إسلاميات - المرجع الشيرازي

سياسة تقديم العفو على العقاب

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

إن الجميع بحاجة إلى اعتماد منهج العفو والتسامح في حياتهم، ولكن صاحب السلطة، أي المتسلط على الناس سياسيا وإداريا، لابد أن يكون العفو منهجه، لأن القسوة والظلم والإكراه وأساليب القوة الغاشمة، كلها لا تنفع القادة والحكام، الذي ينفعهم هو أسلوب الرسول (ص) وأسلوب أهل البيت (ع)...

(إن أهم ما يحقق الصلاح في المجتمع هي سيرة من يقودونه)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

 

ما أعظم المنهج التربوي الذي فتح المسلمون عيونهم عليه، وأخذوه من أعظم القلوب السليمة، يتقدمها قلب الرسول صلى الله عليه وآله، وقلب أمير المؤمنين عليه السلام، إنه المنهج الذي رأف بالإنسان، ونشر بين قلوب الناس الطمأنينة، وصار فيه قادة المجتمع هم الأسوة الحسنة لجميع الناس، فانتشرت الرحمة وتضاعفت فرص العفو وانحسر العقاب.

لذلك يجب على الحكام المسلمين اليوم، بل وحكام الدول الأخرى في العالم أن يتعلموا هذا المنهج، الذي قدّم العفو على العقاب، ونشر أسلوب التعامل بقلب سليم وطاهر مع الجميع، فكانت أجواء الرحمة تخيّم على النفوس والقلوب، وكان العفو يتقدم على القسوة وعلى العقاب، فتكوّن شيئا فشيئا ذلك البنيان الاجتماعي الرحيم، ونجا الناس من الظلم وانتشرت سلامة القلوب وصارت عنوانا وسلوكا لأفراد المجتمع كافة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في سلسلة نبراس المعرفة، محاضرة القلب السليم:

(على الحكام المسلمين وغير المسلمين أن يتعلّموا من رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) طريقة التعامل بقلب طاهر وسليم، حتى يكون ذلك التعامل نجاة لهم ولأممهم من الظلم وسلامة لقلبهم من القساوة).

وهناك نقطة في غاية الأهمية لها علاقة مباشرة بالذين يقودون الناس، وهم الحكام المسيطرين على زمام السلطة، وتصدر الأوامر مهم، سواء كانت في إطار العفو، أو تذهب نحو العقاب، بالإضافة إلى السلوكيات الأخرى، فالقادة والحكام يشكلون النموذج الذي ينظر إليه الناس، فيسيرون في ضوء هذا النموذج، إن ابتعد عنه الظلم والفساد، وراعى حقوق الشعب، فإنه سوف يكون الأسوة الحسنة للجميع.

ولا يختلف الأمر هنا في حال كان الوطن صغيرا أم مترامي الأطراف، فمن يعيش في هذه البقعة ينظر إلى القائد الذي يدير شؤونه، وهكذا يأخذ عنه سماحة التفكير أو قساوة القلب ويتعلم منه، فإن كان الحاكم قاسيا يكون الناس قساة، ويصح العكس تماما.

العفو فيه لذة لا تزول

وقد جاء في الأقوال إن (في العفو لذة لا نجدها في الانتقام)، وهو قول صحيح جدا، فالعفو ينشر السعادة، ويجعل الأجواء هادئة سعيدة مستقرة، في حين إن الانتقام ينشر الخوف بين الناس، ودائما تكون نتائجه عاصفة تحرق الأخضر واليابس لأنها محمّلة بنيران الحقد والتشفّي، لذلك نحتاج دائما إلى الحاكم الذي يحقق الصلاح في المجتمع.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (إن أهم ما يحقق الصلاح في المجتمع هي سيرة من يقودونه، سواء كانت قيادتهم لمجتمع صغير أو لوطن كبير مترامي الأطراف).

ويشترط بالحاكم ذي الإجراءات التي تعمل على صلاح المجتمع، أن يكون ذا قلب سليم، لأنه لا يمكن أن يكون مسامحا، ولا يستخدم العفو في إدارته، إلا إذا كان قلبه ممتلئا بالأشياء الصالحة، فالقلب وعاء، يتم ملأه بما يعيشه الإنسان ويجربه في مسيرة حياته، فإذا امتلأ هذا الوعاء بالصالحات كان مسامحا صالحا ومسالما، ويصح العكس طبعا.

فالحاكم القادر على صلاح الناس هو صاحب القلب السليم، الذي وصفه القرآن بإحدى الآيات القرآنية، بأنه الشيء الوحيد الذي يمكّن الإنسان بالتقرّب إلى الله تعالى.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (القلب السليم هو القلب الذي يقول عنه القرآن الكريم: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، سورة الشعراء، الآية 88.

كذلك لا شيء ينفع الإنسان أكثر من قلبه السليم، فهؤلاء الذين يلهثون اليوم وراء كنز الأموال، واللجوء إلى القوة وأساليب الخداع والاحتيال، وإكراه الناس، والتجاوز على أموالهم وحقوقهم، هؤلاء المسؤولين عن معظم أعمال الحرام التي تطال البشر وتنتقص منهم ومن كرامتهم، وحقوقهم، هؤلاء جميعا لا تفيدهم أموالهم بشيء.

فالمال لا ينتقل مع صاحبه إلى ما بعد الحياة، وإلى ما بعد الموت، بل يذهب الإنسان (الظالم القاسي) وحيدا إلى العالم الآخر، يواجه مصيره بمفرده، لا يُسمح لابن أن يساعده ولا صديق ولا قريب، بل هو من يتحمل وزر أعماله وحيدا، فإذا كان ظالما سوف يحصد من ظلمه ما يستحق، وإذا كان قاسيا سوف ترتدّ عليه قسوته، وأمواله كلها سوف تتحول إلى تراب.

حتى الأبناء لا فائدة منهم عندما يواجه الإنسان مصيره وحيدا أمام ربه، ولا تنفعه إلا أعماله في الدنيا، وهنا يستفيد الحاكم وصاحب السلطة، من إدارته العادلة للناس وحقوقهم، وابتعاده عن الشدة والإجبار والابتزاز الذي قد يلجأ إليه بعض المسؤولين للحصول على المال الحرام.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (لا ينتفع الإنسان بالمال في الآخرة، فالمال حاله حال التراب، لا نفع فيه!، وكذا لا نفع في البنون في الآخرة، لأنّ ما ينفع الإنسان في آخرته هو قلبه الطاهر الذي يقدّم فيه العفو على العقاب).

منهج العفو سبيلنا الوحيد

فليسعَ أصحاب السلطة نحو منهج العفو، وليبتعدوا عن منهج العقاب، وليجربوا العفو أولا، فهو يعينهم على صلاح الأمة، ويجعلهم أقرب إلى الناس، وبخلاف ذلك تقل فرص الصلاح، وتتضاعف حالات الظلم، وقد تشتعل فتائل الشر لتنتشر بين الناس وتملأ قلوبهم بالشر، وهذا لا يُسهم في بناء أمة متماسكة، ولا يساعد في قيام نسيج اجتماعي جيد.

لذا فإن منهج العفو هو السبيل الذي يقود الناس إلى مصائر مضمونة وجيدة بعد مغادرة هذه الدنيا، فليتعلم الناس ذلك ويعلموا بهذا الأمر، عليكم بالعفو في إدارة أعمالكم وعلاقاتكم، خصوصا إذا كنت في موقع السلطة، هذا يضاعف من مسؤوليتك، أما إذا كان ملتزما دينيا فإن سلامة قلبه تمنحه المزيد من فرص قبول أعماله ومضاعفة حسناته.

كما يؤكد لك سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في قوله:

الإنسان (الذي يصلي ويصوم ومن تكون أعماله مقبولة، إذا كان قلبه سليماً وطاهراً، سينال بدعائه وتوسله مراتب عُليا من سلامة القلب وسلامة الدين، وهذا موجود في تأريخ الكثير من العلماء الماضين).

وهنا يبرز بقوة منهج التسامح والعفو والأخلاق النبوية التي يجب أن نأخذ منها المزيد من طرائق العيش السليم، واعتماد التصالح والتسالم والتقارب والتسامح فيما بيننا، لأننا نعيش في بقعة واحدة، وحيّز مكاني واحد، ويربطنا دين واحد، ومصالحنا واحدة وعلاقاتنا ومصالحنا متشابكة، فنسامح من يسيء لنا.

هذا بالضبط ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل البيت عليهم السلام، إنهم لا يردوا الإساءة بمثلها، بل غالبا يكون العفو هو الإجابة على الإساءة، لهذا تمسك بهم الناس حتى أعدائهم، ودخل الكثير الكثير إلى الإسلام بسبب هذه المواقف العظيمة للعفو والتسامح.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(نحن اليوم بحاجة إلى تعلّم الأخلاق النبوية الفاضلة، التي حثّ الله على إتّباعها في القرآن الكريم بالقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، سورة الأحزاب، الآية 21، لأن هذه الأخلاق ستكون سبباً لهداية الكثير من الناس، وفعلاً كانت نتيجة هذا الفعل أن آمن بالإسلام الكثير من المشركين، وكان من بين الذين آمنوا به من رماه بالحصى أيضاً).

خلاصة القول إن الجميع بحاجة إلى اعتماد منهج العفو والتسامح في حياتهم، ولكن صاحب السلطة، أي المتسلط على الناس سياسيا وإداريا، لابد أن يكون العفو منهجه، لأن القسوة والظلم والإكراه وأساليب القوة الغاشمة، كلها لا تنفع القادة والحكام، الذي ينفعهم هو أسلوب الرسول صلى الله عليه وآله وأسلوب أهل البيت عليهم السلام، أسلوب العفو والتسامح، هذا هو الدرس البليغ الذي يجب أن يحفظه ويطبقه حكامنا وقادتنا اليوم.


اضف تعليق