آثار الجفاف لم تعد بيئيةً أو اقتصاديةً فقط، بل باتت تهدد السلم المجتمعي نفسه، نزاعاتٌ عشائرية على سواقي المياه، هجراتٌ واسعة من الريف، بطالةٌ زراعية متزايدة، تفككٌ اجتماعي صامت، وخرائط ديموغرافية بدأت تتغير دون ضجيج. الأسئلة تزداد ثقلاً، أين خطة الطوارئ الوطنية؟ أين الضغط الدبلوماسي الحقيقي على دول الجوار...

قرب نهر الفرات في جنوب العراق، وقف الحاج أبو حسين يتأمل أرضه التي جفت تماماً، ولم تعد تصلح لزراعةٍ ولا حصاد، الأرض التي توارثتها عائلته جيلاً بعد جيل، صارت الآن بلا ماءٍ ولا أمل، ولا موسمٍ زراعي يعول عليه.

‏يفكر بصمتٍ في بيعها والرحيل بثمنها إلى المدينة، لعل الحياة هناك تمنحه ما عجزت هذه الأرض عن منحه، لكنه سرعان ما يصطدم بالحقيقة المرة، فمن يشتري أرضاً مات فيها الماء وغابت عنها الحياة؟

‏ليست هذه حكايةً فردية، إنها خلاصةٌ لمشهدٍ بات يتكرر في قرى الجنوب والوسط، حيث ينسحب النهر، ويموت الزرع، ويتحول الفلاح إلى نازحٍ داخل وطنه.

‏لقد دخل العراق مرحلة العطش الحقيقي، لم يعد الحديث عن انخفاض مناسيب المياه نبوءةً مخيفة، بل واقعٌ يتجلى على هيئة سهولٍ قاحلة، ومضخاتٍ متوقفة، وفلاحين يطرقون أبواب المدن بحثاً عن لقمة عيش، بعد أن باعوا آخر ما تبقى من مواشيهم أو أراضيهم.

‏الأرقام وحدها تكفي لقرع جرس الإنذار، فبحسب تقارير أممية، فقد العراق أكثر من ٦٠٪ من موارده المائية خلال أقل من عقد، في حين خرج نحو ٧٠٪ من أراضيه الزراعية عن الخدمة، وهناك محافظات مهددةٌ بالوقوع في قبضة التصحر.

‏لكن خلف هذه الأرقام الصادمة، تختبئ مسؤولياتٌ متشابكة، بعضها يتجاوز حدود الجغرافيا، وبعضها الآخر ينبع من قلب القرار الوطني، فمن جهة، تستمر بعض الدول المجاورة في مشاريع السدود والتحويلات المائية التي تقلص حصة العراق التاريخية من نهريه العظيمين، ومن جهةٍ أخرى، تُحوَلُ مجاري روافد حيوية بعيداً عن الأراضي العراقية، لتجد أقضيةٌ بكاملها في الجنوب والشرق نفسها في مواجهة العطش، بلا سندٍ ولا إنصاف.

‏لكن الجفاف لم يكن نتيجةً لعوامل خارجيةٍ فحسب، بل خرج أيضاً من رحم الإهمال المزمن، وسوء التخطيط، وانعدام الرؤية في إدارة الموارد، حتى بات العجز في الداخل يضاهي الجور القادم من وراء الحدود.

‏فالدولة العراقية طوال عقدين، فشلت في بناء خزينٍ استراتيجيٍ من المياه، أو إدخال تقنيات الري الحديثة أو حتى فرض نمطٍ زراعيٍ واقعي يتلاءم مع المتغيرات المناخية، بقي الفلاح يزرع كما زرع جده ويهدر المياه كما لو أن دجلة لا ينضب، وبقيت الحكومات تتعامل مع ملف المياه بوصفه شأناً فنياً أو تفاوضياً لا باعتباره أمناً قومياً يمس بقاء الدولة من جذورها.

‏وبينما تُبنى السدود وتُحول الانهار، تتساقط القرى العراقية واحدة تلو الأخرى من خارطة الزراعة والحياة.

‏إن آثار الجفاف لم تعد بيئيةً أو اقتصاديةً فقط، بل باتت تهدد السلم المجتمعي نفسه، نزاعاتٌ عشائرية على سواقي المياه، هجراتٌ واسعة من الريف، بطالةٌ زراعية متزايدة، تفككٌ اجتماعي صامت، وخرائط ديموغرافية بدأت تتغير دون ضجيج.

‏الأسئلة تزداد ثقلاً، أين خطة الطوارئ الوطنية؟ أين الضغط الدبلوماسي الحقيقي على دول الجوار؟ أين البرلمان من كل هذا؟ وأين دور وزارة الخارجية، ووزارة الموارد المائية، و"لجنة الزراعة" التي لم تتجاوز بيانات القلق والرجاء؟

‏ما يُطرح من حلولٍ على الورق، لا يزال عاجزاً عن اللحاق بواقعٍ يتغير أسرع من استجابة الدولة له، فكل حديث عن التحول إلى الري بالتنقيط أو بناء محطات التحلية او الري باستخدام الآبار، يصطدم بجدار الروتين وضعف التمويل وغياب الرؤية الموحدة.

‏في هذا البلد الذي سُمي "أرض السواد" لكثرة زرعه ومائه، لم تعد التسمية تنطبق عليه، فالسواد بات قاحلاً، والنهران يصيحان بلا مجيب، وإذا استمر الصمت الرسمي وتقدم الجفاف خطوةً أخرى، فإن العراق لن يكون مهدداً بفقدان مياهه فحسب بل بفقدان روحه أيضاً.

اضف تعليق