الجلسات العلميَّة لسماحة المرجع الشيرازيّ تمثِّل تجربة معرفيَّة فريدة، تتخطَّى حدود الاستنباط الفقهي لتؤسس لوعي متكامل وشامل، يربط بين النَّص الشرعي وواقع الإنسان المعاصر. فهي تمنح المتلقِّي القدرة على فهم الأحكام والتَّفاعل معها بوعي نقدي مسؤول، مع مراعاة مقاصد الشَّريعة، وتوضح أنَّ الاجتهاد الحقيقي لا يقتصر على الأحكام...
تُعدُّ الجلسات العلميَّة التي يقدِّمها سماحة المرجع الدِّيني الكبير السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) مكوِّنًا معرفيًّا متقدِّمًا في مسار تشكُّل الخطاب الدِّيني المعاصر داخل مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ لا تقتصر هذه الجلسات على كونها امتدادًا لنمط دروس البحث الخارج المتعارف عليه في الحوزات العلميَّة، وتتجاوز هذا الإطار لتؤدِّي دورًا متعدد الأبعاد، يربط بين البناء الفقهي المنهجي، وصياغة الوعي الفكري، والتَّفاعل المباشر مع الواقع الاجتماعي. وبهذا المعنى، تتحوَّل الجلسة العلميَّة من فضاء تدريسي مغلق إلى بنية معرفيَّة فاعلة، تُعيد تنظيم العلاقة بين النَّص والاجتهاد من جهة، وبين المرجعيَّة والمجتمع من جهة أخرى.
وتظهر قيمة هذه التَّجربة بوصفها ممارسة تطبيقيَّة لإعادة بلورة وظيفة المرجعيَّة الدينيَّة، لا باعتبارها موقعًا فقهيًا منعزلًا؛ وإنَّما باعتبارها إطارًا قياديًّا علميًّا وأخلاقيًّا منخرطًا في المجال الاجتماعي، يمتلك القدرة على مقاربة التَّحولات الزَّمنيَّة ضمن منطق الاجتهاد الأصيل، من غير أن يفضي ذلك إلى القطيعة مع الأسس المنهجيَّة التي يقوم عليها الفقه الإمامي.
وانطلاقًا من أهميَّة هذه الجلسات، يتوزَّع الحديث على محورينِ أساسيينِ:
المحور الأوَّل: سمات الجلسات العلميَّة
يعرض هذا المحور الرؤية الفكريَّة العميقة التي تستند إليها الجلسات العلميَّة لسماحة السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)؛ حيث يُربط الفقه بالتربية وبواقع المجتمع المعاصر. كما يوضح المنهج العلمي لإدارة الجلسات وبناء الخطاب، مع بيان إسهام المرجعيَّة في توسيع أفق الفكر وتعميق الوعي لدى الفرد والمجتمع.
أوَّلًا: المنطلق الفكري.
تنطلق الجلسات العلميَّة لسماحة السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) على تصور فكري ينظر إلى المرجعيَّة الدِّينيَّة بوصفها منظومة رساليَّة متكاملة، لا تنحصر وظيفتها في عملية الاستنباط الفقهي للأحكام، وتتجاوز ذلك إلى تشكيل الوعي الإنساني وصياغة الاتِّجاهات العامَّة للمجتمع، ضمن إطار معرفي يربط بين الوظيفة الدِّينية ومسؤولياتها الحضاريَّة.
وقد تبلورت هذه الرُّؤية ضمن سياق مدرسة علميَّة رساليَّة ذات امتداد معرفي واضح، تأثَّرت بصورة مباشرة بالمنهج الفكري للمرجع المجدد سماحة السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (قدِّس سرُّه)، الذي أعاد توجيه الخطاب الدِّيني نحو الإنسان بوصفه محور الفعل الدِّيني، وأرسى تصورًا للعلم باعتباره أداة إصلاح وبناء اجتماعي، لا نشاطًا معرفيًا منفصلًا عن قضايا الواقع.
وفي هذا الإطار، يُطرح الفقه بوصفه نسقًا معرفيًّا يُعنى بتنظيم شؤون الحياة الإنسانيَّة في ضوء المقاصد الإلهيَّة، لا باعتباره قواعد قانونيَّة مغلقة أو مجموعة أحكام منفصلة عن سياقها الوجودي والاجتماعي.
ثانيًا: المنهج العلمي في إدارة الجلسات وبناء الخطاب.
تقوم الجلسات العلميَّة على مسار منهجي يوازن بين البناء النَّظري والارتباط بالواقع؛ إذ تُعالج المسائل الفقهيَّة ضمن تسلسل معرفي منظَّم، يُراعي طبيعة الموضوعات وتحولاتها الاجتماعيَّة. فلا تُعرض الأحكام بوصفها معطيات مجرَّدة؛ بل تُدرَس في ضوء نتائجها العمليَّة وانعكاساتها الإنسانيَّة، مع الحفاظ على الصلة بين الحكم الشَّرعي ومقاصده الأخلاقيَّة. كما يتَّضح في هذا المسار اعتماد مقاربة تستوعب التَّعدد الاجتهادي، وتُقدِّم الرأي الفقهي باعتباره حصيلة استدلال علمي مفتوح للنقاش، لا تعبيرًا عن سلطة معرفيَّة مغلقة تُمارَس على المتلقي.
وقد بيَّن سماحة السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في مواضع متعددة من هذه الجلسات على أنَّ التنوّع في الآراء الفقهيَّة يُعبّر عن سعة المنظومة التَّشريعيَّة للشريعة الإسلاميَّة، ولا يُمثِّل عامل تفكك داخل الجماعة الدينيَّة. وقد انعكس هذا التَّصور بوضوح في طبيعة الخطاب المعتمد داخل الجلسات العلميَّة، حيث يُتعامل مع الخلاف بوصفه ظاهرة معرفيَّة مشروعة، وتُعرض الآراء ضمن سياقاتها الاستدلاليَّة، بما يُرسِّخ مناخًا حواريًا قائمًا على الفهم والتَّحليل، ويحدّ من النزعات الإقصائيَّة في الخطاب الدِّيني.
ثالثًا: قرب المرجعية من المجتمع.
أسهمت الجلسات العلميَّة في إعادة تشكيل نمط العلاقة بين المرجعيَّة الدِّينيَّة والمجتمع على أساس التَّفاعل المعرفي والاتِّصال الإنساني المباشر؛ حيث لا تُقدَّم المرجعيَّة بوصفها كيانًا هرميًا منفصلًا عن المجال الاجتماعي؛ وإنَّما باعتبارها فاعلًا معرفيًا حاضرًا في قضايا النَّاس، ومُنخرطًا في أسئلتهم وتحدياتهم ضمن إطار علميّ موجَّه.
وانطلاقًا من هذا التَّصور، اتَّجهت موضوعات الجلسات العلميَّة إلى معالجة قضايا لصيقة بالواقع اليومي للأفراد، من قبيل شؤون الأسرة، وإشكالات الشَّباب، ودور الإعلام، ومظاهر العنف، ومباحث الحرية والحقوق، وطبيعة العلاقة مع الآخر. وقد جرى تناول هذه القضايا ضمن صياغة علميَّة تراعي مستوى التلقي العام من دون الإخلال بالضَّبط المنهجي؛ الأمر الذي أفضى إلى ترسيخ علاقة تواصليَّة مستقرة بين المجتمع والمرجعيَّة، وإلى إدراج المعرفة الدينيَّة ضمن الحقل الثَّقافي العام بوصفها خطابًا قابلًا للفهم والتداول.
رابعًا: البعد الإعلامي وتحول الوعي بالأحكام الشرعيَّة.
أدَّى بثُّ الجلسات العلميَّة عبر الوسائط التلفزيونيَّة إلى إحداث تحوّل نوعي في نطاق تلقيها وانتشارها؛ إذ نَقَلها من المجال المحدود إلى الفضاء العام. وقد أتاح هذا الامتداد الإعلامي تقديم البحث الفقهي خارج الأطر النخبويَّة المغلقة، ضمن صياغة منهجيَّة تتسم بالهدوء والوضوح؛ الأمر الذي انعكس على طبيعة التَّلقي الاجتماعي للأحكام الشرعيَّة؛ حيث لم يعد الخطاب مقتصرًا على عرض النَّتائج، واتَّجه نحو بيان المباني الاستدلاليَّة والأسس المعرفيَّة التي يقوم عليها الحكم.
خامسًا: بناء الوعي النَّقدي الدِّيني.
من الآثار العلميَّة الجوهريَّة لهذه الجلسات ترسيخُ وعيٍ نقديٍّ دينيٍّ متوازن، وهادئ في منهجه، ورصين في مقاصده. وهذا الوعي يعمل على تمكين المتلقِّي من التَّفاعل الواعي مع النُّصوص الشرعيَّة، من خلال الفهم والتَّحليل والتَّأمُّل، من دون أن ينزلق إلى مسارات الشَّك المربك أو التَّفكيك السلبي الذي يُضعف الثقة بالنَّص ويُفرغ التدين من روحه.
وقد أولت هذه الجلسات اهتمامًا واضحًا بتعزيز ثقافة الفهم قبل الالتزام، بوصفها مدخلًا أساسًا لتديّنٍ واعٍ ومسؤول، يقوم على القناعة لا على التَّقليد الأعمى، وعلى البصيرة لا على الانفعال. فكان التركيز منصبًّا على إحياء العقل القادر على السؤال المنضبط، والنقد البنَّاء، والتمييز بين الثَّابت والمتغيِّر، بما يحفظ للنص قدسيته، ويمنح العقل دوره الطبيعي في الفهم والاستنباط.
سادسًا: البعد التربويّ والأخلاقيّ.
إلى جانب وظائفها المعرفيَّة، تقوم الجلسات العلميَّة بدور تربوي واضح؛ حيث يُنظر إلى المعرفة الدينيِّة ضمن سياق تكاملي يربط بين الفقه وتهذيب النَّفس. ففي رؤية سماحة المرجع الدِّيني السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يكتسب العلم معناه الكامل بوصفه أداة للارتقاء الإنساني وتوجيه السلوك، وليس كغاية مستقلة عن التجربة الحياتيَّة أو التنمية الأخلاقيَّة للفرد والمجتمع.
وقد انعكس هذا البعد التربويُّ في ترسيخ نموذج متكامل للتدين، يجمع بين الالتزام بالقيم الدينيَّة والمرونة الأخلاقيَّة، وبين الانضباط السلوكي والانفتاح على الواقع المعاصر. وقد ساهم هذا التَّوازن في تحسين طبيعة الخطاب الدِّيني العام، وجعله أكثر تقبُّلًا للفهم والتَّفاعل، وأقرب إلى روح النَّصوص الشرعيَّة ومقاصدها.
سابعًا: تمثيل المرجعية لمنهج أهل البيت (عليهم السلام).
تُمثِّل مسألة تجسيد المرجعيَّة لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) أحد الرَّكائز العميقة في التجربة العلميَّة والفكريَّة لسماحة السيِّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)؛ إذ تُقدَّم المرجعيَّة في هذا الإطار بوصفها امتدادًا حيًّا وأمينًا لخطِّ الأئمة (عليهم السلام)، لا من جهة العصمة التي اختصَّهم الله (تعالى) بها؛ بل من حيث الالتزام الواعي بالمبادئ والمنهج، والتحلِّي بالسلوك القيمي الذي شكَّل السمة البارزة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) عبر التَّاريخ.
وفي هذا التصوّر تتجسَّد المرجعيَّة الدينيَّة بوصفها حالة تربويَّة وقياديَّة، تعكس حضور منهج أهل البيت (عليهم السلام) في الواقع الاجتماعي، وتترجم القيم إلى مواقف، والعلم إلى سلوك، والفقه إلى مسؤوليَّة. ومن هنا تتجلَّى المرجعيَّة بوصفها حلقة وصل متكاملة بين النَّص والواقع، وبين التَّشريع وبناء الإنسان، وبين الهداية النظريَّة والقيادة العمليَّة.
المحور الثَّاني: نماذج من الأسئلة والأجوبة.
في هذا المحور نستعرض نماذج متنوعة (1) من الأسئلة المعاصرة مع أجوبتها، موضّحين كيفيَّة ربط الأحكام الشرعيَّة بالواقع اليومي للمكلَّف. وتُظهر هذه النَّماذج الأسلوب التربويّ والتَّحليليّ للجلسات العلميَّة، حيث يُعلَّم المتلقّي التفكير الفقهي المنهجي وفهم المقاصد الشرعيَّة والأثر الأخلاقي والاجتماعي للأحكام.
1. الاستقراض من البنوك الربويَّة.
السؤال: إذا استقرض شخص من البنوك الربويَّة واشترى دارًا به، ثمَّ باع الدَّار لشخص آخر، وكان جزءًا من الثَّمن تسديد تلك المبالغ إلى المصرف، فما حكمه؟
فأجاب سماحته (دام ظله): "المعاملة الربويَّة باطلة، ومقدار الرِّبا حرام أخذًا وعطاءً، من هنا إذا شرط عليه في البيع تسديد الربا، فهذا شرط (أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًاً) (2)، فلا يجوز، كما لا يجوز تسديد الرِّبا في الفرض المذكور، نعم تسديد أصل الدَّين جائز؛ لأنَّ أصل الدَّين في ذمَّة المديون، وإن كان القرض باطلًا لوجود الرِّبا".
ويعكس الجواب البعد التربوي؛ إذ يُرسّخ وعيًا نقديًا يعلِّم المتلقّي كيفيَّة التَّعامل مع المعاملات المركَّبة من داخل الالتزام الشَّرعي، لا عبر الالتفاف عليه. ويظهر فيه كذلك قرب المرجعيَّة من قضايا الناس المعيشيَّة المعاصرة، بما يؤكّد تحوّل الجلسة العلميَّة إلى فضاء معرفي حيّ يربط بين الفقه، والأخلاق، والواقع الاجتماعي، في انسجامٍ واضح مع منهج أهل البيت (عليهم السلام).
2. الشَّأنية في الخمس.
السؤال: إذا كان في بيته أربع غرف، وهو يحتاج إلى ثلاثة منها، فهل يتعلَّق الخمس بالغرفة الرَّابعة؟
فأجاب سماحته (دام ظله): "الحاجة إلى الغرفة وما أشبه ممَّا يسمى عرفًا بالمؤونة ليس بالاحتياج الفعلي؛ بل هو أعمُّ من الفعليّ والشَّأنيّ، قال الشَّارع: (الخمس بعد المؤنة) (3)، فإذا كان من شأنه أن يستقبل ضيوفًا وكان بحاجة إلى غرفة لهم فهي من المؤنة العرفيَّة، وإن كانت مغلقة طول السنة؛ أي: لم يأته ضيف اتفاقًا".
ويرسِّخ الجواب فهمًا متوازنًا للخمس بوصفه تكليفًا منضبطًا بالمؤونة العرفيَّة، لا أداة لإرهاق المكلّف أو مصادمة حياته الاجتماعيَّة.
3. العمليَّة الجراحيَّة التجميليَّة.
السؤال: هل يجوز اختيارًا أن يقوم الشخص بالعمليَّة الجراحيَّة التجميليَّة، علمًا بأنَّه ولفترة لا يمكنه الوضوء والغسل إلَّا جبيرة أو تيمّمًا.
فأجاب سماحته (دام ظله): "أصل هذه العمليَّة الجراحيَّة بما هي هي لا إشكال فيها؛ أي: إذا لم يستلزم محرَّمًا كالنظر إلى الأجنبيَّة واللمس وما أشبه.
لكن إن كان يسبب ذلك فوت الوضوء والغسل الواجبينِ الاختياريينِ إلى البدل منهما، وهو التيمم، فالبحث في أمرينِ: الحكم التَّكليفي والحكم الوضعي.
أمَّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي، فلا إشكال؛ لأنَّ إيجاد المانع عن وصول الماء إلى البشرة لا يبطل التيمُّم والصَّلاة به، فإنَّه مادام أصبحت الطهارة المائية ضررًا ولو بسببه، كانت الطهارة الترابية مجزية في الصَّلاة وما يشترط فيها الطَّهارة كالطَّواف الواجب.
أمَّا حكمه التَّكليفي ففيه خلاف بين الفقهاء، والظَّاهر أنَّه ليس بحرام، وخاصَّة إذا كان قبل دخول الوقت؛ حيث لا أمر بالغسل أو الوضوء.
(نظائر المسألة): وفي نظائره قال الفقهاء: من كان له الماء ولا يضرُّه استعماله؛ لكنه أخَّر الوضوء أو الغسل عمدًا حتَّى ضاق الوقت فالحكم الوضعي صحَّة تيمُّمه وصلاته، نعم قالوا: هذا التَّأخير هنا حرام؛ لأنَّه قد تعلَّق به الأمر فلم يمتثل.
والحكم بالصحَّة في آخر الوقت بالترابيَّة؛ لأنَّ شرط الوقت أهمُّ من شرط المائية، إذ لها بدل دون الوقت. والقضاء لا يكون بدلًا في الوقت، فيصدق التفويت.
فالتيمّم مأمور به والصلاة مأمور بها فكلاهما صحيحان.
لكن البحث في الحكم التَّكليفي، فإن كان قبل الوقت فلا إشكال في ذلك؛ لأنَّ لا أمر حينئذ.
لا يقال: هذا تفويت للملاك.
لأنه يقال: لا نسلم ذلك صغرى فمن أين نعلم بالملاك الشرعي، وإن كانت الكبرى تامَّة؛ أي: لا يجوز تفويت الملاك.
فليس لنا إلَّا ظواهر الأوامر والنَّواهي الشرعيَّة، وهي لا تدلّ على الملاك أو على تمامه، نعم إذا علمنا به من دليل آخر فلا يجوز تفويته.
الملاكات الشرعيَّة مختلفة، وربما تكون مركَّبة من عدَّة أشياء، فبعض الملاك ما يرتبط بالدُّنيا وبعضه بالآخرة، وبعضه بالامتحان وهكذا.
أمَّا إذا كان بعد الوقت، فهل يجوز القيام بالعمليَّة التجميليَّة ممَّا تفوت الطهارة المائيَّة؟
لتوضيح ذلك لا بأس بيان بعض النظائر والأشباه، فإنَّ مورد السؤال لا خصوصيَّة له؛ بل هو مشمول للقاعدة العامَّة في أمثاله.
قال الفقهاء في مثل هذه المسألة بالنسبة إلى الصَّلاة والصَّوم، إذا صار الزَّوال ودخل وقت الظهرينِ فهل يجوز له أن يجنب نفسه بحيث وهو يعلم بأنَّه لا يتمكَّن من الطهارة المائيَّة الغسل، لضرر الماء أو لفقده أو ما أشبه.
قال في العروة: "نعم يجوز"، ووافقه غالب المحشّين من الفقهاء".
وهنا نجد سماحته يُفكَّك السؤال وفق مقاربة منظمة تُميز بين الحكم التَّكليفي والحكم الوضعي، وتُوضَّح فلسفة البدليّة وأولويَّة شروط العبادة. وهذا الأسلوب يُعلِّم المتلقِّي التَّفكير الفقهي المنهجي، ويقدِّم نموذجًا لكيفيَّة معالجة القضايا المعاصرة بمرونة من دون الخروج عن الثَّوابت الشرعيَّة، بما يعكس قدرة الجلسة على الجمع بين التَّحليل العلمي، والفقه التَّطبيقي، وفهم الواقع الحياتي للإنسان.
4. كيف تقرأ المرأة أدعية الحور العين.
السؤال: هناك أدعية ورد فيها طلب الحور العين من الله (عزَّ وجلَّ)، فكيف تقرأ المرأة هذه الأدعية، وكيف تطلب من الله الحور العين؟
فأجاب سماحته: "يرى البعض أنَّ الحور العين يشمل الذَّكر والأنثى، على خلاف من قال بأنَّ الحور جمع الحوراء، والعين جمع العيناء، فإنَّه قال الحور أعم من جمع الحوراء والأحور، والعين من العيناء والأعين، فإذا قلنا بالأعمّ فالمسألة واضحة، فهي تطلب الزَّواج من الأحور الأعين في الجنَّة.
قالوا: ألا تكون المؤمنة زوجة لزوجها المؤمن في الدُّنيا؟
قال سماحته: الأمر بيدها، إذا كانا من أهل الجنَّة وفي مرتبة واحدة، كما كان الأمر بيدها في الدُّنيا حيث يشترط رضاها في العقد.
ثمَّ إننا أُمرنا بقراءة الأدعية هكذا، سواء الرَّجل أو المرأة من دون تفريق بينهما، فإنَّ الأدعية وردت من المعصومين (عليهم السلام) هكذا وأمروا بقراءتها، ولم يستثنوا النِّساء.
كان شخص في كربلاء المقدَّسة يزور الإمام الحسين (عليه السلام) ربما يوميًا، ولكن لم يكن يقرأ هذه الفقرة من الزيارة (التَّاركُ للخِلافِ عَليكُم) (4)، فإن كان يقول: كيف أكذب، وقد صدرت منِّي المعاصي فلم أترك الخلاف عليهم.
فقال له بعض العلماء: اقرأها حتَّى توفَّق لذلك؛ أي: لترك الخلاف عليهم. وهذا هو الصَّحيح حيث ورد الأمر بقراءة الزيارة هكذا بلا استثناء من كان عاصيًا أو غير عاصٍ.
هذا وربما يراد بترك الخلاف، عدم مخالفتهم في أمر الولاية. وهناك وجوه أخر محتملة.
وكذلك كان يقول البعض: بأنَّ المصلِّي العاصي يكذب عندما يقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (5)، والجواب على ذلك: أنَّه ورد الأمر بقراءته في الصَّلاة".
ويوضح الجواب كيفيَّة تعامل المرجعيَّة مع التباس الفهم أو شعور العاصي بالقصور، مع الحفاظ على التوجيه الشَّرعيّ والنَّصيّ، ممَّا يدعم شعورهم بالالتزام الواعي والمسؤول.
5. ترك تكبيرة الإحرام جهلًا.
السؤال: إذا كان الشَّخص جاهلًا بوجوب تكبيرة الإحرام، وأدَّى الصَّلاة عدَّة سنوات من دون تكبيرة الإحرام، فما حكم صلاته؟
قال سماحته: "هذه المسألة مسألة مشكلة، ويجب أن نرى هل أنَّ دليل "لا تُعاد" يشمله أم لا؟
يقول بعض السَّادة: "لا تُعاد الصلاة" هي في حالة تحرز فيها الصَّلاة، وإذا كانت من دون تكبيرة الإحرام، وبدأ مباشرة بقراءة الحمد والسورة، فهي ليست صلاة أساسًا؛ لأنَّ مفتاح الصَّلاة التَّكبير، فإذاً حينما لم يكبِّر فهو لم يدخل إلى الصَّلاة أبدًا، وهي ليست بصلاة، حتَّى يشمله "لا تُعاد الصلاة".
أنا شخصيًّا طرحتُ هذه المسألة مع الأعاظم كرارًا، فقال بعضهم: "الصَّلاة مفتاحها التَّكبير"؛ معناها أنَّ من دون التَّكبير لم يدخل إلى الصَّلاة أبدًا.
لكن يبدو: كلُّ من قال أنَّ هذه ليست بصلاة، ولكن ملاك "لا تُعاد" يشمل هذا المورد. ولعلَّنا نستطيع القول: إنَّ ظاهر "لا تُعاد"؛ يعني كلّ خلل أعم من فقد الشَّرط أو الجزء، ووجود القاطع أو المانع الذي سيطرأ على الصلاة، ولم تكن من إحدى تلك الموارد المستثناة الخمسة (القبلة، الطهور، الوقت، الركوع، السجود)، وقد أضاف الفقهاء موردًا سادسًا وهي النيَّة، فمن هذه الجهة إذا لم تكن هناك نيَّة فليست هناك صلاة، أيضًا ألحقت إلى مستثنيات "لا تُعاد": إذا مُحيت صورة الصّلاة.
الخلاصة: إذا لم يكن ذلك الخلل من إحدى هذه الموارد السَّبعة، وجرى جهلًا في الصلاة، فإنَّ صلاته صحيحة. وبعبارة أخرى: إنَّ دليل "لا تُعاد" من أدلَّة القاعدة التَّسهيليَّة لأجل الشخص الجاهل، وطبعًا الجهل القصوري؛ لأنّ الجاهل المقصِّر هو في حكم العامد العالم.
بناءً على هذا الاستظهار، نستطيع القول بأنَّ الذي لم يقل بتكبيرة الإحرام جهلًا بوجوبها، أنَّ صلاته صحيحة، وإذا لم يستظهر، فصحَّة الصلاة فيها إشكال".
ومن هذا الجواب يتبيَّن أنَّ مسألة ترك تكبيرة الإحرام جهلًا تُعالج بتفصيل دقيق بين الجهل القصوري والجهل المقصّر، مع مراعاة مبنى قاعدة "لا تُعاد الصلاة" وفلسفة استثناءاتها. وهذا الأسلوب يُنمّي وعيًا نقديًا لدى المكلّف، بحيث يفهم المراد من الحكم والأثر الواقعي للخطأ غير المقصود، من دون الشعور بالذنب المفرط أو التفريط في الواجب.
6. حدود ولاية الشخص على نفسه.
السؤال: ما هو حدّ ولاية الشخص على نفسه، مثلًا هل يستطيع أن يقطع يده؟
فقال سماحته: "للشَّخص ولاية على نفسه، إلَّا في ثلاثة أو أربعة أشياء، وهي:
1- الانتحار، بدليل الآية الشَّريفة: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) (6).
2- قطع العضو: بدليل الإجماع.
3- تعطيل وإتلاف إحدى أعضاء الجسم: كقوَّة الإنجاب، بدليل الإجماع.
4- المورد الرَّابع ليس اجماعيًّا، وقد طرح قليلًا، وهو: تعريض النَّفس للأمراض الخطيرة، وعلى سبيل المثال أن يعمل الشخص عملًا يُصاب فيه بالسَّرطان.
يبدو أنَّ هذا المورد أيضًا غير جائز، ودليله الارتكاز؛ لأنَّ المتشرِّعة قبلوا بكبرى الارتكاز، وهم استندوا عليه، ويبدو من المورد الرَّابع صغرى الارتكاز".
فالشَّرح يوضح نطاق ولاية الشخص على نفسه، ويبيِّن القيود المستندة إلى الأدلة الشرعيَّة والإجماع والارتكاز، ممَّا يُنمِّي وعي المتلقي بالمعايير العقليَّة والأخلاقيَّة للقرار الشخصي.
ويُظهرُ ما سبق أنَّ الجلسات العلميَّة لسماحة السيِّد صادق الحسينيّ الشيرازيّ (دام ظله) تمثِّل تجربة معرفيَّة فريدة، تتخطَّى حدود الاستنباط الفقهي لتؤسس لوعي متكامل وشامل، يربط بين النَّص الشرعي وواقع الإنسان المعاصر. فهي تمنح المتلقِّي القدرة على فهم الأحكام والتَّفاعل معها بوعي نقدي مسؤول، مع مراعاة مقاصد الشَّريعة، وتوضح أنَّ الاجتهاد الحقيقي لا يقتصر على الأحكام، وإنَّما يمتد إلى تهذيب النفس وصياغة السلوك الأخلاقي والاجتماعي.
كما تؤكِّد هذه الجلسات أنَّ المرجعيَّة الدينيَّة هي كيان فاعل يواكب احتياجات النَّاس، ويقدِّم الإجابات بأسلوب علمي وتربوي متوازن، يعزز العلاقة بين الالتزام الشَّرعي والفهم العميق للنُّصوص. ومن هذا المنطلق، تتحوَّل الجلسة العلميَّة إلى فضاء معرفي متكامل، يجمع بين الاجتهاد، والتربية، والانفتاح على الواقع، ليصبح العلم أداة حقيقيَّة للإصلاح الفردي والمجتمعي على حدٍّ سواء.



اضف تعليق