُؤتى بالقرينة وليس تطويلاً بل تفيد معنى جديداً أيضاً، وقد تكون القرينة الحال.
فبهذا الإجمال يمكن فهم اللفظ القرآني ولا وجود للترادف بما هو ترادف حقيقي، فالسيد الشيرازي نفى وجود الترادف بما هو ترادف على المفهوم السائد عند أهل اللغة ويثبته من حيث وحدة المفهوم وتعدد المصاديق.
والأُدباء اليوم يكتشفون ظلال الكلمات وإيحاءاتها من موارد الاستعمال في منطق البلغاء أكثر مما يكتشفونها في بطون الكتب اللغوية، وذلك لأنَّ ما في كتب اللغة لا يعدو أن يكون تسجيلاً جامداً ميتاً لموارد الاستعمال، أو استنباطه لمعنى مشترك منها قد قام به مؤلفو الكتب، ومن هنا يكون تعرّف الشخص ذاتياً على هذه الموارد واستنباطها بنفسه ومعرفة المعنى الجامع بينها، أفضل من تقليد كتب اللغة.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025
http://shrsc.com
.........................................
اضف تعليق