q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

تعاطف الحاكم مع شعبه: الإمام علي (ع) نموذجا

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

النموذج الواضح الذي يقدمه الإمام علي عليه السلام للحكام، وللناس جميعا، فالحكم بالنسبة له ليس سلطة، ولا أموال، ولا نفوذ، ولا جاه، ولا كنز للثروات، ولا تعامل فج مع الناس، وإنما الحكم بالنسبة له رحمة وتعاطف وعدالة وإنصاف وتراحم ومحبة، وسعي دؤوب لرفع الحيف عن الناس، ومساعدتهم على تجاوز مخلفات العوز والفقر والشقاء...

(أراد الإمام علي تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

من صور وأشكال الحكم المشرّفة في التاريخ، ذلك النموذج الباهر المتمثل بتجربة الحكم في عهد الإمام علي عليه السلام، وهو قائد دولة المسلمين الأعلى والحاكم الذي كان قائدا ومسؤولا عن كل أرجاء وأصقاع الدولة الإسلامية التي ضمت مساحات شاسعة تعادل عشرات الدول في عالم اليوم، وقدم الإمام نموذجا متفرّدا من طرائق الحكم على مستوى التعامل مع الشعب.

من أكثر الصفات وضوحا في شخصية حاكم دولة المسلمين علي بن أبي طالب، تفكيره بالناس البسطاء والفقراء، وسعيه للتعاطف الشديد معهم، وبذل كل ما تتمكن منه الدولة لتذليل المصاعب التي يعاني منها هؤلاء، فكان عليه السلام يلبس مثلما يلبسون، ويأكل مثلما يأكلون، ويحرص على التساوي مع أبسط الناس في المظهر والمأكل.

يقوم الحاكم بمثل هذه الخطوات لكي يُظهر للناس الذين يحكمهم بأنه ليس أهم منهم من حيث القيمة الإنسانية، وأنه لا يختلف عنهم في قضية الغنى والفقر، بل سعى في سياسته المعروفة، إلى نشر العدل وتطبيقه على الناس جميعا، والتزم قيمة الإنصاف، وأنصف الناس لاسيما البسطاء والضعفاء منهم، كل هذا كان يتم في طريقة متميز للتعاطف الإنساني مع الجميع.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يذكر في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نفحات الهداية):

إن (إحدى خصال الإمام علي سلام الله عليه خاصة في فترة خلافته، تعاطفه مع الناس، ويتجلّى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله وقد قال: ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصية).

من السمات العظيمة التي اتسم بها الإمام علي في سياسته وحكمه للأمة، أنه قدّم النموذج الجيد للإنسان بشكل عام، والنموذج المتميز للحاكم أيضا، فمن حيث كونه حاكما فإنه لم يستغل نفوذه ولا منصبه لكي يبني القصور، ويحوز الأطيان، ولم يسعَ لتحقيق الثراء الفاحش على حساب الناس، كما أنه أبعد نفسه كحاكم عن جميع مظاهر التفاخر والرفاهية الزائفة.

محاربة الفقر وأسبابه

لم يبنِ قصرا، ولم يكن يتحمل وجود أناس لا يحصلون على قوتهم أو ما يسد رمقهم، على الرغم من سعة الدولة المترامية، فكان يحارب الفقر أينما كان، ويحرص على توفير كل ما يحتاجه الناس حتى يكونوا في منأى عن الفقر وفي حماية منه، لأن الفقر هو أسوأ ما يمكن أن يتعرض له البشر، لهذا قال الإمام علي (عليه السلام): (لو كان الفقر رجلا لقتلته).

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على هذه النقطة فيقول:

(لم يضع الإمام علي سلام الله عليه حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً، بل تحمّل كلّ المصاعب والآلام لئلا يكون هناك فرد في أقصى نقاط دولته يعاني من فقره، ولا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسدّ رمقه).

وهكذا حين كان يسمع الإمام (عليه السلام) بوجود فقير واحد في أبعد نقطة من البلاد الإسلامية والتي تقع تحت مسؤوليته كحاكم للمسلمين، فإنه يبادر على الفور بمعالجة الموقف بأقصى سرعة، كما أنه لا يمكن أن ينام ليلته شبعانا وهناك ولو فرد واحد من شعبه جائعا، وهذا الأمر معروف عن الإمام علي حين حكم دولة المسلمين.

هذا السلوك لأكبر مسؤول في الدولة، أي للحاكم الأعلى إنما يمثل درسا لحكام المسلمين كلهم، بل لحكام العالم أجمع، فقد حرم الإمام (عليه السلام) نفسه من الطعام الفاخر والملبس الباهر طالما كان هناك من يشكو الجوع أو الملبس، وهذا أيضا درس للحكام المسلمين اليوم، فإنهم مطالبون بأن يتخذوا من الإمام نموذجا لهم في التعاطف مع شعوبهم.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(لذا، فإنّه لمجرد أن يحتمل - سلام الله عليه- وجود أفراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرم نفسه حتى من متوسط الطعام واللباس والمسكن ولوازم الحياة العادية).

هناك أهداف واضحة للإمام علي حين يتعامل مع السلطة والحكم والمحكومين بهذه الطريقة، فهو عليه السلام حين يمتنع عن الأكل حين يكون هناك جائعا، وعن الملبس الناعم حين يكون هناك معوزا إنما يريد أن يُظهر التعاطف التام مع الناس أولا، ومن ثم يريد أن يكفّ عن نفسه وشخصه الشبهات التي يبثها أعداؤه عنه، فيردع هؤلاء الأعداء بتعاطفه وزهده الكبير بالسلطة والنفوذ والأموال والرفاهية.

وهناك هدف ثان وهو تذكير الحكام المسلمين بأنهم يجب أن يتحلّوا بالمساواة والعدل والإنصاف في تعاملهم بقضية الحكم بين الناس، فلا يجوز للحاكم أن يفرق بين محكوم وآخر من بني أمته أو شعبه، وعليه بالإنصاف في التعاطف معهم، كما تقع على عاتق الحاكم توفير الحياة الكريمة لجميع الناس، وتحقيق الرفاهية والحياة الكريمة لهم.

نصائح مهمة لحكام المسلمين

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله: (أراد الإمام علي سلام الله عليه بنهجه هذا تحقيق هدفين، الهدف الأول: أن يُبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه - الذين أنكروا عليه حتى مناقبه - أيَ حجّة تدينه. والهدف الثاني: تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظلّ حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجدّ من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم).

من هنا ركّز قائد المسلمين الأعلى الإمام علي (عليه السلام)، على معالجة الفقر، والقضاء التام على حالات الجوع بكل أشكاله، كما أنه دعا جميع المسؤولين العاملين معه، وحكام الولايات في مدن أخرى إلى التقارب والتساوي مع الناس في الملبس والمأكل، فيلبس الحاكم مثلما يلبس الناس، ويأكل مثل مأكلهم، ولا يترفّع عليهم.

فإذا كان هناك فقراء يعانون من الفقر، لابد للحاكم أن يجرب ويعيش ما يعيشه هؤلاء الفقراء من حياة عصيبة، حتى يشعر بما يشعرون به، ومن ثم يتحرك كما يجب للقضاء على ما يعاني منه الناس من ضنك العيش والفاقة، ولا يجوز أن يعيش الحاكم في وادٍ من العز والغنى والثراء، فيما يعيش الشعب في وادٍ من الذل والعوز والبقاء تحت وطأة الجوع، فهذا ما لا يقبله الإمام علي لنفسه، ولا يرضى به لمعاونيه.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(من هذا المنطلق، فإن مجرّد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام علي سلام الله عليه مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو عليه السلام يؤكّد على الحكّام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش).

لهذا على حكام المسلمين اليوم أن ينتهزوا الفرصة كما يجب، ويطلعوا على سيرة أمير المؤمنين في الحكم على وجه الخصوص، والتعلم منه، كيفية التعاطي مع السلطة، وكيف يتعاطف هذا الحاكم أو المسؤول مع الناس في تعامله معهم، كذلك على هؤلاء الحكام أن ينهلوا من علم الإمام ومعارفه وسيرته الوضاءة حتى يكونوا قادرين على الحكم الصحيح.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّه لمن تعاسة الإنسان وسوء حظّه أن يطلب العلم والمعرفة من غير طريق علي وآل علي سلام الله عليهم، وهذا العلم، إنْ حصل، فليس بذاك لأنّه مفرَّغ من القيم الأخلاقية والمعنوية، وبعيد عن روح الشريعة).

هذا هو النموذج الواضح الذي يقدمه الإمام علي عليه السلام للحكام، وللناس جميعا، فالحكم بالنسبة له ليس سلطة، ولا أموال، ولا نفوذ، ولا جاه، ولا كنز للثروات، ولا تعامل فج مع الناس، وإنما الحكم بالنسبة له رحمة وتعاطف وعدالة وإنصاف وتراحم ومحبة، وسعي دؤوب لرفع الحيف عن الناس، ومساعدتهم على تجاوز مخلفات العوز والفقر والشقاء.

اضف تعليق