q
فالأمة الإسلامية الحقّيقية التي يريدها الله سبحانه وتعالى على أرضه هي الأمة القائمة على طلب الوسطية والاعتدال، فالأمة الوسط هي الأمة التي لا تكون متطرّفة ولا تأخذ بأطراف الأشياء بشكل كامل: شدّة أو رخاء، بطشاً أو غفراناً، جسداً أو روحاً... إنها الأمّة التي تأبى الأخذ بالأطراف وبالتطرّف...

مقدمة للعبور

كثيرا ما نقرأ في ما يصدر من كتب ومجلّات ودوريات في الشرق والغرب عن مفهوم الوسطية والاعتدال في السياسة والدين، وكثيراً ما نقرأ أيضاً عن الحكمة من وجود هذين المصطلحَين في تعامل الفرد مع ذاته ومن ثم مع مجتمعه الأكبر والأعمّ والأشمل.

ولكن، وحتى نكون واقعيين ومنطقيين في طرحنا لهذا الموضوع الهام، علينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التالية التي تفرض علينا نفسها بقوة، والتي لا غنى عن الإجابة عنها من أجل أن تتكامل الصورة بشكل كامل أمامنا.

ومن تلك الأسئلة الهامة، ما يلي:

- هل كل الأطراف والهيئات، وربما الأحزاب والتيارات السياسية والدينية في أي مجتمعٍ كان، تقبل بمبدأ الوسطية وتباركه؟ أم أنها تدينه وتستنكره وترفض العمل به؟

- هل الوسطية، أو الاعتدال كما يحلو للبعض تسميتها، دليل ضعف القوة والفكر أم أنها دليل قوة الوعي والإدراك؟

- هل دعتْ الأديان السابقة إلى الوسطية أم أنها دعت حيناً إلى القوة والتشدّد وحيناً آخر إلى المرونة الزائدة، وذلك تبعاً لطبيعة المجتمع ولخصوصية الظروف؟

- ما هو موقف الإسلام الحنيف، آخر الرسالات السماوية، من الوسطية، ولماذا هناك تيارات متصارعة بشأن هذه المسألة التي باتت ضرورة ملحّة في حياتنا اليومية، في كافة المجالات والميادين؟

بالطبع، هذه هي بعض الأسئلة التي تفرض علينا الإجابة عنها حتى نتمكن من وضع النقاط على الحروف بشأن الفهم السليم لمعنى الوسطية والاعتدال من خلال تحليل آية قرآنية هامة قام السيد مرتضى الشيرازي بقراءتها قراءة متأنيّة ومن ثم بتفسيرها على عدّة وجوهٍ مما يسهّل علينا فهمَ معنى (الأمة الوسط) التي أرادنا اللهُ أن نكوْنَها بين الأمم.

وعلى كل حال، وقبل البدء والدخول في جوهر بحثنا هذا، نقول إنه من خلال دراستنا المستمرة واطّلاعنا المستمر على العديد من النظم السياسية والهيئات الدينية في شتى أنحاء العالم الإسلامي والعالم الغربي، وجدنا أن هناك ظاهرة مشتركة بين العالمَين. إنها ظاهرة تيار اليمين وتيار اليسار في الغرب الأوروبي، وظاهرة الشرق والغرب في العالمين العربي والإسلامي.

إذنْ هناك تياران متنافران، على الأقل في الميدانين السياسي والآخر الديني، في العالمَين الغربي والعربي الإسلامي. وهذا التباعد والتنافر بين التيارين أو الاتجاهين يمكن أن يكون له عواقب غير حميدة على المجتمع بأكمله لولا ظهور اتجاه ثالث يعمل على الجمع بين الطرفين بحيث يأخذ من كل تيار، أو اتجاه، النقاط الإيجابية التي تتماشى مع طبيعة المجتمع ومع متطلبات العصر التي تفرضها متغيّرات الحياة وحركتها الجدلية المستمرّة.

في أوروبا

مهما حاولنا أن نتكلم عن الغرب ومساوئه وعن ابتعاده عن القِيم والمسائل الروحية وعدم ربطها بالتقدم التقني والحضاري، فإن الغرب يبقى أكثر حرصاً على وحدة تجانس مجتمعه وأكثر حرصاً على صون حريات أفراده الشخصية من أي مجتمع عربي يدّعي التقدّم ومواكبة الحضارة.

وبالمقابل، وبلا أدنى ريب، هناك تيارات سياسية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا، في العديد من الدول الأوروبية الأخرى، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً تنادي بالتشدّد في قيادة المجتمع وبعدم قبول (الآخر) على أراضيها، بل وبرفض دينه ومعتقداته الروحية جملةً وتفصيلا. وربما كان أولئك المتشدّدون في حالة التشدّد القصوى مع كل ما يمتّ إلى الإسلام بأدنى صلة.

فالإسلام بالنسبة لأولئك المتشدّدين في الغرب هو العدوّ الأول والأخير الذي يقضّ مضاجعهم ويهدّد بنيان الحضارة الغربية بأكملها (1). ولذلك فهم يهاجمون حالة الاعتدال التي يدعو إليها الإسلام، وبشكل خاص الاعتدال الذي يطالب بإقامة علاقة توازنية بين الروح والجسد، بين الجانب المثالي والجانب المادي في الحياة. فالحياة السويّة بالنسبة لأولئك هي تغييب الجانب الروحي لصالح الجانب المادة فقط.

والأدهى من ذلك أن بعض الأحزاب الدينية في الغرب تقوم بمساندة الأحزاب السياسية المتطرفة، أو ما يُدعى بأحزاب اليمين، وتعطيها غطاء روحياً لتهميش، بل لسحق، كل ما هو مخالف لهم في الدين والمعتقَد. فالدين عند أولئك المتطرفين له بُعدٌ واحد فقط لا ثاني ولا ثالث له. إنه بُعدُ (الأنا)، أمّا بُعدُ (الآخر) فإلى الجحيم حتى ولو كان ذلك الآخر مسيحياً (علمانيّاً)(2).

في العالم العربي والإسلامي

ولو انتقلنا بشكل سريع من العالم الغربي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الشرقية، إلى العالم العربي المليء بالمتناقضات وبالتيارات المتضاربة سياسياً ودينياً، لرأينا الأمر العجيب الذي لا يخطر على بال على الرغم من أن العالم العربي عموماً تحكمه، ولو في ظاهر الأمر، الأيديولوجيا الإسلامية.

فالأنظمة السياسية مشتّتة بين الشرق والغرب، شرق كانت تحكمه حتى عهدٍ ليس بالبعيد الأفكار الإلحادية، وغرب تحكمه المصالح السلطوية والسياسات الرأسمالية. وما على السياسات والأنظمة في العالم العربي إلا أن تُلحِق ذاتها بإحدى العَجَلتَين.

ومما يزيد الطين بلّة في العالم العربي أن الدين موضوع تحت جناح السلطة السياسية وليس العكس. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن مفتي جامعة ومرجعية الأزهر التي تحكم بفتاويها ما يقارب ثلث العالم الإسلامي يتمّ تعيينه من قِبَل السلطة السياسية في مصر ويتمّ عزله من قِبل نفس السلطة أيضاً إنْ لم يأتمر بأمرها وينصاع لتعليماتها. وبالتالي – وكما يقول المفكّر البريطاني ديفيد ماكدويل -: (الحقيقة هي أن الشريعة الإسلامية يفسّرها مسؤولو الدولة أو رجال الدين المتعاونون مع الدولة، وتصبح أداة طيّعة للدولة القمعيّة تحت ستار الإسلام)(3).

وإنْ دلّ هذا الكلام على شيء فإنما يدل على أن هناك ثغرة كبيرة وهوّة سحيقة في التفكير ضمن جسد المجتمع الواحد، وأن تلك الهوّة أو الفجوة ما هي في حقيقتها إلا نِتاج التطرف في الآراء والأفكار وفي وجهات النظر التي تحجب الفرد والمجتمع عن رؤية الحقيقة في أي مجالٍ كان وفي أي قضية أو مسألة تخصّ الأفراد والجماعات، وربما المجتمع أو حتى الأمة بأكملها.

الفكر الإسلامي والوسطية

إن مصطلح الوسطية هو عينه مصطلح الاعتدال، ولذلك سنكتفي في الغالب باستخدام مصطلح الوسطية كمفهوم مشترك يدلّ على المصطلحَين المتطابقين في المعنى إلى حدٍّ كبير.

وقبل كل شيء، علينا أن ندرك بعين الخبير والبصير أن القرآن الكريم هو كتاب الله عزّ وجلّ الذي يدعو في العديد من آياته الكريمة إلى ضرورة اعتناق مبدأ الوسطية في كافة ميادين الحياة الدينية والدنيوية على حدٍّ سواء.

فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) (4).

نلاحظ هنا أن كلمة (جعلناكم) لم يتمّ استخدامها وتوظيفها قرآنياً بمعنى (خلقناكم)، وإنما لتؤدي عملاً آخر تابعاً لعملية الخلقة. فالجَعل هنا وراءه حكمة يبيّنها النصّ القرآني الواضح، إنها لعب دور الوسطيّة في إدارة أمور الحياة والتعامل مع أفرادها ومفرداتها المتنوعة.

فالأمة الإسلامية الحقّيقية التي يريدها الله سبحانه وتعالى على أرضه هي الأمة القائمة على طلب الوسطية والاعتدال، فالأمة الوسط هي الأمة التي لا تكون متطرّفة ولا تأخذ بأطراف الأشياء بشكل كامل: شدّة أو رخاء، بطشاً أو غفراناً، جسداً أو روحاً....، إنها الأمّة التي تأبى الأخذ بالأطراف وبالتطرّف، بل تنادي وتأخذ بالاعتدال والتوسط، ومن هنا ينبثق سؤال جوهريٌّ هام:

- ماذا ينتج عن الوسطية والاعتدال كأمرٍ إلهيّ؟؟

والجواب بكل بساطة:

ينتج عن ذلك العديد من القِيَم والفضائل، وعلى رأس ذلك الرحمة، تلك الفضيلة الهامة التي تستحق أن نفرد لها بحثاً مستقلاً قريباً بإذن الله تعالى.

فعندما تكون الشريعة بحدّ ذاتها قائمة على الاعتدال، فإنها تفتح بذلك باباً واسعاً للرحمة لكن دون الإخلال بالحقوق والواجبات. فالسارق لا تُقطع يده ليصبح عالة على المجتمع ما لم تبلغ السرقة حدّ النصاب وتبلغ الشروط الأخرى، والظروف التي أحاطت بعملية السرقة، حتى تستوجب تلك العملية حدَّ العقاب. ولكن، وبنفس الوقت، لا يعني ذلك أن يُطلق سراحُ السارق ويُصفح عنه وكأن شيئاً لم يكن. وكذلك الحال بالنسبة لبقية القضايا والمسائل المختلفة كالغش والاحتكار والزنا وشرب الخمر والمخدّرات وخيانة الأوطان وممارسة الفساد وترويج الإفساد،.... إلخ.

الشريعة الإسلامية وسط بين شريعتين

لا ريب في أن كل مسلم يؤمن إيماناً قطعياً بكل الرسائل السماوية وبكل الأنبياء والرسل، وهذا جزء لا يتجزأ من معتقداته، بل من ضرورياته وواجباته العقائدية والشرعية العامة، تماماً كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. ولكن، لو أخذنا على سبيل المثال ما كتبه الدارسون والشارحون للكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، فماذا يمكننا أن نجد فيهما؟

فالعهد القديم، كتاب اليهود، كتاب مليء بالعنف والقسوة. وليس هذا الكلام كلامنا نحن، بل هو الكلام والتعاليم الموجودة فيه وبإمكان كل دارسٍ له أن يتبيّن حقيقة ذلك. وقد جاء في وصف أنبيائه، أنبياء بني إسرائيل، أنهم كانوا أقرب إلى الملوك الجبابرة منهم إلى الأنبياء، فقد كانوا قساة القلوب وغلاظ النفوس، لا يعرفون الرحمة والتسامح ولا المغفرة ولا يوصون بها إلا لأتباعهم من أبناء دينهم فقط، وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا العودة وقراءة كل إصحاح من إصحاحاته ليرى الشيء العجيب فيه عن غياب اللين والرحمة، وهاهو البروفيسور المعروف ألبير بايه، أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يقول بعد دراسته لكتاب التوراة عدة سنوات: (ولمّا كانت الشريعة القديمة – اليهودية – قاسية وناقصة على هذا النحو، فقد اتضح بجلاءٍ أنها لا تقدر على تأمين خلاص اليهود) (5).

وبالطبع، ليس هذا الرأي هو رأي الأستاذ (بايه) فقط، وإنما هو رأي الكثير من المفكرين والباحثين في شؤون علم النفس والأخلاق ومبادئ التعاليم اليهودية والمسيحية.

فعالِم النفس الشهير كارل يونغ يوضح لنا كم هي قاسية الشريعة والتعاليم اليهودية، بل كم هو (يهوه) ذاته شديد القسوة تجاه مخلوقاته، ولذلك نرى العالِم والفيلسوف (يونغ) يبدي التعجّب الشديد في كتابه الذائع الصيت (الإله اليهودي) حيث يقول فيه: (الذي يدعو إلى العجب أن الإنسان كلما اشتدت رغبته في إقامة علاقة حقيقية مع الله، ازداد (يهوه) تعنّتاً وحقداً على مخلوقاته) (6).

ويحق للأستاذ (يونغ) ولغيره أيضاً أن يتعجّبوا من قسوة اليهودية ومن صلابة تعاليمها وممارساتها، وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا أن يقرأ كتاب (العهد القديم) ليرى كيف أن التعاليم تأمر أتباعها في الحروب – بغضّ النظر إنْ كانت تلك التعاليم محرّفة وموضوعة أم لا – أن يقتلوا الأطفال وأن يغتصبوا النساء ويقطعوا الأشجار ويهدموا البيوت ودُور العبادة وأن يعاملوا باقي الناس كالعبيد والحيوانات.

ولو تركنا الآن الحديثَ عن اليهودية وقساوتها جانباً واتجهنا إلى المسيحية، ماذا عسانا أن نرى؟؟

على النقيض من اليهودية، نرى أن الديانة المسيحية ديانة محبّة وغفران وإفراط في التسامح واللين. فالسيد المسيح (ع) ينهى أتباعه عن القتل ولا يجيزه لهم أبداً، ولا يجيز حتى استخدام العنف والترهيب بشتى أشكاله في كافة ميادين الحياة، بما في ذلك في عملية التبشير والدعوة للإنقلاب على المفاهيم الدينية وعلى الأعراف الاجتماعية السابقة الخاطئة.

بل نرى أن هناك بعض التعاليم والأقوال للسيد المسيح (ع) تحضّ على عدم دفع الشر والأذى عن النفس من قَبيلِ قوله (ع): (من لطمك على خدّك الأيمن فأدِر له الآخر أيضاً) (7)، وقوله أيضاً الذي يدعو فيه إلى كامل المُسالمة: (طوبى للودعاء) (8)، أي للذين يكونون مسالمين في كل الأوضاع والأحوال. وهذا الإفراط الشديد في اللين والمسكنة هو ما دفع بالعديد من المفكرين والأدباء المسيحيين في الشرق والغرب إلى الاعتراض على مبدأ الإفراط الزائد في اللين والوداعة والتسامح في الديانة المسيحية التي جاءت كردّ فعل على قسوة وعنف تعاليم العقيدة اليهودية. فالزيادة في التسامح والإفراط في الغفران طريق إلى تمييع المبادئ وانفلات القوانين والضوابط الناظمة للمجتمع.

وربما خير مثال على ردّ فعل بعض الأدباء والمفكرين على ما ذكرناه للتوّ هو قول الأديب والشاعر المسيحي اللبناني (رشيد سليم الخوري) المعروف باسم (الشاعر القروي) الذي قال معترضاً على التسامح الزائد في عقيدته المسيحية الذي يقود برأيه إلى حتميّة الوقوع في فخ الخنوع والذل واضمحلال المبادئ القويمة السويّة. وها هو يقول:

إذا حاولتَ رفع ضَيمٍ فاضربْ-----بسيف محمدٍ واهجرْ يسوعا

- فيا حَملاً وديعاً لم يخلّفْ-----سوانا في الورى حملاً وديعا

ألا أنزلتَ إنجيلاً جديدا-----يعلّمنا إباءً لا خنوعا (9)

فالمطلوب إذنْ، وفق ما يريده المعترضون على الإفراط في اللين والتسامح في التعاليم المسيحية، هو إنجيل (أي كتاب بشارة) جديد يحتل بتعاليمه المكان الوسط بين الإفراط والتفريط، بين القسوة واللين، بين متطلّبات الروح واحتياجات الجسد، بين نصيبك في الدنيا ونصيبك في الآخرة، بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع.

فالإنجيل الجديد، أو الكتاب الجديد المطلوب، الذي يراه الأديب والشاعر (الخوري) وغيره من المفكرين والأدباء المسيحيين مناسباً لمتطلّبات الحياة ولطبيعة الإنسان عموماً هو كتاب الرسول المصطفى(ص) وتعاليمه السماوية الخالدة، ذلك الكتاب الذي لم تَنَل منه يدُ التحريف فبقي بتعاليمه يمثّل كفّتيّ الميزان في التعادل بين مفردات الحياة وفي معالجة جميع القضايا والأمور التي تمسّ صميم الوجود الإنساني في مسيرة الحياة وصيرورتها ومتغيّراتها التي لا تنتهي ما بقيت الحياة ذاتها.

الأمة الوسط في الاعتدال الحياتي

يرى أحد أقطاب الفكر الإسلامي المعاصر، آية الله السيد مرتضى الشيرازي أن القرآن الكريم، الذي هو الكتاب السماوي الأخير، قد حسم الأمر بالفعل في ما يتعلق بمسألة الإفراط والتفريط، إذْ شاء أن تكون الأمة الإسلامية الحقيقية، التي تطيع الله ورسوله (ص)، هي الأمة المقصودة بقوله عزّ وجلّ: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)) (10).

وبناءً على ذلك، فإن المقصود بالأمة الوسط هنا عدّة معانٍ هامة:

1 – هي الأمة التي تعيش حالة التوفيق والوسطية بين الروح والجسد. فالروح نفخة إلهية سامية تحتاج إلى ما يماثلها من قِيَمٍ رفيعةٍ وتعاليمٍ منيعةٍ تجعلها في حالة ارتقاءٍ دائمٍ طلباً للعودة بسلام وأمان إلى جوار ربّها، في جنان خلدٍ أُعدّت للمتّقين.

وبالمقابل، فإن الجسد، ذلك الهيكل المصنوع من المادة، له متطلّباته الضرورية أيضاً. ولكن ذلك لا يعني أن يطلق الإنسان العنانَ لجسده ليحقق كل ما يريد ويشتهي وفي أي وقت يشاء.

نعم، على الإنسان أن يدرك أنه ليس من المطلوب منه –بحكم وجود الروح فيه– أن يتحوّل إلى ملاك على الأرض على حساب جسده وحاجاته. ولكن، بالمقابل أيضاً، عليه أن يدرك بنفس الوقت أن واجبه الأخلاقي يحتّم عليه أن لا يتحوّل إلى ما يشبه الحيوان من خلال تلبية كل ما تمليه عليه رغباته الجسدية والنفسية من شهوة المال والسلطة والجاه والجنس.

وليس هذا فحسب، فالتوازن هو الحل الأمثل المطلوب للتعايش بين الفرد والمجتمع حتى لا تتضارب مصلحة الطرفين الروحية والجسدية. فللفرد هويته الخاصة وللمجتمع أيضاً هويته العامة، وبالتالي فإن التناغم بين هاتين الهويتين هو الذي يخلق جوّاً من الانسجام والتآلف في مسألة معرفة الحقوق والواجبات واحترام الفرد للكلّ والكلّ للفرد روحاً وجسداً.

الأمة الوسط بين الرسالة السماوية والمهمة الإنسانية

وربّ قائل يقول متسائلاً:

أليس من الممكن أيضاً أن يكون معنى الآية السابقة (البقرة/ 143) هو عبارة عن معنى عظيم يشير إلى الأمة الوسط التي يلعب علماؤها دور الوسيط بين رسول الرحمة والإنسانية من جهة وبين الجنس البشري عموماً بمختلف أطيافه وأعراقه وبمختلف ترتيبه الزمني منذ ولادة الرسالة الإسلامية وحتى يرث اللهُ الأرض وما عليها من جهة أخرى؟!!

بدون أدنى شك، الآية المذكورة (آية الأمة الوسط) لها دلالة أكيدة على هذه المسألة التي تؤكد بالفعل على أن المسلم الحقيقي، الملتزم فكراً وقولاً وعملاً بمنهج الرسالة السماوية سيكون في موقع المسؤولية لنقل جوهر الرسالة التي جاء بها خاتم الرسل والأنبياء (ع) من حيّز المنظومة الفكرية إلى حيّز الواقع والممارسة الفعلية، ليس على مستوى المجتمع الإسلامي فحسب، بل أيضاً على مستوى أي مجتمع آخر لا يدين بالعقيدة الإسلامية الغرّاء. فالشمس تغمر بأشعتها الناسَ جميعاً من أبيض وأسود، من مؤمن وكافر، من غني وفقير، من صغير وكبير.

ولذلك، كوننا وسطاء بين رسول الإنسانية (ص) وبين عموم الناس، علينا أن نكون المرآة الصافية التي تعكس للآخرين صورة الإسلام الحقيقي بأبهى صوره، وبشكل خاص صورة الاعتدال وقبول (الآخر) والتراحم وصورة الحضارة الإسلامية الإنسانية التي تنادي بالإخاء الآدمي.

والذي يقرأ سيرة الرسول الأكرم (ص) وسيرة أهل بيت النبوّة ومهبط الرسالة (ع)، يرى أن أهمّ ما جاء به ربُّ العزّة في وصف رسوله الأكرم (ص) هو قوله عزّ وجلّ: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك)) (12).

فمن نعم الله العظيمة على الإنسان عموماً أن يكون ليّناً ورحيماً مع الآخرين. ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد افتتح كل سورة من سور كتابه الأعظم، القرآن الكريم، ما عدا سورة البراءة، بقوله (بسم الله الرحمن الرحيم) إذْ أنه سبحانه لم يخترْ من أسمائه الحسنى سوى (الرحمن) و(الرحيم) ليدلّ على مبلغ رحمته من جهة، وليدلّ على أن البشرية جمعاء يجب أن تقتدي برسولها المصطفى (ص) الذي لم يُبعث إلا رحمة للعالمين إلى أبد الآبدين.

النخبة النخبوية في الأمّة الوسط

يرى السيد مرتضى الشيرازي أن هناك تفسيراً إضافياً لمعنى (الأمة الوسط)، وهذا التفسير يقوم على أساس أن هناك نخبة معتبَرة هي التي تمثّل خير تمثيل لمعنى الشهادة على الناس (13)، ولكن هذه النخبة تحديداً ستكون –بدورها– هي المسؤولة أمام الرسول المصطفى (ص) عن أداء دورها الفعّال في الحياة، إذْ أن الرسول الكريم (ص) سيكون غداً هو الشهيد عليها وعلى حُسن أدائها وعلى فعاليتها في الحياة.

ومن جميل ما استشهد به السيد الشيرازي على مقولة نخبة النخبة في الأمة الوسط هو قول أبي بصير عن الإمام أبي جعفر (ع): (نحن نمط الحجاز)، فقال أبو بصير: وما نمط الحجاز؟ فقال (ع): (أوسط الأنماط)، إن الله يقول (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)، ثم قال (ع): (إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصّر) (14). وهذه هي عين الحقيقة في أن المقصود بالدرجة الأولى من (الأمة الوسط) هم أهل بيت الرسول المصطفى (ص)، لأن الذي يريد أن يكون شهيداً على الناس يجب أن يكون متخلّقاً بأخلاق ربّ الناس. (15).

ومن خلال ذلك كلّه ندرك أن الأصل في الإسلام هو الرفق والاعتدال وإتّباع نهج الوسطية وعدم التشدّد في أمور الدين، في حين أن الطغاة والبغاة والجبابرة والمتطرفين، عبر التاريخ، يقفون في الاتجاه المضاد لهذا الأصل الإسلامي الأصيل الذي جاءت به آخر رسالة سماوية خالدة.

خلاصة مفهوم الأمة الوسط

جاء مفهوم الوسطية، أو الاعتدال، عنواناً وأصلاً من أصول تعامل الإنسان مع ذاته وتفاعله مع محيطه ومجتمعه الأشمل والأوسع. وإذا كانت الديانات والعقائد السابقة قد أتت بالقسوة والشدّة حيناً، وبالتسامح والتراخي حيناً آخر، فإن مردَّ ذلك إلى طبيعة المجتمع والظروف المحيطة به وإلى طبيعة الوقائع التي كانت تفرضها الظروف الزمنية والعلاقات الاجتماعية بين الأقوام والأمم، في حين أن الرسالة السماوية الأخيرة التي جاءت لتستوعب كل المبادئ والقِيَم التي كانت عليها الديانات السابقة، ثم لتضفي عليها شيئاً جديداً عليها من المبادئ والأخلاقيات الثابتة التي تتناسب مع كل الأزمنة وتتوافق مع كل الأقوام والشعوب والأمم، لا سيما مبدأ الاعتدال والتوسّط في شتى القضايا الدينية والدنيوية، حيث جاءت تلك الرسالة للتأكيد على واحدٍ من أهمّ المبادئ النبويّة وهو أن (خير الأمور الوسط) بدءاً من ممارسة الفرد لهذا المبدأ مع ذاته وانتهاءً مع ممارسته مع الدوائر الأوسع التي تشمل الأسرة والعشيرة أو القبيلة والبلد وانتهاءً بالمجتمع كوحدةٍ كليّة متكاملة.

فالأمة الوسط لا تنتج إلا عن الفرد الوسط، وبالتالي، فإن ذلك الفرد وتلك الأمة التي تنشأ على مبدأ الاعتدال يمكنها لاحقاً أن تكون الأمة الشاهدة على بقية الأمم التي يمكن تسلك طرق التطرف والمغالاة.

فالإرادة الإلهية تأمرنا بالاعتدال وتخاطب كل فرد بالقول: ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)) (16).

ففي هذه الآية الكريمة خطاب واضح، بل أمر جَليٌّ، لتقدير نعمة الله، لأننا إنْ لم نقدّر نعمة الله –عموم نِعم الله علينا– عن طريق التصرّف بها بالطريقة المعتدلة السليمة ولم نتصرف فيها بقدْرٍ، بل أمسكناها وبخلنا بها أو بذّرناها يميناً وشمالاً، عندئذ سنكون في الغد القريب من النادمين والخاسرين يوم لا تنفع ندامة ولا ملامة.

كلمة أخيرة

عندما نقول إن الإنسان يحتاج إلى ممارسة الاعتدال مع نفسه ومع الآخرين، فإن ذلك يعني أنه عليه أن يحقق في ذلك الاعتدال أو الوسطية حالةً من الانضباط والتوازن يتمكّن ذلك الإنسان من خلالها تقييم الأمور تقييماً متطوراً في ارتقاء سلّم الصواب.

فالاعتدال، بالنسبة لأولي العقول، نعمة يتحلّى بها الإنسان الذي يتّسم بالحكمة والنضج والعقلانية. نعم، لقد خُلِق الإنسان متوازناً، ولكنه هو الذي يخلّ بذلك التوازن من خلال تفاعله غير المتوازن مع ذاته ومع محيطه.

ومما لا يقلّ أهمية في سياق هذا الموضوع هو أن الإنسان عندما يتطرّف أو يغالي في أمرٍ ما، بل عندما يشدّد على نفسه في ذلك الأمر، فإن أموره تتعقّد وتتعسّر ولا تتمّ إلا في حالةٍ ناقصة وبعيدةٍ عن عين الرضا، وربما تكرار هذا الأمر من التعقيد والتشدّد قد يملأ صاحبَه بالعديد من الاضطرابات والعقد النفسية والعصبية، بينما في حالة الرفق والتأني وعدم الميل إلى التشدّد تمنح صاحبها حالةً ملحوظة من الهدوء والصفاء.

فالاعتدال يقود المرء ليكون قوياً في أخلاقه ومعرفته. بل، كما يجب أن يكون الجسم قوياً، يجب أيضاً أن يكون العقل راجحاً ورزيناً. ولذلك قد قيل عن العلاقة بين الجسم والعقل:

لا خير في طول الجسوم وعرضها-----إنْ لم تزن حسنَ الجسوم عقولُ.

وقول المتنبي أيضاً:

وما الحسن في وجه الفتى شرفاً-----إذا لم يكن في فعلهِ والخلائقِ.

ويبقى كلام الله عزّ وجلّ فوق كل بيان، ولسانُ حال القرآن فوق كل لسان. فالله سبحانه يقول عن مسألة التوازن والاعتدال العام مخاطباً رسوله الكريم الأكرم (ص)، بل كافة الجنس الآدمي: ((وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا)) (17). إنه كلام بليغ لا يحتاج إلى الكثير من الشرح والتوضيح، ولكن يشاء المتطرفون على الدوام، من كل الملل والنِّحل والأطياف، أن يستهدفوا الوسطية والاعتدال بهدف تدمير بنيتها الأساسية بكل عنفِ وبلا رحمةِ أو هوادة سواء كانت الوسطية في العقيدة أم في غيرها من تيارات الفكر والممارسات الحياتية المتنوعة، سواء كان الاعتدال في السياسة والاقتصاد والاجتماع، أم في الفكر والثقافة والأدب. وهذا ما أشار إليه سماحة السيد مرتضى الشيرازي بوضوح تام في كتابه (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي) والذي سنعود لاحقاً وقريباً لنناقش ونحلل بعض القضايا الأخرى الهامة التي وردت فيه، وبشكل خاص مسألة الآليات والممهدات للوصول إلى الوسطية والاعتدال (18) في ممارساتنا اليومية على مستوى الفرد والجماعة والأمة عموماً.

وبهذا نرجو أن نكون قد وُفّقنا في عرض مفاهيم آية (الأمة الوسط) بمعانيها المتنوعة والمتكاملة وفق ما قام بعرضها وشرحِها سماحة السيد الشيرازي، الذي يحمل على الدوام لواء الاعتدال والوسطية بيدِ، ولواء السلم والّلاعنف بيده الأخرى، وليس له من غاية سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى ونشر الفكر الإسلامي الإنساني الأصيل.

..................................
المراجع المستخدمة في البحث
1 – صاموئيل هنتنجتون صدام الحضارات ترجمة طلعت الشايب دار سطور – القاهرة ط3 – 1999. يرجى مراجعة وملاحظة العديد من الصفحات في كافة الفصول للوقوف على هذه النقطة الجوهرية الهامة.
2 – كارين آرمسترونغ النزعات الأصولية ترجمة محمد الجورا دار الكلمة – دمشق 2005 ص 382
3 – ديفيد ماكدويل أوروبا والعرب: تنافُر أم تجاذُب؟ ترجمة عبد النبي حسن إصدار المعهد الملكي للعلاقات الدولية – لندن ص 66
4 - سورة البقرة | 143
5 – ألبير بايه أخلاق الإنجيل ترجمة د. عادل العوا دار الحصاد - دمشق 1997 ص 25
6 – كارل يونغ الإله اليهودي ترجمة نهاد خياطة دار الحوار – اللاذقية 1986 ص 97
7 – العهد الجديد (الإنجيل) - إنجيل متى 5 | 39
8 – العهد الجديد (الإنجيل) – إنجيل متى 5 | 5
9 - راجي أنور هيفا الإمام علي (ع) في الفكر المسيحي المعاصر دار العلوم - بيروت 2005 ص 272
10 - سورة البقرة | 143
11 – السيد مرتضى الشيرازي الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي مؤسسة التقى الثقافية - النجف الأشرف 2018 ص 13
12 – سورة آل عمران | 159
13 – السيد مرتضى الشيرازي الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي مصدر سابق ص 13
(14)
14 – راجع تفسير العياشي ج1 ص 63
15 – راجي أنور هيفا الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر مصدر سابق ص 414
16 – سورة الأنفال | 37
17 – سورة القصص | 77
18 – السيد مرتضى الشيرازي الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي مصدر سابق ص 46

اضف تعليق