تشتد المعارك في سوريا وعليها، بين خصوم يصعب عدهم وتتداخل مصالحهم لدرجة تغير مراكز الحلفاء والاصدقاء بين اشهر السنة، فمن كان خصما في الشهر الماضي يكون صديقا في الشهر المقبل، والمثال تركيا وروسيا، ووسائل الحرب لا تقل تعددا وتعقيدا من تعقيدات التحالفات السياسية والعسكرية، فالغموض هو الواضح فقط وما عداه غبار يحجب الرؤية لكن رائحة الدم تفضح ما يجري في حرب يتوقع انها تلفظ انفاسها الاخيرة، بعد رحلة تدمير استمرت لست سنوات.

بعد ان كانت المعارك تدور حول سوريا المفيدة، انتقلت اليوم الى معارك حول البادية السورية وتحديدا محاولة كل من ايران والولايات المتحدة السيطرة على الطريق البري الرابط بين العراق وسوريا، ولكل منهما اهدافه المتضادة مع خصمه، فايران تريد ربط محور حلفائها عبر هذا الخطر البري ليشمل لبنان وسوريا والعراق وايران، وليوفر بذلك حلقة وصل استراتيجية، فيما تحاول الولايات المتحدة الامريكية قطع هذا الشريان الحيوي الذي يكاد يلتئم باصرار وعزيمة الايرانيين.

المعركة الفعلية بدأت عندما قامت القوات الامريكية بقصف مجموعات مسلحة موالية لايران قرب قاعدة التنف العسكرية في البادية السورية، الشهر الماضي، ثم تبعها قصف اخر اسفر عن مقتل عدد من حلفاء ايران، ولتقوم القوات الامريكية باسقاط مقاتلة سورية اتهمتها بانها كانت تقصف قوات موالية للولايات المتحدة الامريكية، فيما نفت دمشق ذلك. والسجال مستمر حتى قصف الايرانيون ولاول مرة منذ ثلاثين عاما بالصواريخ مقرات لداعش في دير الزور، إذ تعد هذه الحادثة نقطة تحول كبيرة في طبيعة الصراع في سوريا، والنشاط الايراني في المنطقة بصورة عامة.

ايران تقول ان هذا الهجوم الصاروخي جاء رداً على هجوم داعش في طهران، وهو رسالة للارهاب وداعميه، (امريكا والسعودية)، والرسالة يبدو انها واضحة تماما، فايران تقول بان الحدود العراقية السورية يجب ان تبقى مفتوحة واذا ما منعت من ذلك فصواريخها كفيلة بفتح طرق جديدة لا يتوقعها خصومها الاقليميين والدوليين.

رواية متناقضة

ويبدو الخطاب الايراني الرسمي متناقضا مع نفسه فالحرس الثوري الإيراني ذكر أن الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي أمر في مطلع الأسبوع الماضي بتوجيه الضربات الجوية لأهداف لداعش في سوريا مناقضا بذلك تقريرا سابقا أفاد بأن مجلس الأمن القومي الإيراني هو من فوض بتوجيهها. ويناقض بيان الحرس الثوري بيانا للرئيس حسن روحاني الذي قال في وقت سابق إن المجلس الأعلى للأمن القومي هو من أجاز الضربات. ويضم المجلس رؤساء فروع الحكومة الثلاثة وكذلك رئيس الحرس الثوري ووزراء آخرين.

وقبل ساعات من ذلك الهجوم الصاروخي، كان المرشد الاعلى للثورة الايرانية اية الله علي خامنئي توعّد امام عائلات "الشهداء" وخصوصا اولئك الذين قُتلوا في سوريا والعراق بأنّ ايران "ستوجه صفعة الى اعدائها"، بحسب ما نقل الموقع الالكتروني التابع له.

وقال قادة كبار بالحرس الثوري يوم الاثنين إن الضربات الصاروخية تستهدف إرسال رسالة "للإرهابيين" الذين نفذوا هجمات في طهران قبل أسبوعين وكذلك لداعميهم الإقليميين والدوليين في إشارة إلى السعودية والولايات المتحدة.

ويبرز ما أورده الحرس الثوري بشأن إصدار خامنئي توجيهات بشأن الضربة أهميتها الرمزية. وجاء في بيان الحرس الثوري أن عناصر ميدانية من فيلق القدس، وهو فرع الحرس المسؤول عن العمليات الخارجية، جمعت معلومات بشأن الأهداف داخل سوريا قبل الضربة. وقال البيان أن أكثر من 170 "إرهابيا"، بينهم بعض القادة العسكريين، قتلوا في الضربة الصاروخية.

تصعيد المواجهة

وياتي التحرك الايراني كاستفزاز للولايات المتحدة وجس نبض لمدى جديتها في مواجهة طهران في سوريا، لذلك جاء الرد الامريكي في اكثر من اتجاه، إذ يقول مقاتلون بالجماعات المسلحة السورية إن الولايات المتحدة وحلفاءها يرسلون لهم المزيد من الأسلحة للتصدي لتقدم جديد في جنوب شرق البلاد لفصائل مدعومة من إيران تهدف لفتح طريق إمداد بري بين العراق وسوريا.

وتقول وكالة رويترز ان المخاطرة كبيرة مع محاولة إيران تأمين نفوذها من طهران إلى بيروت في "هلال شيعي" من النفوذ الايراني يمر بالعراق وسوريا ولبنان حيث لم يحالف النجاح دولا عربية سنية في صراع النفوذ مع إيران. وتصاعد التوتر في منطقة جنوب شرق سوريا المعروفة باسم البادية هذا الشهر حين انتشرت قوات حكومية مدعومة بفصائل عراقية شيعية مسلحة في تحد لمقاتلي الجماعات المسلحة المدعومين من خصوم الرئيس بشار الأسد.

تزامن ذلك مع زحف فصائل شيعية في العراق نحو الحدود السورية حيث وصلت إلى الحدود المتاخمة لشمال سوريا يوم الاثنين الماضي. حيث احكمت القوات العراقية قبضتها على منفذ الوليد الحدودي وفتحت الطريق بين سوريا والعراق. وفي حين أن الولايات المتحدة حاربت في العراق لمساندة القوات الحكومية والفصائل العراقية المسلحة المدعومتين من إيران فقد حشدت واشنطن في سوريا جهودها ضد الحكومة المدعومة من إيران وتريد مع حلفائها في المنطقة منع المزيد من التوسع الإيراني.

وتتنافس الأطراف على موقع الصدارة في المرحلة الرئيسية القادمة من المعركة ضد داعش والتي تهدف لإخراجها من محافظة دير الزور في شرق سوريا حيث انتقل كثير من الارهابيين من الرقة والموصل. وتعمل عدة جماعات مسلحة تحت لواء الجيش السوري الحر في منطقة البادية ذات الكثافة السكانية المنخفضة حيث استعادت أراضي من أيدي داعش هذا العام. واستهدفت ضربات جوية أمريكية في 18 مايو أيار مقاتلين مدعومين من إيران تقدموا صوب المنطقة.

تحركات غير مقبولة

وفي مايو أيار أيضا أعلنت دمشق أن البادية ودير الزور أولويتان في حملتها لبسط سيطرتها على سوريا التي مزقتها الحرب المستمرة منذ ست سنوات وسقط فيها مئات الآلاف من القتلى. وتساعد إيران وروسيا الحكومة بينما يدعم الغرب ودول مناهضة للأسد بالمنطقة جماعات مسلحة تتهمها الحكومة السورية بالإرهاب. وفي تصريحات لوكالة رويترز قال مقاتلون معارضون إن المساعدات العسكرية زادت عبر قناتين منفصلتين هما برنامج تدعمه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) ودول بالمنطقة منها الأردن والسعودية ويعرف باسم غرفة عمليات الموك وآخر تديره وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون).

وقال طلاس السلامة قائد جيش أسود الشرقية وهو واحد من الفصائل المنضوية تحت لواء الجيش السوري الحر المدعومة من البرنامج التابع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية "صار في زيادة للدعم" وأضاف "مستحيل نخليهم يفتحوا هذا الطريق" بين بغداد ودمشق. وقال قائد كبير في جماعة "مغاوير الثورة" المدعومة من البنتاجون إن الأسلحة تتدفق بانتظام على قاعدته قرب الحدود العراقية منذ أن بدأت القوات الموالية للحكومة السورية الانتشار هذا الشهر. وأضاف أن جهود تجنيد وتدريب مقاتلين محليين من دير الزور تسارعت في قاعدتهم بالتنف على الطريق السريع على مسافة نحو 20 كيلومترا من الحدود العراقية.

ومضى القائد في مغاوير الثورة الذي طلب عدم نشر اسمه قائلا إن العتاد والتعزيزات تأتي يوميا لكن في الأسابيع القليلة الماضية جاء المزيد من المركبات العسكرية الثقيلة وصواريخ تاو والعربات المدرعة. لكن متحدث باسم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لم يذكر ما اذا كان دعم التحالف لمغاوير الثورة قد زاد، بحسب رد مكتوب تقول رويترز انها حصلت عليه. وقال الكولونيل ريان ديلون إن قوات التحالف "مستعدة للدفاع عن نفسها إذا رفضت القوات الموالية للنظام إخلاء" منطقة عدم اشتباك حول التنف.

وأضاف ديلون "لاحظ التحالف قوات موالية للنظام تتحرك في محيط منطقة عدم اشتباك حول موقع التدريب في التنف في سوريا ... تحركات القوات الموالية للنظام واستمرار الوجود المسلح للقوات داخل المنطقة غير مقبول ويهدد قوات التحالف".

مواصلة الدعم الايراني

في المقابل قال قائد كبير بالحرس الثوري الإيراني الشهر الماضي إن طهران ستواصل إرسال مستشارين عسكريين إلى سوريا ما دام ذلك ضروريا دعما لقوات الرئيس بشار الأسد. ونقلت وكالة فارس للأنباء عن محمد باكبور رئيس القوات البرية بالحرس الثوري قوله "الدعم بالمشورة ليس في مجال التخطيط فقط ولكن في الطرق والأساليب. وبسبب هذا يجب أن تكون القوات موجودة في ميدان القتال. "سنواصل دعمنا الاستشاري ما داموا (السوريون) يحتاجون له".

وقال باكبور إن القوات البرية التابعة للحرس الثوري موجودة في سوريا لمساعدة فيلق القدس، فرع الحرس الثوري المسوؤل عن العمليات خارج حدود إيران. وأضاف "هناك تنسيق وثيق للغاية بين الجيش السوري ومستشاري الحرس الثوري".

وكان مسؤول إيراني قال العام الماضي إن أكثر من ألف إيراني قتلوا في الحرب السورية. وذكرت تقارير إعلامية إيرانية أن من بين هؤلاء القتلى مجموعة من كبار قادة الحرس الثوري.

وكانت ايران قد حذرت على لسان وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان الولايات المتحدة من تكرار شن هجوم على سوريا مؤكدا ان مثل هذه الضربة لن تبقى "بدون رد"، بعد هجوم امريكي ضد قاعدة الشعيرات العسكرية. وقال دهقان خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سيرغي شويغو، "سيدفع الاميركيون ثمنا باهظا اذا كرروا فعلتهم وعليهم ان يعرفوا ان ذلك لن يبقى بدون رد". واضاف "بدلا من قصف (الارهابيين) انهم يقصفون القوات السورية والشعب السوري. جبهة المقاومة ستواصل بعزم وتصميم محاربة الارهابيين خلافا لارادة الأميركيين".

واتصل دهقان بنظيره السوري فهد الفريج. وقالت وزارة الدفاع الايرانية في بيان انهما شددا على "تعزيز تعاونهما بهدف تكثيف العمليات ضد الارهابيين". وتصف طهران بالارهابيين كل الفصائل المعارضة والمقاتلة والجهاديين الذين يحاربون الجيش السوري. حيث ترسل طهران مستشارين عسكريين ومتطوعين للمشاركة في محاربة الفصائل المقاتلة في سوريا.

سيناريوهات المواجهة

في مقال كتبه حنين غدار نشره موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى منتصف الشهر الجاري تحدث عن سيناريوهات المواجهة بين المتحاربين على الارض السورية، إذ يقول انه في ظل تقدّم المجموعات الموالية لإيران عبر البادية نحو دير الزور وأبو كمال، يبدو أن هدفها الرئيسي يتمثل بالاستيلاء على المناطق الخاضعة لـ تنظيم داعش سابقاً وليس بالضرورة محاربة التنظيم، علماً أن المتمردين المدعومين من الولايات المتحدة يتقدمون نحو المناطق نفسها، وإن كان ذلك من جهة الشمال. وبالتالي، قد تصبح دير الزور موقع مواجهة كبيرة بين هذه الفصائل، حيث تدعم روسيا القوات الإيرانية بينما تدعم الولايات المتحدة وكلاءها.

واضاف غدار أن الجماعات الشيعية التابعة لإيران تسعى، قبل وصولها إلى هناك، إلى إحكام قبضتها على المناطق الواقعة بين تدمر وشرق السويداء من أجل جمع المتمردين من الجنوب في جيوب معزولة ووقف أي محاولة أمريكية لتوسيع منطقة سيطرتها خارج التنف. وكانت روسيا قد وفّرت تغطية جوية مستمرة لهذه العمليات. وطالما أن القواعد الأمريكية في التنف والزكف غير مستهدفة بشكل مباشر، يبدو أن الجماعات الشيعية لن تتعرض لأي ضغوط لوقف عملياتها في أماكن أخرى.

وخلال الأسبوع الماضي، قال قائد وحدة في حزب الله في بيروت لصحيفة "كريستيان ساينس مونيتور": "يجتمع التابعون لنا في منطقة التنف حالياً، إذًاً قطعاً سيكون هناك صراع". وربما كان يشير إلى مواجهة برية محتملة بين القوات المدعومة من إيران وتلك المدعومة من الولايات المتحدة. ولكن في حين جاءت ملاحظته في سياق الحديث عن الحدود العراقية-السورية، يبدو أن الطرفين يستعدان لمعارك أكبر وأكثر صعوبة في محيط دير الزور وأبو كمال.

ويختم غدار مقاله بالقول انه مهما كانت الظروف، لا تزال المنطقة الحدودية التي سيطرت عليها الجماعات الشيعية في الأسبوع الماضي منكشفة ومعرضة للهجمات، ولذلك فمن المرجح أن تواجه صعوبة كبيرة في الحفاظ على السيطرة هناك. وقد تتمكن القوات المتمردة من استعادتها بسهولة نسبية إذا حظيت بدعم جوي مستدام من الولايات المتحدة. غير أن الهدف الأوسع المتمثل بمنع وكلاء إيران من التقدّم نحو دير الزور يتطلب ممارسة ضغوط على روسيا من أجل وضع حدّ لغطائها الجوي للحملات الموالية للنظام حول الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش. وعلى الرغم من أن حزب الله يبدو عازماً على أخذ زمام المبادرة لتحقيق أهداف إيران في المنطقة، إلّا أنّ الجهود الدبلوماسية الأمريكية المتضافرة مع روسيا - إلى جانب الجهود العسكرية التي ترفع تكلفة الحملات الجارية بالوكالة في الجنوب - يمكن أن تغيّر حسابات الحزب وتساهم في تفادي مواجهة أكبر. وفي خلاف ذلك، يشير مجرى الأمور إلى أن المواجهة بين الولايات المتحدة ووكلاء إيران أصبحت وشيكة.

اضف تعليق