يبقى الصراع قائما بل أزليا بين النفس والإنسان، أو بين نفسه وإخلاصه، وكذلك بين نفسه وقلبه، بل بين نفسه وعقله، وطالما أننا نعيش اليوم في عالم مادي استهلاكي أصبحت فيه أبواب الحرام مفتوحة على مصاريعها، فإن الواجب علينا أن تكون قلوبنا سليمة نظيفة قوية قادرة على مكافحة أساليب التثبيط والتلويث المادي المتنمّر...
(بالقلب السليم نستطيع مكافحة تثبيط الناس وتمويه النفس الامارة بالسوء)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
في غياب التمايز لا قيمة للأشياء في هذه الحياة، وهذا التمايز طبيعة موجودة لتحديد من هو الأفضل، فالأضداد تتمايزُ فيما بينها، مثلا الليل يقابله النهار بالضد، وكلٌ منهما له مميزاته يتفوق فيها على الآخر، والأبيض والأسود لونان مختلفان ومتضادان بشكل حاد وتام وكلاهما له مميزاته أيضا.
وموضوعنا هذا يبحث في متضادّين هما (النفس/ الإخلاص)، فكلاهما مختلف عن الآخر، فيدور بينهما ما يُشبه الصراع، لأنهما متضادان متقابلان أحدهما يريد أن يقضي على الآخر، أو يتفوق عليه، فالإخلاص يريد أن يسمو بالإنسان عاليا ويبني له مكانة وقيمة رفيعة بين الناس وأمام الذات أيضا.
أما النفس فلا يهمها الإنسان، حتى صاحبها لا يهمها ولا تعبأ به، لأنها تهتم بما ترغب به وتريده وتستجيب لأهوائها ورغباتها، ولهذا تسعى النفس بكل ما لها من قوة نحو تدمير الإخلاص عند الإنسان، لأنه يمنع النفس من تحقيق مآربها الدنيئة، ولأن الإخلاص يريد أن يرتفع بقيمة الإنسان بينما تريد النفس أن تهبط به إلى الحضيض.
هذا الصراع المحتدم بين إخلاص الإنسان وبين نفسه، يبقى قائما طالما كان الإنسان موجودا على قيد الحياة، لهذا يحتاج الإنسان إلى قلب قويّ سليم نظيف ومؤمن لكي يتمكن من مكافحة إسقاطات النفس وانحدارها وفردانيتها، وانشغالها بما يحقق الرغبات المحرّمة لها، لهذا عليه أن يحذر من تزلزل نيّته، وانحطاط أفكاره، وعليه أن يمنع النيّات السيئة إلى قلبه وعقله وتفكيره، والقلب السليم هو القادر على مكافحة النفس وحماية الإخلاص من الضعف.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في الكتاب القيّم الموسوم بـ (من عبق المرجعية):
(مهما أوتي الانسان من توفيق وإخلاص، ولو بقي مستمرا على الإخلاص سبعين سنة لا يؤمن من تزلزل نيّته، لأنه مكبل ومشدود بغرائز وشهوات وهوى ودنيا واشياء مختلفة وغريبة).
لهذا يكون الإنسان دائما في حاجة مستمرة إلى الإخلاص، حتى يضمن الوصول إلى قلب سليم نظيف قوي مؤمن، يحميه من مغريات هائلة ما أنزل الله بها من سلطات، حيث تعجّ هذه الدنيا بالملذات والمحرمات والمغريات، وهذه كلها متاحة أمام النفس، ويمكن للإنسان أن يلج إليها في أي وقت، ومن الغريب حقا أن بوابات الانحراف مفتوحة ومشرعة للإنسان على الدوام ويمكنه أن يدخلها في أي وقت.
الولوج في عالم الرغبات المنحرفة
فأي امتحان صعب هذا الذي وُضِع فيه الإنسان، وكم يحتاج من ثبات النيّة وقوة الإخلاص حتى يتمكن من مواجهة النفس وضعفها وإصرارها على الولوج في عالم الرغبات المنحرفة؟
إنه اختبار كبير ومستمر طالما كان الإنسان على قيد الحياة، ولهذا على الإنسان أن يبقى حذِرا بل شديد الحذر من تعرّض نيّته إخلاصه للضعف والاهتزاز، كذلك عليه أن يحرص على سلامة قلبه من عفن الدنيا (ملذّاتها الكثيرة)، فالصراع مستمر بين النفس والإخلاص، وحاجة الإنسان للقلب السليم تبقى حاجة أبديّة لا غنى عنها.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله):
(ينبغي لنا ان نركز على الاخلاص حتى نصبح فيه كذي الفن الواحد وحتى نحصل على ملكة الفضائل والاخلاق وعلى القلب السليم).
في عالم اليوم، أصبح الإنسان يعيش في غابة من المغريات، وفي فوضى الاستهلاك اللامحدود، فكل شيء مباح أمامه، ويمكنه الدخول في أوسع بوابات الحرام، لاسيما وأن الحدود تداخلت، والمغريات بلغت ذروتها في هذا العصر، ولم يبق أمام الإنسان سوى التمسك الشديد بإخلاصه النقي الحقيقي، وبقلبه السليم القادر على حمايته من الانحدار نحو مستنقع الماديات والمغريات والملذات المطروحة أمامه في أي وقت يشاء!
كما أن الغريب يبدو في وجود الناس الذين يثبطون عزمك على الإخلاص، وعلى الاستقامة، فهؤلاء يحاولون أن يثبطوا عزمك على مكافحة الرذيلة، وهناك من يشجعك على الدخول في غابة الحرام، وهي واسعة في عالم اليوم المادي، فكم نسمع من موظفين أشراف ومخلصين أنهم بسبب اختلاطهم بموظفين منحرفين تزلزل إخلاصهم وضعفت قلوبهم وتلوثت وانحدروا نحو الحرام؟
إنه صراع محتدم ومستمر بين الإخلاص والقلب السليم من جهة، وبين الحرام والنفس الأمَرة من جهة ثانية، وهنا لكي ينقذ الإنسان نفسه من السقوط في مستنقع الرذيلة، عليه أن يتمسك بالقلب السليم المؤمن الذي يحمي صاحبه من أفكار الآخرين المنحرفة، ويسعفه من الشبهات التي تحيط به، ومن ألسن المثبطين الذين يسعون إلى تلويث القلوب السليمة النظيفة بالحرام حتى يكون الناس الأنظاف مثلهم.
هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (بالقلب السليم نستطيع مكافحة تثبيط الناس وتمويه النفس الامارة بالسوء).
مكافحة أساليب التلويث المادي المتنمّر
وهناك محاذير ينبغي التنبّه لها، إذ على الإنسان أن لا يطمع بما يحصده من الإخلاص، وأن لا يكون هذا هو دافعه للاستمرار بالإخلاص والعمل الصالح، بل عليه أن يفكر أولا وأخيرا بأن العمل الصحيح الذي يقوم به يراعي به الله تعالى أولا، حتى لا يضعف إخلاص الإنسان، وحتى لا يتراجع قلبه عن سلامته ونظافته وإيمانه.
إنك تقوم بالعمل الصالح لوجه الله، وليس لتحصد منافع من هذا أو ذاك، فمنفعة القيام بالعمل الصالح هي مرضاة الله أولا، وشيء طبيعي أن العمل الصالح سوف ينتج عنه آثارا جيدة، لكن ينبغي أن لا تكون هي الهدف ولا تصبح هي الشغل الشاغل لفاعل الخير، إن العمل لله هو الهدف الأول والأخير.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد هذه النقطة فيقول:
(الطمع بظهور آثار الإخلاص، لا ينبغي أن يكون هو الدافع لنا نحو التحرك والعمل، بل ليكن عملنا لله وحده).
لهذا ليس عليك أن تكون مخلصا لكي تقطف آثار عملك المخلص هذا بشكل مسبق، فأنت إنسان مخلص قبل أن تخطط لما تحصده من إخلاصك، بمعنى لا ينبغي عليك أن تكون مخلصا حتى تحصل على المال أو على آثار أخرى دنيوية، إنما إخلاصك هذا أوجبته عليك أحكام الله، وإذا انتظرت نتائج إخلاصك، فإن عملك سوف يكون لله تعالى ولغيره.
كما يؤكد ذلك سماحته قائلا: (لو عملنا بإخلاص من أجل نتيجة الإخلاص، فإن ذلك لا ينفع، حيث سيكون عملا لله، ولغير الله).
وما يدل على أهمية أن يكون الإخلاص لله أولا، هو أن الله تعالى لم يخلق الجنة من باب المنّة على أحد ما، وإنما هي الجزاء الذي يستحقه المؤمنون المخلصون الأخيار، وهذا ما يجب أن ينتبه له الناس، فعليهم أن يتعلموا الدرس جيدا من واقع حياتهم، وأن يفهموا بأن دنياهم هذه وأعمالهم وأموالهم ومصالحهم، يجب أن تكون في خدمة الإخلاص وفي دعم القلب السليم القادر على مكافحة المغريات والشبهات والمثبطات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لم يخلق الله تعالي الجنة لكي يمنّ بها على هذا أو ذلك بل خلقها للمؤمنين الخيرين المخلصين).
وهكذا يبقى الصراع قائما بل أزليا بين النفس والإنسان، أو بين نفسه وإخلاصه، وكذلك بين نفسه وقلبه، بل بين نفسه وعقله، وطالما أننا نعيش اليوم في عالم مادي استهلاكي أصبحت فيه أبواب الحرام مفتوحة على مصاريعها، فإن الواجب علينا أن تكون قلوبنا سليمة نظيفة قوية قادرة على مكافحة أساليب التثبيط والتلويث المادي المتنمّر.
اضف تعليق