q
في الأيام التي يكون فيها الجو صافيًا، يمكن رؤية أطلال «غوبكلي تبه» وهي تمتد عبر جنوب تركيا على طول الطريق إلى الحدود السورية حتى حوالي 50 كيلومترًا من الحدود التركية. ويُوصَف هذا الموقع الأثري، الذي يقع على قمة أحد الجبال، والذي يرجع تاريخه إلى 11,600 عام مضت...
بقلم: أندرو كاري

في الأيام التي يكون فيها الجو صافيًا، يمكن رؤية أطلال «غوبكلي تبه» وهي تمتد عبر جنوب تركيا على طول الطريق إلى الحدود السورية حتى حوالي 50 كيلومترًا من الحدود التركية. ويُوصَف هذا الموقع الأثري، الذي يقع على قمة أحد الجبال، والذي يرجع تاريخه إلى 11,600 عام مضت، بأنه أقدم معبد في العالم، حتى إنّ أعمدته التي تتخذ شكل حرف "T" وأسواره الدائرية قد بُنيت قبل عصر الفخار في منطقة الشرق الأوسط.

عاش بُناة هذه المعالم التاريخية قبيل مرحلة تحوُّل بارزة في تاريخ البشرية؛ ألا وهي الثورة الزراعية، حين بدأ البشر في زراعة المحاصيل واستئناس الحيوانات، وتدجينهما. بيد أنه لا يوجد أثرٌ لتدجين الحبوب في معبد «غوبكلي تبه»، وهو ما يشير إلى أن سكان تلك المنطقة آنذاك لم يشهدوا التحول إلى الزراعة. وتثبت عظام الحيوانات الموجودة بوفرة في تلك الأطلال أن سكانها برعوا في الصيد، كما توجد أدلّة على أنهم أقاموا ولائم ضخمة. وقد افترض علماء الآثار أن مجموعات متنقلة من الصيادين وجامعي الثمار من جميع أنحاء المنطقة كانت تجتمع أحيانًا لإقامة حفلات شواء ضخمة، وأن ولائم اللحوم هذه هي التي أعانتهم على تشييد تلك المباني الحجرية المذهلة.

وقد بدأ هذا المنظور يتغير بفضل عدد من الباحثين مثل لورا ديتريتش، من المعهد الألماني للآثار في برلين. فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، اكتشفت ديتريتش أن بُناة هذه المباني الأثرية كانوا يقتاتون على كميات كبيرة من العصيدة واليخنة المُعدة من حبوبٍ سبق أنْ طحنها وعالجها السكان القدماء على نطاق شبه صناعي1 وتكشف الأدلة التي عُثر عليها في معبد «غوبكلي تبه» أن الإنسان القديم اعتمد على الحبوب في وقت يسبق بكثير ما كان يُعتقد سابقًا، بل وقبل ظهور دليل على تدجين تلك النباتات. وتأتي أبحاث ديتريش في إطار حركة متنامية تهدف إلى مزيد من التمحيص في دور الحبوب وغيرها من النشويات في النظام الغذائي للبشر قديمًا.

يستعين الباحثون في هذا السياق بمجموعة متنوعة من التقنيات، بدءًا من فحص الآثار المجهرية على الأدوات القديمة، ووصولًا إلى تحليل بقايا الحمض النووي في أواني الطعام. بل إن بعض الباحثين يجرّب إعادة إنتاج وجبات طعام يبلغ عمرها 12 ألف عام بأساليب تعود إلى تلك الحقبة. وإذا عدنا بالتاريخ لما قبل ذلك، سنجد أدلة تشير إلى أن بعض البشر كانوا يأكلون النباتات النشوية منذ أكثر من 100 ألف عام. وكلّ هذه الاكتشافات تدحض الفكرة المترسخة بأن البشر الأوائل كانوا يقتاتون في الأساس على اللحوم، وهي الفكرة التي استند إليها نظام «باليو» الغذائي Palaeo، المعروف في الولايات المتحدة وبلدان أخرى، والذي ينادي بالابتعاد عن تناوُل الحبوب وغيرها من النشويات.

وتوفِّر الأبحاث الجديدة معلومات كثيرة لم تُتح لدينا من قبل حول أنواع الطعام التي شكّلت الأنظمة الغذائية في العصور القديمة. وفي ذلك الصدد، يقول دوريان فولر، عالِم الآثار من كلية لندن الجامعية: "نحن بصدد الوصول إلى أدلة تكفي للبرهنة على أنه وُجدت فئة جديدة من الأطعمة لم نكن نعلم عنها شيئًا".

حديقة من أحجار الرُّحى

بدأت اكتشافات ديتريتش عن ولائم «غوبكلي تبه» في "حديقة الصخور" في الموقع، وهو اسم أطلقه علماء الآثار دون إمعان في التفكير على حقل قريب من الموقع، ألقوا فيه ما عثروا عليه من أحجار رحى من البازلت، وأوعية علف مصنوعة من الحجر الجيري، وغيرها من قطع الأحجار الكبيرة المُعالجة التي عُثر عليها وسط الركام.

وتشير ديتريتش إلى أنه مع استمرار أعمال التنقيب والحفر على مدى العقدين الماضيين، زادت مجموعة أحجار الرُّحى رويدًا رويدًا، وتضيف قائلة: "لم يفكر أحدٌ في تلك الأحجار"، لكن عندما بدأت تصنِّفها في عام 2016، أصابها الذهول من أعدادها الهائلة؛ فمساحة حديقة الصخور بلغت ما يعادل مساحة ملعب كرة قدم، واحتوت على أكثر من عشرة آلاف من أحجار الرُّحى، وما يقرب من 650 طبقًا ووعاءً منحوتًا من الأحجار، بعضها يتسع لما يصل إلى 200 لتر من السوائل.

تعقيبًا على ذلك، تقول ديتريتش: "لا يوجد كل هذا العدد من الرُّحى في أي موقع آخر في منطقة الشرق الأدنى، حتى في أواخر العصر الحجري الحديث، حين كانت الزراعة قائمة بالفعل. امتلك ساكني الموقع مجموعة كاملة من الأواني الحجرية، بكافة الأحجام التي يمكن تخيُّلها. فما سبب وجود هذا العدد الهائل من الأواني الحجرية؟". ترى الباحثة أن هذه الأواني كانت تُستخدم في طحن الحبوب، لإعداد العصيدة والجعة. وكان علماء الآثار قد افترضوا منذ وقت طويل أن الأوعية الحجرية في المكان إنما هي دليل على شعائر استُهلكت فيها الجعة في بعض المناسبات في «غوبكلي تبه»، إلا أنهم عدوها ممارسة نادرة، قام بها أصحابها على سبيل الترفيه.

وليس من السهل استنباط الأجوبة من الحجارة في هذا الموقع، أو غيره. ففي علم الآثار، يكون رصد الأدلة فيما يتعلق بالوجبات المكوَّنة من اللحوم أسهل بكثير منه في حال الوجبات المكوَّنة من الحبوب، أو غيرها من النباتات؛ لأن عظام الحيوانات المذبوحة تتحجّر بسهولة أكبر من بقايا الأطعمة النباتية. والطبيعة الهشة للبقايا النباتية القديمة تجعل الأبحاث في علم النباتات القديمة – الذي يبحث في استخدام الإنسان القديم للنباتات – مهمة صعبة تستغرق وقتًا طويلًا. ويستخدم الباحثون مناخل، وشِّبَاك دقيقة، ودِّلاء، لغسل الحطام الذي يجمعونه من المواقع الأثرية وفصله، فتطفو القطع الصغيرة من المواد العضوية، مثل البذور، والخشب المتفحم، والطعام المحترق، إلى أعلى، بينما تغوص الأوساخ والصخور الأثقل وزنًا.

والغالبية العظمى مما يَعثر عليه الباحثون تكون من المواد الخام التي لم تجد طريقها قط إلى أواني الطعام. ومن خلال تحديد عدد بذور الحشائش، ونوى الحبوب، وبذور العنب الممزوجة بالتربة، وحسابه، يمكن لعلماء النباتات القديمة معرفة ما كان ينمو من نباتات في المنطقة المحيطة بالموقع. ويُستدَل من وجود كميات كبيرة من أي نوع من النباتات على أن البشر القدماء ربما استخدموا، بل وزرعوا، تلك النباتات.

تأتي أولى الأدلة على تدجين النباتات، على سبيل المثال، من حبوب القمح وحيد الحبة، التي عُثر عليها في موقع قريب من «غوبكلي تبه»، والتي تختلف اختلافًا طفيفًا من حيث الشكل والجينات عن الأصناف البرية2 أما في موقع «غوبكلي تبه» نفسه، فتبدو الحبوب برية، وهو ما يشير إلى أن عملية التدجين لم تكن قد حدثت بعد، أو ربما كانت في مراحلها الأولى. (يعتقد علماء الآثار أن تغيير التدجين لشكل الحبوب ربما استغرق قرونًا).

ومن الصعب العثور على دليل مباشر على النباتات التي وجدت طريقها إلى أواني الطهي. ولمعرفة الأطعمة التي تناولها البشر قديمًا، يلجأ علماء الآثار إلى مصادر أدلة كانوا يتجاهلونها في السابق، مثل قِطَع الطعام المتفحمة بطريق الخطأ في الماضي، كيخنة أو عصيدة تُركت على النار وقتًا طويلًا، أو قِطَع خبز سقطت في موقد ما، أو تفحمت في أحد الأفران. فتقول لوسي كوبياك-مارتنز، وهي أخصائية في علم النباتات القديمة، وتعمل في شركة "بياكس كونسالت" BIAX Consult لعلم الآثار البيولوجي وإعادة الإعمار البيئي في زاندام بهولندا: "أي شخص طهى طعامًا يعلم جيدًا أنه عرضة للاحتراق أحيانًا".

حتى وقت ما قبل سنوات قليلة، نادرًا ما اهتم الباحثون ببقايا هذه الأطعمة المحترقة التي يصعب تحليلها. حول ذلك، يقول أندرياس هيس، عالِم النباتات القديمة في الأكاديمية النمساوية للعلوم في فيينا: "هذه مواد هشة وقبيحة الشكل، تَحاشَى معظم الباحثين التعامل معها". كان الباحثون يزيلون قطع الفخار المحطم المغطاة ببقايا الطعام، أو يتخلصون منها، باعتبارها مواد عديمة الفائدة، وكانوا يستبعدون قِطَع الطعام المتفحمة، بوصفها "مصدر غذاء محتمل" لا يمكن تحليله، فينحونها جانبًا، أو يتخلصون منها.

كانت الخطوة الأولى نحو تغيير هذا التصور هي العودة إلى المطبخ القديم. وقد طرحت هذه الفكرة سولتانا فالاموتي، عالمة النباتات القديمة من جامعة أرسطو في ثيسالونيكي في اليونان، التي لم يكن من قبيل المصادفة أنها شغوفة بالطهي المنزلي أيضًا. قضت فالاموتي السنوات الأولى من حياتها المهنية تحمل الدِّلاء والمناخل من موقع تنقيب إلى آخر في اليونان، بينما كانت تبحث في مخازن المتاحف أيضًا عن بقايا نباتية قديمة لتحليلها. وتيقّنَت من خلال عملها أن هناك ثروة غير مُستغلَّة من الأدلة تكمن في بقايا الطعام المحترقة، وقد تعود بالنفع إذا أمكنها أن تجد طريقة لتحديد ما كانت تبحث عنه.

قبل أكثر من عشرين عامًا، قررت فالاموتي تحويل مختبرها إلى مطبخ تجريبي، فكانت تطحن القمح وتسلقه لإعداد البرغل، ثم تتركه يتفحم في الفرن لمحاكاة حوادث الطهي القديمة (انظر: "وجبات سريعة من العصر البرونزي"). ومن خلال مقارنة البقايا المحترقة بعينات يرجع تاريخها إلى 4000 عام من أحد المواقع في شمال اليونان، تمكنت فالاموتي من اكتشاف وجود تطابق بين النسختين القديمة والحديثة، وإثبات أن هذه الطريقة في تحضير الحبوب تمتد أصولها إلى العصر البرونزي3.

واصلت فالاموتي تجاربها على مدار العقد التالي. وبدءًا من عام 2016، استطاعت بمساعدة منحة من المجلس الأوروبي للبحوث إنشاء مجموعة مرجعية من البقايا اليابسة والمتفحمة تضم أكثر من 300 نوع من العينات القديمة والتجريبية. فبعد إعداد عجين الخَبز، وخَبْزه، وطهو العصيدة والبرغل، وطعام تقليدي يُسمَّى "تراشانا" - يُصنَع من القمح والشعير المزروعَين باستخدام بذور توارثت الأجيال استخدامها – كانت فالاموتي تترك كل عينة منها لتتفحم داخل أحد الأفران تحت ظروف مُحْكَمة.

بعد ذلك، تكبّر فالاموتي هذه الأطعمة المتفحّمة بمعدل تكبير يتراوح بين 750 و1000 مرة، لرصد التغيرات في بِنْية خلايا الطعام، نتيجة عمليات الطهي المختلفة. وسواء أكانت الحبوب مسلوقة، أَم طازجة، أم مطحونة أَم كاملة، أم مجففة أَم منقوعة، بدت جميعها بأشكال مختلفة عند تكبيرها بدرجة عالية. على سبيل المثال، تشير فالاموتي إلى أن إعداد الخُبز يتسبب في تكوين فقاعات في النشا، في حين أن سلق الحبوب قبل حرقها يُكسِب النشا قوامًا جيلاتينيًّا، وهي تقول: "يمكننا رؤية كل ذلك تحت المجهر الإلكتروني الماسح".

ومن خلال مقارنة العينات القديمة بنتائج التجارب الحديثة، لم تتعرف فالاموتي على الأنواع النباتية فحسب، بل وضعت تصورًا جديدًا لطرق الطهي والأكلات في بلاد اليونان القديمة. وثمة أدلة على أن سكان المنطقة كانوا يأكلون البرغل منذ 4000 عام على الأقل4. فتقول فالاموتي إن سلق الشعير أو القمح، ثم تجفيفهما للتخزين والإماهة السريعة لاحقًا، يُمَكِّن المرء من "معالجة المحصول بكميات كبيرة، والاستفادة من حرارة الشمس. وبعدها، يمكن استخدامه على مدار العام. كان هذا هو الطعام السريع في الماضي".

يعكف باحثون آخرون أيضًا على تتبُّع أخطاء الطهي القديمة. فتقول أمايا أرانز-أوتايجي، عالمة النباتات القديمة من متحف باريس للتاريخ الطبيعي، إن بقايا الطعام المتفحّمة "تمدّنا بأدلة مباشرة حول طبيعة هذا الطعام. وتُعد هذه ثورة. إنه مصدر جديد للمعلومات".

يذكر أنه كان من الصعب على الباحثين في الماضي العثور على أدلة دامغة تثبت أن أسلافنا الأوائل تغذوا على النباتات. فتقول كوبياك-مارتنز: "لطالما شككنا في أن النشا كانت جزءًا من النظام الغذائي لأشباه البشر الأوائل، والإنسان العاقل في بداياته، لكنْ لم تتوفر لدينا أدلة على ذلك".

تدعم البيانات الجينية فكرة أن البشر كانوا يأكلون النشا. ففي عام 2016، على سبيل المثال، أفاد علماء وراثة5 أن البشر المعاصرين لديهم نسخ من الجين الذي ينتج إنزيمات لهضم النشا بأعداد أكبر من أي جنس قريب للبشر من طائفة الرئيسيات. في ذلك الصدد، تقول سينثيا لاربي، عالمة النباتات القديمة من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة: "لدى البشر ما يصل إلى 20 نسخة، في حين يمتلك الشمبانزي نسختين فقط". وقد أسهَم هذا التغيُّر الجيني في سلسلة نسب البشر في تحديد شكل النظام الغذائي لأسلافنا، ولنا نحن الآن. وتضيف لاربي قائلة: "يشير ذلك إلى وجود انتخاب للأنظمة الغذائية عالية النشا في حال الإنسان العاقل".

وللبحث عن أدلة داعمة لهذا الاكتشاف في السجل الأثري، لجأت لاربي إلى مواقد الطهي في عدة مواقع في جنوب إفريقيا، يعود تاريخها إلى 120 ألف عام، وأخذت منها قطعًا من مواد نباتية متفحمة - بعضها بحجم حبة الفول السوداني. وباستخدام المجهر الإلكتروني الماسح، رصدت أنسجة لخلايا نباتات نشوية6 هي أقدم دليل على طهي الإنسان القديم للنشا. عن هذا، تقول: "منذ مدة تتراوح من 120 ألف إلى 65 ألف سنة مضت، كان البشر يطهون الجذور والدرنات"، وتضيف قائلة إنّ هناك اتساقًا كبيرًا بين الأدلة، لا سيما بمقارنة هذه البقايا بالبقايا الحيوانية من الموقع ذاته. لقد "غَيَّر القدماء تقنيات الصيد واستراتيجياته على مرّ الزمن، لكنهم لم يتوقفوا عن طهي النباتات وتناوُلها".

ومِن المحتمَل أن البشر الأوائل اتبعوا نظامًا غذائيًّا متوازنًا، وكانوا يعتمدون على النباتات النشوية للحصول على السعرات الحرارية، وقت أن كانت الطرائد نادرة، أو صعبة الصيد. وتضيف لاربي قائلة: "قدرتهم على العثور على الكربوهيدرات مع انتقالهم إلى بيئات معيشية جديدة وفَّرت أطعمة أساسية مهمة".

وتشير الأدلة إلى أن الأطعمة النباتية كانت معروفة أيضًا لدى إنسان النياندرتال. ففي عام 2011، نشرت أماندا هنري، وهي اختصاصية في علم الإنسان القديم، وتعمل الآن في جامعة لايدن في هولندا، النتائج التي استخلصتها من لويحات سِنِّية أُخذت من أسنان أفراد نياندرتال دُفنوا في إيران وبلجيكا قبل فترة تتراوح بين 46 ألف و40 ألف ألف عام مضت. وقد أظهرت الأحافير النباتية الدقيقة العالقة والمحفوظة في اللويحات المتصلبة أن البشر كانوا يطهون الأطعمة النشوية ويأكلونها، بما في ذلك الدرنات، والحبوب، والتمور7 وهنا تقول هنري: "النباتات منتشرة في كل مكان في بيئتنا، ولا عجب أننا استفدنا منها".

وفي مايو الماضي، أفادت كريستينا وارينر، اختصاصية علم الوراثة القديمة من جامعة هارفارد في كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وزملاؤها بأنهم استخرجوا حمضًا نوويًّا بكتيريًّا من اللويحات السِنِّية لأفراد نياندرتال، منهم فرد يعود تاريخه إلى 100 ألف عام، كان يسكن في ما يُعرَف الآن بدولة صربيا. وشملت الأنواع البكتيرية التي وجدوها في الحمض على بعض البكتيريا المتخصصة في تفكيك النشا إلى سكريات، وهو ما يدعم فكرة أن إنسان النياندرتال كان قد تأقلم بالفعل على نظام غذائي غني بالنباتات8. وقد عُثر على بكتيريا مشابهة في لويحات الأسنان لدى البشر المعاصرين الأوائل، فيما يُعَد دليلًا آخر على تناوُلهم النباتات النشوية.

وتدحض هذه الاكتشافات فكرة أن أسلافنا كانوا يقضون وقتهم ملتفّين حول النيران يتناولون لحم الماموث. فهذه الفكرة متوغلة في الثقافة الشعبية، ويرى مؤيدو نظام «باليو» الغذائي أن الحبوب والبطاطس وغيرها من الأطعمة النشوية لا مكان لها في نظامنا الغذائي، لأن أسلافنا الصيادين وجامعي الثمار لم يتطوروا لتناول هذه الأطعمة، لكنْ ثَبُت أن البشر الأوائل طهوا الكربوهيدرات وتناولوها حالما استطاعوا إشعال النيران تقريبًا. فيقول فولر: "الفكرة القديمة القائلة بأنّ الصيادين وجامعي الثمار لم يتناولوا النشويات هي محض هراء".

طهاةٌ مغمورون

السعي نحو التوصل إلى فهْم أفضل لكيفية طهي البشر لطعامهم في الماضي يتطلب توجيه مزيد من الاهتمام للطهاة أنفسهم، وهو جزءٌ من توجّه أكبر في علم الآثار للبحث في الأنشطة المنزلية وجوانب الحياة اليومية. فتقول سارة جراف، عالمة الآثار من جامعة ولاية أريزونا في تيمبي: "نحاول تحديد نوع المعلومات التي يمكن اكتشافها عن بشرٍ لم يُكتب تاريخهم قط".

في الماضي، عندما كان الباحثون يعثرون على بقايا نباتية في المواقع الأثرية، غالبًا ما كانوا يعتبرونها آثارًا بيئية عرضية، وهي المواد الطبيعية، مثل البذور وحبوب اللقاح والأخشاب المحترقة. وتقدّم هذه المواد دليلاً على أنواع النباتات التي كانت تنمو في منطقة بعينها. لكنْ حدث تحوُّل نحو اعتبار بقايا الطعام دليلًا على نشاط يتطلب حرفة، ونِيّة، ومهارة. فيقول فولر: "يجب النظر إلى الطعام الجاهز بوصفه أولاً قطعة أثرية، وثانيًا بوصفه نوعًا بيولوجيًّا. فإعداد الطعام، سواء بالحرارة، أَم التخمير، أَم النقع يشبه تصنيع إناء من الخزف".

ومع تزايُد تعاوُن الباحثين لمقارنة البقايا الأثرية، تتكشف أمامهم أوجه تشابه ملحوظة عبر الزمن والثقافات. على سبيل المثال، وجد الباحثون قشورًا متفحّمة تتخذ أشكالًا غريبة في مواقع من العصر الحجري الحديث في النمسا، يعود تاريخها إلى أكثر من 5000 عام. فبدا وكأن وعاءً وُضع على النار حتى احترق السائل بداخله، ثم بدأت القشرة الجافة بالداخل في الاحتراق. في البداية، خَمَّن الباحثون أن مصدر هذه القشور هو أوعية لتخزين الحبوب، دُمّرت في إحدى الحرائق، لكن عند فحصها باستخدام المجهر الإلكتروني الماسح، اتضح أن بها جدران خلايا حبوب، كانت رقيقة بدرجة غير عادية، وهو ما اعتُبر مؤشرًا على شيء آخر، حسبما أشار هيس.

بعد مقارنة الاكتشافات النمساوية بقشور مماثلة عُثر عليها في مصانع الجعة المصرية، تعود إلى الحقبة نفسها تقريبًا، خلُص هيس وفالاموتي إلى أن جدران الخلايا الرقيقة نتجت عن عملية إنبات، أو تخمير، وهي خطوة أساسية في إنتاج الجعة. وكان المزارعون النمساويون الأوائل يخمّرون الجعة9. حول ذلك، يقول هيس: "انتهى بنا المطاف إلى استنتاج يختلف تمامًا عن الفرضيات السابقة. فقد تَلاقَى العديد من خيوط الأدلة، واتضحت الأمور".

ويبدو أن تاريخ الخبز يعود إلى وقت أقدم من ذلك بكثير. على سبيل المثال، كانت أرانز-أوتايجي تنقِّب في موقع يرجع تاريخه إلى 14500 عام في الأردن عندما عثرت على أجزاء متفحمة من "ما يحتمل أنه طعام" في مواقد صيادين وجامعي ثمار عاشوا قبل زمن بعيد. وعندما عرضت الصور المأخوذة لتلك المواد بالمجهر الإلكتروني الماسح على لارا جونزاليس كاريتيرو، وهي متخصصة في علم النباتات القديمة من متحف آثار لندن، وتعمل على دراسة الأدلة المرتبطة بصناعة الخبز في موقع «تشاتال هويوك» من العصر الحجري الحديث في تركيا، ذُهلت الباحثتان. فالقشور المتفحمة المأخوذة من الأردن كانت تحتوي على فقاعات كاشفة تُظهِر أنها قِطَع خبز محترقة10.

ويفترض معظم علماء الآثار أن الخبز لم ينضم إلى قائمة طعام البشر، إلا بعد تدجين الحبوب، أي بعد 5000 سنة من حادثة الطهي المشار إليها. وعليه، يبدو أن صانعي الخبز الأوائل في الأردن قد استخدموا القمح البري.

وتقدِّم هذه الأدلة معلومات مهمة حول نشأة الثورة الزراعية، عندما بدأ البشر في الاستقرار، وتدجين الحبوب والحيوانات. وهو ما حدث في أزمان مختلفة في مناطق شتى في العالم. فقبل بدء الزراعة، كان رغيف الخبز منتَجًا كماليًّا يتطلب جهدًا شاقًّا ووقتًا طويلًا لجمع الحبوب البرية اللازمة للخَبز. وربما تكون تلك العقبة قد أسهمت في إحداث تغييرات حاسمة.

وتشير أبحاث أرانز-أوتايجي إلى أن الطلب على الخبز - على الأقل في الشرق الأدنى - ربما كان أحد العوامل التي دفعت البشر إلى محاولة تدجين القمح، لأنهم كانوا يبحثون عن وسائل لضمان توفير مخزون ثابت من المخبوزات. وتقول الباحثة: "ما نراه في الأردن يدل على حدوث عمليات أوسع نطاقًا. والدافع نحو الانتقال إلى الزراعة هو أحد الأسئلة الجوهرية في علم الآثار. يدل ذلك على أن الصيادين وجامعي الثمار كانوا يستخدمون الحبوب".

وجَّه علماء النباتات القديمة أبحاثهم التالية إلى موائد أطباق السلطة في عصور ما قبل التاريخ، إذ يبحثون الآن عن طرق للكشف عن بقايا أطعمة غير مطهوة، مثل الخضراوات الورقية، وهي أحد مكونات النظام الغذائي في العصور القديمة، التي لا تنال قدرًا كافيًا من البحث والدراسة. ونظرًا إلى أن العثور على الخضراوات النيئة في السجل الأثري أكثر صعوبة من العثور على البذور والحبوب المطهوة، تُطْلِق كوبياك-مارتنز عليها اسم "الحلقة المفقودة" في معلوماتنا عن الأنظمة الغذائية القديمة، وتضيف قائلة: "لا يمكن إثبات تناول القدماء للأوراق الخضراء من خلال البقايا المتفحمة، بيد أنك ستصاب بالدهشة من كمّ الخضراوات الخضراء الموجودة في البراز البشري المتحجر"، أو في عينات البراز المحفوظ. حصلت كوبياك-مارتنز على منحة في عام 2019، للبحث في فضلات حفرية عمرها 6300 عام، محفوظة في الأراضي الرطبة في هولندا، وتأمل أن تكشف تلك الفضلات عن كل ما كانت تحتويه موائد طعام المزارعين في عصور ما قبل التاريخ.

إعادة تحضير الوجبات القديمة

قادت محاولات فهم الأنظمة الغذائية القديمة بعضَ الباحثين إلى إجراءات متطرفة، وهو ما حدث في موقع «غوبكلي تبه»، الذي وجد فيه الباحثون بقايا عضوية قليلة جدًّا، يمكن أن تمدّنا بمعلومات عن الوجبات النباتية في عصور ما قبل التاريخ هناك. جرّبت ديتريش فكرة مبتكرة تطلّبت منها جهدًا بدنيًّا شاقًّا، حيث اعتمدت على إعادة تصنيع الأدوات التي استخدمها البشر قديمًا لإعداد الطعام، وليس وجبات الطعام نفسها.

وفي المختبر الذي يتميز بهوائه المتجدد، ويقع في شارع تصطف على جانبيه الأشجار في برلين، تشرح ديتريش خطوات تلك العملية التي تستغرق وقتًا طويلًا، وتتطلب جهدًا بدنيًّا شاقًّا. فقد بدأت بتصنيع نسخة مطابقة لحجر الرُّحى المستخدم – هو كتلة من البازلت الأسود بحجم رغيف الخبز، تتسع لها راحة يدها – والتقطت صورًا فوتوغرافية له من 144 زاوية مختلفة.

وبعد ثماني ساعات قضتها في طحن أربعة كيلوجرامات من القمح وحيد الحبة، المزروع من بذور توارثت الأجيال استخدامها، التقطت ديتريش صورًا أخرى للحجر. بعدها، استخدمت برنامج كمبيوتر لإنتاج نماذج ثلاثية الأبعاد من مجموعتي الصور، ووجدت أن طحن الدقيق الناعم لإعداد الخبز يترك على الرّحى أثرًا مختلفًا عما يتركه طحن الحبوب الخشنة، التي تكون مثالية لإعداد العصيدة، أو تخمير الجعة.

وبعد التعامل مع آلاف أحجار الرُّحى، أصبح بإمكان ديتريش تحديد الغرض الذي استُخدمت لأجله تلك الأحجار عن طريق لَمْسها، فتقول: "ألمسُ الحجر لأتحسس استواء الأسطح. ويمكن للأصابع أن تشعر بالتغيرات على مستويات دقيقة جدًّا". ومن خلال المقارنة بين أنماط التآكل على الرُّحى التي صنعتها، والرُّحى الموجودة في حديقة الصخور في «غوبكلي تبه»، أثبتت ديتريش أن دقيق الخبز الناعم كان الاستثناء. ففي دراسة أجرتها في عام 112020، قالت ديتريش إن سكّان هذا المكان كانوا في الغالب يطحنون الغلال في صورة خشنة؛ أي بدرجة تكفي لتفتيت الطبقة الخارجية الصلبة من النخالة، ليسهل سلْقها وتناوُلها في صورة عصيدة، أو تخميرها لصنع الجعة.

ولاختبار صحة هذه النظرية، كلّفت ديتريش أحد نحّاتي الأحجار بنحت نسخة مطابِقة من وعاء حجري، سعته 30 لترًا، عُثر عليه في «غوبكلي تبه». وفي عام 2019، طَهَت ديتريش وفريقها العصيدة باستخدام الأحجار الساخنة، وسجلوا بدقة كل خطوة من خطوات العملية وتوقيتها. وخمّر الفريق أيضًا جعة من العصر الحجري الحديث باستخدام الشعير، أو الحبوب المستنبتة المطحونة يدويًّا في وعاء مفتوح. وتقول ديتريش إن المشروب الناتج كان "مُرًّا بعض الشيء، لكن يمكن تناوله لو أنك كنت تشعر بالظمأ في العصر الحجري الحديث".

ومن خلال الاستعانة بأحجار الرُّحى وغيرها من أدوات معالجة النباتات في «غوبكلي تبه»، بات لدينا تصوُّر عما كان يحدث في تلك المنطقة قبل 12 ألف عام. فبدلاً من البدء بتجربة الحبوب البرية، كان بناة المعالم الأثرية على ما يبدو مزارعين بدائيين على دراية بالفعل باستخدامات الحبوب في الطهي، على الرغم من عدم وجود محاصيل مدجّنة. وتقول ديتريش: "هذه هي أفضل أدوات الطحن على الإطلاق، وقد وجدت الكثير من الرُّحى. كان البشر في غوبكلي تبه على دراية بما يفعلون، وبما يمكنهم فعله باستخدام الحبوب. فكانوا قد تجاوزوا مرحلة التجريب".

تسهم تجارب ديتريش في تغيير طريقة فهم علماء الآثار للموقع وللفترة الزمنية التي بُني خلالها. فتفسيراتهم الأولية جعلت الموقع يبدو وكأنه سكن للطلاب الذكور في إحدى الكليات الأمريكية؛ حيث يجلس عدد كبير من الصيادين الذكور على قمة أحد التلال يلتهمون الظباء المشوية مع آنية من الجعة الفاترة في احتفالات ينظمونها بين الحين والحين. لكن تقول ديتريش: "لم يفكر أحد في احتمالية تناوُل النباتات" على نطاق واسع.

وفي دراسة أجريت في أواخر العام الماضي12، ذكرت ديتريش أن التفسير القائم على فكرة "الشواء والجعة" هو تفسير خاطئ تمامًا. فالعدد الهائل من أدوات معالجة الحبوب في «غوبكلي تبه» يشير إلى أن الحبوب – حتى قبل انتشار الزراعة - كانت طعامًا رئيسًا يوميًّا، وليست مجرد مكوِّن في مشروب ترفيهي.

اضف تعليق