في شهر فبراير من عام ٢٠٢٣، اجتمعتْ لجنة تابعة لمنظّمة الصحة العالمية، للبتِّ فيما إذا كانت فاشية جدري القرود، التي كانت قد اندلعت في شهر مايو من عام 2022، لا تزال تشكِّل حالة طوارئ عالمية في مجال الصحة العامة. ورغم أن اللجنة أوصت في نهاية المطاف بأن يستمر تصنيف الفاشية كحالة طوارئ...
بقلم: ماكس كوزلوف

في شهر فبراير من عام ٢٠٢٣، اجتمعتْ لجنة تابعة لمنظّمة الصحة العالمية، للبتِّ فيما إذا كانت فاشية جدري القرود، التي كانت قد اندلعت في شهر مايو من عام 2022، لا تزال تشكِّل حالة طوارئ عالمية في مجال الصحة العامة. ورغم أن اللجنة أوصت في نهاية المطاف بأن يستمر تصنيف الفاشية كحالة طوارئ، نظرًا إلى استمرار حدوث إصابات بالمرض في بضعة بلدان، فقد أقرَّت في الوقت نفسه بأن عدد الحالات قد تراجع بصورة ملحوظة في جميع أنحاء العالم، إذ انحسرتْ الفاشية، على سبيل المثال، في بلدان مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بفضل بدء تطعيم المواطنين هناك وعلاجهم بالعقاقير المضادة للمرض، إلى جانب عددٍ من التغيّرات التي طرأت على الوعي والسلوكيات الاجتماعية.

لكن ذلك لا ينفي حقيقة واضحة، وهي أن الأمراض يستمر انتشارها فترات طويلة في غرب إفريقيا ووسطها. إذ ظلَّت تلك المناطق تحت وطأة فيروس جدري القرود عدّة عقود، وسجلت حصيلة وفيات به هي الأعلى تاريخيًا، لا سيّما في جمهورية الكونغو الديموقراطية (DRC)، التي أبلغت منذ شهر أكتوبر الماضي عما يزيد على ألف حالة اُشتبه في إصابتها بالمرض. بيد أن حتى تلك الأعداد، حسبما يقول ديمي أوجوينا، طبيب الأمراض المعدية من جامعة دلتا النيجر، في أماسوما بنيجيريا، "تبخس كثيرًا تقدير التعداد الفعلي". وجدير بالذكر أن كثيرًا من حالات الإصابة بالعدوى لا يجري اكتشافها أصلًا، نتيجة لما تعانيه منظومة الفحوص ورصد الإصابات بالمرض من نقص حاد في التمويلات.

وكان الباحثون في إفريقيا قد أشادوا بالاهتمام العالمي المتزايد بمواجهة هذا الفيروس، في أثناء الجائحة العالمية، بعد التجاهل الطويل الذي شاب استجابة هيئات الصحة له سابقًا، لكنهم يشيرون في الوقت نفسه إلى أن البلدان الغنية كانت المستفيد الأكبر من هذا الاهتمام، فاللقاحات والعلاجات المضادة له لم يكن لأهل إفريقيا نصيب منها على أرض الواقع. فضلًا عن أن المعارف المُكتَسبة بشأن الفيروس لم تنجح كثيرًا في تغيير مسارات انتشاره في أنحاء القارة.

ويؤكد أوجوينا ذلك بقوله: "غالبية الأبحاث المنشورة عن جدري القرود جاءت من دول الشمال العالمي. ولا تزال جهودنا فيما يتعلق بفهم أنماط انتقال عدوى الفيروس وأشكال التصدي بفاعلية له في إفريقيا تفتقر إلى حد كبير للإرشاد".

معركة طويلة

قبل عام 2022، تركزت غالبية الإصابات البشرية بمرض جدري القرود على مستوى العالم في إفريقيا. وهذا المرض الذي يُشار إليه في الوقت الحاليّ بالاختصار mpox، وإن كان لا يزال يطلق على الفيروس المسبب له اسم جدري القرود، يتسبب في الإصابة بالحمى وظهور آفات جلدية مؤلمة، تمتلئ بالسوائل، وتنتشر على الوجه واليدين والقدمين. وفي حالات الإصابة الشديدة به، يؤدي إلى إيداع المصابين به مستشفى، بل وإلى الوفاة. وجدير بالذكر أن بعض البلدان الإفريقية تعاني حالات انتشار لمرض جدري القرود منذ اكتشف العلماء أول إصابة بشرية بالفيروس المسبب له، في جمهورية الكونغو الديموقراطية عام 1970.

وعلى مدار العام السابق، انتشر الفيروس خارج إفريقيا، بين البشر بصورة أساسية، خاصة بين الرجال الذين يمارسون الجنس مع رجال آخرين، عبر ملامسة جلدية وثيقة. ويُعد اكتشاف أنماط انتقال العدوى بالمرض وأعراضه الإكلينيكية تحديًا أصعب كثيرًا في بعض البلدان الإفريقية، حيث يسود اعتقاد بأن أنواعًا من القوارض تمثِّل عائلًا طبيعيًا للفيروس وتنقله باستمرار إلى البشر. فعلى سبيل المثال، يشكّل الرجال أكثر من 95% من المصابين بالفيروس في الولايات المتحدة، بينما لا يشكلون إلا 60% تقريبًا من حالات الإصابة المؤكدة به في نيجيريا.

ويستطرد أوجوينا قائلًا إنه لا يزال من الصعب رصد الإصابات في إفريقيا، فمن بين ما يزيد على 7200 حالة اشتُبه في إصابتها بجدري القرود بإفريقيا عام 2022، لم يتسنّ إلا التثبت من تشخيص نحو 1200 حالة فقط من خلال الأساليب التشخيصية المعتمدة، ويرجع ذلك إلى ضعف تمويل البنية التحتية اللازمة للفحوص ورصد الفيروسات. وجدير بالذكر أن جمهورية الكونغو الديموقراطية قد أبلغت سابقًا عن أكثر من 70% من الإصابات المشتبه بها في القارة، ولم يكن بالإمكان التأكد إلا من تشخيص 279 حالة منها.

أضف إلى ذلك أن البلدان الإفريقية افتقرت إلى حد كبير للقاحات اللازمة لمكافحة جدري القرود، والتي اشترت البلدان الغنية، مثل كندا والمملكة المتحدة، الملايين منها ووزعته على مواطنيها. ومن المهم هنا ملاحظة العلاقة بين فيروس الجدري وفيروس جدري القرود، فقد أمل مسؤولو القطاع الصحي أن تنجح لقاحات الجدري في الوقاية أيضًا من جدري القرود.

ومن المتوقع أن يتلقَّى الاتحاد الإفريقي ٥٠ ألف جرعة من لقاح مُتبرع به من كوريا الجنوبية، فيما يُعد أول دُفعة لقاحات مضادة للمرض غير مخصَّصة للأغراض البحثية تحصل عليها القارة، وفقًا لإعلان أصدرته هيئة المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، غير أن الهيئة لم تستجب لاستفسارات دورية Nature بشأن موعد تسليم تلك الجرعات أو البلدان التي ستتلقاها.

وتُقرّ روزاموند لويس، رئيسة قسم تقنيات مكافحة جدري القرود في منظمة الصحة العالمية، ومقره مدينة جنيف السويسرية، بأن الجهود المبذولة لإمداد البلدان الإفريقية باللقاحات والعلاجات "لم تسر خطاها بسرعة كافية لإرضاء جميع الأطراف". فالإمدادات والتبرعات من هذه اللقاحات والعلاجات شحيحة، ولا تزال الإدارة التنظيمية بمنظمة الصحة العالمية عاكفًة، في الوقت نفسه، على مراجعة البيانات التي أمكن جمعها من بلدان أخرى فيما يخص أمان استخدام اللقاحات وفاعليتها، حسبما تفيد لويس.

كذلك تأخر حصول البلدان الإفريقية على عقار «تيكوفيريمات» Tecovirimat، وهو عقار مضاد للفيروس المسبب للجدري، اعتُمد استخدامه في علاج هذا المرض، ويعتقد العلماء أنه يتسم أيضًا بالفاعلية في علاج جدري القرود. وقد أقرَّت الجهات التنظيمية الأمريكية التوسع في إعطاء هذا العقار بموجب تصريح بالاستخدام بدافع الرحمة، لعلاج جدري القرود خلال اندلاع موجاته العالمية، وجرى إعطاء أكثر من 6800 جرعة منه في الولايات المتحدة. غير أنه من جهة أخرى، لم يتسنَّ لمن يعيشون في إفريقيا تلقي عقار «تيكوفيريمات» إلا من خلال تجارب إكلينيكية بدأت لتوها في عديد من البلدان الإفريقية. ويعكف بييرو أوليارو، المتخصص في الأمراض المعدية المرتبطة بالفقر في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، على إجراء تجربة محدودة النطاق للعقار في جمهورية الكونغو الديموقراطية، تلقَّى فيها عشرون شخصًا هذا العقار. ويقول أوليارو معلقًا على هذا العدد: "إنه عدد يسير. كيف يعقل أن نقدم عقار «تيكوفيريمات» لجميع مرضى جدري القرود في الولايات المتحدة، ولم يُصرَّح باستخدامه إلا لعلاج الجدري، في حين نحتاج إلى تجربة عشوائية ذات مجموعة مقارنة لنثبت فاعليته في إفريقيا؟".

التهاوُن ليس خيارًا

رغم كل ما سبق، فإن التركيز العالمي على دراسة الفيروس أطلق عددًا من التغيّرات في بضعة نواحٍ داخل قارة إفريقيا. أولها، حسبما يفيد أوجوينا، أن الأطباء الذين لم يكونوا على دراية من قبل بالمرض أصبحوا الآن يدركون الآفات الجلدية الدالة على الإصابة به، بفضل كل هذه التقارير المنشورة التي تتناول حالات الإصابة به.

وقد ألهم هذا الاهتمام العالمي بعض المشروعات البحثية في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، ابتكرت روزماري أودو، اختصاصية علم الفيروسات ومديرة قسم الأبحاث في المعهد النيجيري للأبحاث الطبية في لاجوس مع فريقها البحثي، أوَّلَ اختبار في البلد يمكن استخدامه للأغراض البحثية لاكتشاف الإصابة بمرض جدري القرود، استكمالًا للاختبارات التي يستخدمها مسؤولو القطاع الصحي لتشخيص الإصابات. وقد تلقت أودو وفريقها البحثي، منحةً تُقدَّر بثلاثة ملايين دولار كندي (أي ما يعادل 2.25 مليون دولار أمريكي) من المركز الكندي لبحوث التنمية الدولية والمعاهد الكندية لأبحاث الصحة، وكلاهما يقع في أوتاوا، وتأمل في الاستعانة بهذه المنحة للتوصل إلى فهم أفضل لآليات انتقال الفيروس وانتشاره في نيجيريا. وتعتزم أودو، في إطار هذا المشروع، استخدام اختبار جدري القرود الذي ابتكره فريقها في دراسة عينات محفوظة داخل عيادات متخصصة في علاج الأمراض المنقولة جنسيًا بمختلف أنحاء البلاد، بغرض البحث عن حالات لم يجر تشخيصها.

لكن أوليارو يستدرك قائلًا إنه نظرًا إلى أن فيروس جدري القرود لا يزال سببًا في وقوع حالات وفاة داخل إفريقيا، ووجود احتمالية بأن يتسبب في ظهور فاشيات بجميع أنحاء العالم مستقبلًا، فإن التهاون في التصدي له ليس خيارًا متاحًا من الأصل، ويضيف: "يحتمل أن تعود فاشيات جدري القرود مرة أخرى بصورة أسوأ". ويتخوف الباحثون بالأخص من انتشار سلالة من الفيروس عثروا عليها في وسط إفريقيا، يُطلق عليها «الفرع الحيوي الأول» clade I. وتتسبب هذه السلالة في وفاة قرابة 10% من المصابين بها، وهو ما يجعلها أشد فتكًا من السلالة المنتشرة حاليًا في غرب إفريقيا والتي يُعتَقد أنها السبب في انطلاق هذه الفاشية العالمية. وفي الماضي، ظلت مؤشرات تبرز، حسبما تقول لويس، تدل على احتمالية انتشار «الفرع الحيوي الأول» من الفيروس ليتجاوز نطاق انتشاره المعتاد. وقد كانت هذه السلالة وراء فاشية وقعت العام الماضي في مخيم للاجئين بالسودان، وأسفرت عن أكثر من 15 حالة إصابة مؤكدة و180 حالة اشتُبه في إصابتها بالمرض.

اضف تعليق