q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الانتماء الديني كأساس للهوية

اللامبالاة وباء العصر (15)

بناء الانتماء بالتعايش والتسامح والتآلف والسلام بين أفراد المجتمع، هذه المسميات تزيد من لُحْمة المجتمع، وحب الانتماء وصناعة الهوية الصالحة للمجتمع، فحين يكون المجتمع عنده قيم صحيحة وسليمة قائمة على التقارب وليس على التباعد والتباغض، سوف يؤدي إلى بناء انتماء حقيقي، لأن الانتماء الديني يحقق انتماء القيم...

(وإن معي لبصيرتي ما لبست علي نفسي ولا لبس علي)

الامام علي (ع)

في مقالنا السابق تطرقنا الى كيفية تأثير الاغتراب الديني على اختلال الهوية، وعن العناصر الأساسية التي تؤدي إلى بناء هوية مستقرة من خلال تأسيس الانتماء الديني، منها:

النقطة الأولى: إن الدين يحقق العزة والكرامة والاحترام، فإن الإنسان عندما ينتمي إلى الدين يشعر بالكرامة والاحترام وبالانتماء، والنتيجة بناء هوية مستقرة وصحيحة. اما الذي لا ينتمي للدين او يكون انتمائه ضعيفا فانه قد يتضاءل شعوره بالاحترام والكرامة لأنه يبتعد عن النظام الكوني الذي خلقه الله سبحانه وتعالى.

النقطة الثانية: أن الدين يزيل القلق والشك ويحمي الإنسان من السقوط، ويحقق له الأمن النفسي، وتطرقنا لكيفية تحقيق الاستقرار النفسي من خلال نبذ الشك المولّد للقلق واليأس، والسوداوية.

يقول الله سبحانه وتعالى في الآية القرآنية: (الذين آمنوا ولم يُلبِسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام 82. هؤلاء هم المؤمنون الذين لم يلوثوا إيمانهم بالظلم، لأن بعضهم يتصوّر أنه إذا كان مؤمنا وظلم الناس فإنه يبقى على إيمانه، وهذا خطأ كبير، لأن الظلم يتناقض مع الإيمان، فلا يمكن أن يكون هناك إنسان مؤمن وهو ظالم، هذه حقيقة ثابتة ولا يمكن تغييرها. وعن الامام علي (عليه السلام): (وإن معي لبصيرتي ما لبست علي نفسي ولا لبس علي).

المؤمنون يحقِّقون الأمن النفسي

المؤمنون الذين لا يظلمون، أولئك يحققون الأمن النفسي والمعنوي، فإنهم يسيرون في طريق الهداية الصحيح، لأن الإنسان عندما يكون مؤمنا فإنه يضع كل الشهوات والطمع والحرص على الدنيا والشغف بالسلطة وراء ظهره، وهكذا فهو يحقق الإشباع الذاتي والأمن النفسي ويكون مطمئنا، وبالتالي فهو يسير في الطريق الصحيح.

يسير في الطريق الصحيح، لأنه مطمئن ومتيقِّن بدينه وبحياته، ومدركا لنفسه ومنتميا إلى الدين، أما الظالمون فهم يعيشون حالة من القلق والشك دائما، لأنهم يفتقدون داخل أنفسهم للاطمئنان والأمن النفسي الذي يجعله يسير في الطريق الصحيح، وإنما هو يخطئ باستمرار ويرتكب الذنوب والمعاصي وينحرف عن طريق الاستقامة.

تقول الآية القرآنية: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) الرعد 28. فبالانتماء للدين يحصل على الأمان، ولو أننا نظرنا إلى هذه الآية بطريقة عكسية، فالذي لا يؤمن بالله يكون قلبه بعيدا عن الله، ويعيش حالة من القلق والشك منفكا عن نفسه ومنفصلا عن قلبه.

منظومة قيمية مترابطة

الدين منظومة قيَميّة كونية مترابطة ومتصلة ولايمكن التفكيك بينها، فقد يكون فرد مؤمن ببعض هذه القيم كالصدق مثلا، فالإنسان الصادق في كلامه، لكن صدقه قد لا يكفي لانه سوف يحدث تعارض مع قيم أخرى، وعندما يكون هناك تعارض قد ينحدر ويسقط، مثلا قد يشرب الخمر، لكن تعاطي الخمر يؤدي به إلى الانحدار، حيث لا يستطيع أن يحافظ على صدقه.

منظومة القيم المتكاملة

الإيمان منظومة قيمية متكاملة، لذلك يشعر الإنسان المؤمن دائما باليقين والاطمئنان الداخلي النفسي، على العكس من الشخص الذي تكون قيمه متجزئة، إذ لا يمكن الأخذ ببعض القيم ويترك القيم الأخرى، لأن القيم بمجموعها تشكل منظومة ومتكاملة في عملية السير في طريق الهداية. وعن الإمام علي (عليه السلام): (تمام الإخلاص تجنب المعاصي).

منظومة القيم تشبه المركَّب الكيمياوي، لا يمكن أن تجعل فيه مركبات وعناصر متناقضة، ولابد أن تكون منسجمة ومترابطة ومتكاملة فيما بينها، لكي تنتج الاطمئنان النفسي، نعم قد يحصل الإنسان بعض السلام الداخلي النسبي من القيم التي يؤمن بها، ولكن بالنتيجة قد تختل لديه هذه القيم المتناقضة في مرحلة معينة، ويختل هذا التركيب القيمي، وبالنتيجة فحتى هذه القيم الموجودة لديه يمكن أن تزول.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) البقرة/85

وعن الامام علي (عليه السلام): (اعلم أن أول الدين التسليم، وآخره الإخلاص)، فلو أنك تريد أن تكون منتميا للدين لابد أن تجرِّد نفسك من أنانيتك، أي كل ما تحبه نفسك من رغبات، وتسلّم أمرك لله سبحانه وتعالى، ويتحقق بالإيمان واليقين، والتجرد من الذات، وهذا التسليم هو الذي يحقق للإنسان الإشباع النفسي والروحي، ومن ثم تحقيق الانتماء.

خطورة المحورية الذاتية

الذي لا يسلّم نفسه لله سبحانه وتعالى، يُصاب بالاغتراب ويصبح عنده انفصام، وقد تطرقنا لهذا الموضوع في مقال سابق، فهؤلاء الذين يعيشون حالة من النرجسية والمحورية الذاتية، فإنهم يُصابون بالانفصام، والاغتراب، وبالنتيجة الاكتئاب، لذلك حتى بعض علماء النفس ينصحون الإنسان بتسليم نفسه لله سبحانه وتعالى كي يحصل على الحلّ والعلاج.

والإخلاص يعني أن لا يخلط الإنسان شيئا آخر مع عمله لله تعالى، فيكون عمله خالصا له سبحانه، وإذا اصبح عمل الإنسان مختلطا، فهذا يتنافى مع عملية الانتماء، فتحدث له حالة من الاغتراب والانفصام.

وعنه (صلى الله عليه وآله): (أخلصوا أعمالكم لله، فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له)، وعن الإمام علي (عليه السلام): (ضاع من كان له مقصد غير الله).

هناك بعض الناس لا يخلصون في عملهم، فهو ينظر إلى فائدته من هذا العمل أو ذاك، وماذا يستفيد منه، لذلك فالإنسان الذي يتساءل (وأنا ماذا أستفيد)، فإنه في الحقيقة يضرّ بعمله، وبنفسه، لأنه لا يُخلص، فالإخلاص والولاء للعمل يجعل منه ناجحا، لأن العمل الناجح يحتاج إلى الإخلاص، فلا يخلط شيئا مع الاخلاص، بحيث يؤدي إلى الاختلال الذاتي في نفسه، بين ما هو مطلوب منه كإنسان مؤمن، وبين حاجاته ورغباته وشهواته الذاتية. وعن الامام علي (عليه السلام): (العمل كله هباء إلا ما أخلص فيه)

الاخلاص نقاء

الإخلاص هو الأساس في هذه القضية، لأن الإخلاص هو النقاء، بمعنى أن يكون الإنسان نقيا في قلبه، ونقيا في نفسه، ولهذا سيكون عنده حالة من الاطمئنان والأمن النفسي، وعلى العكس من ذلك، حين تكون نفس الانسان مختلطة بأشياء كثيرة، سوف يكون لديه نوع من الغربة وعدم الصفاء والوضوح في حياته، مثل الماء المختلط مع الطين يكون غير واضح، وغير جيد ولا طعم له وغير لذيذ.

لذلك معنى الإخلاص الماء الصافي النقي الذي حين يشربه الإنسان يلتذّ به، لهذا عندما يعمل الإنسان المخلص وعندما يأكل يلتذّ لذة حقيقية بعمله، وبأكله، وحياته وسيرته وسلوكه، فالإخلاص يعدّ من قيم التقدم في حياة الإنسان، وإذا أراد الإنسان أن يحرز تقدما كبيرا وناجحا في حياته، عليه أن يجعل الإخلاص أحد أهم الأعمدة الأساسية في مسيرته وأعماله وتفكيره ونيّاتهِ.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أما علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه، وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكف شره).

الانتماء الديني تحصين

في حديث للإمام علي (عليه السلام) يقول: (الدين يعصم)، أي يجعل الإنسان محصّنا ضد الأخطاء والذنوب والمعاصي، ويجعله متماسكا وقويا، أما الذي يفتقد الانتماء الديني، أو أن انتماءه الديني شكلي، ستجد شخصيته ضعيفة وهشة دائما، وقابلة للاختراق، لذلك الدين يعصم الإنسان من خلال خلق هوية مستقرة.

اليقين ضد الخوف

سئل الامام الصادق (عليه السلام) عن: (.. حد التوكل؟ قال: اليقين، وسئل: فما حد اليقين؟ قال: ألا تخاف مع الله شيئا). فالإنسان الذي يسلّم أمره لله سبحانه وتعالى، سوف يصل بالنتيجة إلى مرحلة من اليقين بحيث لا يخاف شيئا في الحياة، فالقلق الوجودي عند البعض يجعل الإنسان خائفا متردّدا شاكّا، ولا ينام الليل، وتغزوه الأفكار السوداوية والفراغ والخواء، ويتساءل مع نفسه كيف سيعيش وماذا سيفعل، وماذا سيحصل غدا، فيعيش في حالة خوف بسبب عدم وجود اليقين لديه لأنه لم يسلم نفسه لله سبحانه وتعالى.

ويبقى هذا الإنسان يعيش حالة القلق من المستقبل، لذلك أفضل حل هو أن يسلم نفسه لله سبحانه وتعالى، فهو خالقنا.

(أن لا تخاف مع الله شيئا)، فدع أمرك لله ولا تخف، هو الذي خلقك وهو الذي سيكفيك فكن مؤمنا متيقّنا، فاليقين هو نتيجة والتوّكل هو طريق للوصول إلى اليقين، واليقين يصنع قوة هائلة في نفس المؤمن.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه). فالإنسان المنتمي للدين يكون قويا، ولا نعني هنا القوة الجسدية، بل هي قوة إرادة وعزم وعمل واجتهاد تنبع من قوة النفس التي تنبع من اليقين والاطمئنان الذاتي، لذلك فإن التوكل على الله سبحانه وتعالى والتسليم له هي أمور تؤدي بالإنسان إلى القوة النفسية والانتماء القوي للدين، وبالنتيجة وجود هوية مستقرة تجعل الإنسان يثق بنفسه.

عندما تكون عند الإنسان ثقة بنفسه، وتقدير ذاتي لنفسه، فهذا سوف يجعله قادرا على مواجهة كل المشكلات والتحديات.

الدين يحقق التعاقد الاجتماعي

النقطة الثالثة: الدين يبني العلاقات الاجتماعية السليمة القائمة على التعاقد الصحيح، العلاقات الاجتماعية هي نوع من التعاقد الذي يسمى حسب المصطلح بالعقد الاجتماعي، لكنه موجود بالمفاهيم الاجتماعية والدينية وفي الأحاديث الشريفة.

كيف ينتمي الإنسان إلى المجتمع، هل تكون دوافع انتمائه بسبب المصالح الخاصة، أم ينتمي بسبب وجود قيم حقيقية تجعله مترابطا بشكل دائم مع المجتمع، وليس ترابطا آنيا في حال تعرضه لأي هزة أو مشكلة فينفك هذا الترابط.

كل المجتمعات بشكل عام تحتاج إلى قيم مترابطة تزيد من تماسك المجتمع وتجعله متلاصقا ومترابطا فيما بينه، ترابطا حقيقيا، مثال ذلك المجتمعات القائمة على القانون، وهو أمر جيد، لكن يتم القبول بالقانون بالقسر والإجبار، بحيث عندما يغيب القانون يصبح المجتمع مضطربا، لكن القانون في حقيقته الطوعية ثقافة قائمة على مجموعة قواعد وقيم أخلاقية ودينية، يسير عليها الناس من الترابط والتفاهم والتعاقد فيما بينهم.

القيم الدينية والترابط المجتمعي

بغض النظر عن كون المجتمع غربي أو عربي أو إسلامي، فإن وجود قيم دينية أمر مطلوب لأن القيم الدينية هي التي تجعل المجتمع مترابطا، وعندما تصبح القيم مادية محضة، بمعنى يتم تقييم الإنسان على ما يملكه من مال، وملبَسه وحذاءه وقميصه، وبيته وسيارته، ورصيده في البنك، فإن هذا التقييم يحوّل المجتمع إلى الطبقية المتوحشة.

فتكون فيه فئات غنية جدا، وفئات فقيرة جدا، وتكون الحسابات الاعتبارية بين الناس على أساس مادي وهذا أمر خطير كارثي في أي مجتمع كان، لذلك نلاحظ أن مجتمعاتنا فيها نوع من الركاكة والهشاشة، لأننا تخلينا عن قيمنا الدينية، وقيمنا الأساسية وذهبنا وراء القيم المادية، فأصبح الإنسان يقيّم نفسه بنوع السيارة التي يركبها.

هذا النوع من الانتماء هو انتماء وهمي، سواء كان للفرد أو للمجتمع، بينما الدين هو مجموعة من القيم الأخلاقية والإنسانية التي تحقق الترابط الحقيقي فيما بين الناس، لكن بشرط الوعي بهذه القيم والإخلاص لها.

مجتمع الأمانة

يقول الإمام علي (عليه السلام): (أصل الدين أداء الأمانة والوفاء بالعهود)، وهذا هو الذي يبني الثقة في المجتمع، ويبني الثقة في العلاقات الاجتماعية، فالمجتمع كله قائم على الثقة، وإذا فقدها يصبح مجتمع وحوش، لأن المجتمع الإنساني هو مجتمع الأمانة وليس الخيانة، ويكون فيه ثبات للوفاء بالعهود ولا يلجأ الإنسان فيه إلى حل العقد بينه وبين المجتمع بمجرد حصوله على فرصة فيأكل حقوق الناس.

دين الانسانية

النقطة الرابعة: الدين يحقق الإنسانية، والإنسانية حسب المصطلح هي المروءة، وهي مشتقة من المرء وهو الإنسان، لذلك يأتي ذكر المروءة في الأحاديث الشريفة دائما.

الإمام الكاظم (عليه السلام)، يقول: (لادين لمن لا مروءة له)، بمعنى أن الإنسانية هي أساس الدين، والإنسان إذا لم يكن عنده إنسانية فليس عنده دين، فالدين هو الإنسانية، وهذا المعنى موجود في أحاديث كثيرة ربما نتطرق لها مستقبلا.

التقدم والنمو المتوازن

النقطة الخامسة: الدين يحقق التقدم والنمو المتوازن عبر العقل، لأن الدين يوجه الإنسان دائما لاستخدام العقل في التحكم بالغرائز، فإذا فقد الإنسان عقله سوف يسير بغرائزه بلا تحكم، علما أن الغرائز شيء جيد في الإنسان لأنها تحميه من بعض المخاطر، مثل غريزة الخوف أو الجوع وغرائز أخرى توفر له الحماية الجسدية.

هذه الغرائز إذا لم يتحكم العقل بها ويسيّرها بطريقة طبيعية، فإنها سوف تصبح غرائز متوحشة، وتدمر الإنسان لأنها ستكون بلا عقال، ولا انضباط، فالعقل يعْقِل الغرائز فتصبح منضبطة ومعتدلة في ممارسات هذه الغرائز. فعن الإمام علي (عليه السلام): (الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك).

الدين هو الذي يوجه الإنسان، وعندما يكون منتميا دينيا سوف يستخدم إيمانه وعقله للتحكم بهذه الغرائز، لاسيما أن الإنسان يعيش اليوم في مجتمع مادي، يقوم بإرهاق غريزة الإنسان، لأنه قائم على الاستغلال المتوحش والربح المريض، فيحرّض الإنسان غريزيا بشكل دائم، كما نلاحظ في الأفلام والمسلسلات التي تنتجها بعض الشركات.

المادية وتهييج الغريزة الجنسية

هذه الشركات هدفها أن تربح، فتعتمد على تهييج غريزة الجنس عند الإنسان، أو غريزة تملّك المال بأية طريقة كانت حتى لو تمت عن طريق السرقة، وهذا ما نشاهده في الأفلام السينمائية التي تعتمد على الإثارة وتمدح السارق واللص، وتحرّض على كسب المال بأية طريقة كانت، بالقمار، بالاحتيال أو الخديعة، وبالنتيجة تُظهر بطل الفلم ناجحا ومنتصرا وقويا بسبب احتياله، أو بسبب فوزه بالقمار، أو القتل او غير ذلك.

هذه الغرائز عندما تكون منفلتة تجعل المجتمعات متوحشة، لذلك فإن الدين هو الذي يضبطها عن طريق العقل.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنما يدرك الخير كله بالعقل، ولا دين لمن لا عقل له)، لذلك حين لا يوجد العقل ينطلق الشر وتنفلت الغرائز لعدم وجود من يتحكّم بالأهواء والشهوات، لكن هناك من يسمي هذه الحالة بالحرية الشخصية وهي ليست كذلك، الإنسان حر بعقله ورأيه وشعوره وليس بشهواته.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (استرشدوا العقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا).

وعن الإمام علي (عليه السلام): (كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيك من رشدك).

العنصر الأساس الذي يحقق الانتماء الديني

الانتماء للدين كأساس يحتاج إلى طريق، والطريق الحقيقي للارتباط بالدين هو خط أهل البيت (عليهم السلام)، الدين واسع جدا وفيه شخصيات متعددة وأشكال متعددة، لكن الدين الحق هو الذي وجهنا نحو أهل البيت (عليهم السلام)، وقد جاء في الآية القرآنية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) المائدة 3. وأكمل الدين بولاية أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، وإذا أردنا أن نستمر في هذه المسيرة لنصل للانتماء الحقيقي لابد أن ننتمي لأهل البيت (عليهم السلام).

يقول الإمام الباقر (عليه السلام): (حبنا أهل البيت نظام الدين) والمقصود بالحب هنا هو الطاعة لأهل البيت والسير على هداهم وكلامهم وتوجيهاتهم.

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (إني تارك فيكم الثقلين، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).

هناك أناس كثيرون ابتعدوا عن طريق الإسلام، وإن ظلوا منتمين للإسلام شكليا، لكنهم ابتعدوا عنه في جوهره، لأن هناك من أعطاهم رؤية ثانية عن الإسلام، مثل أن دين الإسلام دين العنف والمصلحة والانتهازية ودين حكم الظالم والقبول بالظلم، هذه الأمور جعلت بعض الناس يبتعدون عن الدين، لكن الانتماء لأهل البيت (عليهم السلام)، يجعل الإنسان منتميا انتماءً حقيقيا ولا ينزلق في طريق الانحراف، بل يكون في الطريق المستقيم دائما.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق)، فهذا هو طريق النجاة، النجاة النفسي، والروحي والجسدي، مشكلة الإنسان اليوم مشكلة نفسية تتعلق بكيفية تأقلمه مع محيطه، والانسجام ينشأ من خلال الارتباط بأهل البيت (عليهم السلام).

كيف تُبنى الثقة الاجتماعية؟

لايشعر كثير من الناس بالانتماء لعدم وجود ثقة بالآخرين، فكيف تتم بناء الثقة؟

يتم ذلك من خلال الأخوة الإيمانية، المجتمع يحتاج إلى لحمة اجتماعية قوية تربط ما بين الناس، ولابد أن يشعروا بأنفسهم بأنهم افرادا حقيقيين وليسوا غرباء في المجتمع، وليس مجبورين على العيش في هذا المجتمع. بناء الثقة بشكل عميق يتم من خلال ترسيخ الورع والتقوى في النفوس حيث تحترم الحقوق. وكذلك الانتماء الاجتماعي الصادق من خلال تنمية العلاقات الاجتماعية بعمق عبر اخلاقيات العطاء والتضحية والإحسان والايثار، وهذه القيم الموجهة للآخر تعد القوة الأكبر لترسيخ الثقة وصناعة الانتماء وبناء الهوية.

وعنه (صلى الله عليه وآله): (يا أيها الناس اتخذوا التقوى تجارة يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة، ثم قرأ (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).

الانتماء بالاخوة

هناك بعض الناس لا يشعر بالراحة في المجتمع الذي يعيش فيه، ولا يتأقلم مع جاره ولا مع أقاربه، ولا مع منطقته ولا مدينته ولا مع الناس، فيشعر بالاغتراب الكامل، لأنه ليس لديه علاقة روحية بينه وبين مجتمعه، فيبدّل هذا المجتمع إلى مجتمع ثانٍ، فالذي يربط بين أبناء المجتمع هو الأخوّة الإيمانية. وعن الامام علي (عليه السلام): (إنما سمي الرفيق رفيقا لأنه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق الشفيق).

جاء في الآية القرآنية: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون) الحجرات 10. فهذا الارتباط الأخوي فيما بين الناس هو الذي يؤسس إلى بناء ثقة اجتماعية وعلاقة اجتماعية حقيقية. وعن الامام علي (عليه السلام): (المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه).

الانتماء بالتعايش

كما يمكن التأكيد على بناء الانتماء بالتعايش والتسامح والتآلف والصلح والسلام فيما بين أفراد المجتمع، هذه المسميات والقيم تزيد من لُحْمة المجتمع، وحب الانتماء وصناعة الهوية الصالحة للمجتمع، فحين يكون المجتمع عنده قيم صحيحة وسليمة قائمة على التقارب وليس على التباعد والتباغض، فإن هذا الأمر سوف يؤدي إلى بناء انتماء حقيقي، لأن الانتماء الديني يحقق انتماء القيم والأخير يحقق الانتماء الاجتماعي السليم. قال تعالى في كتابه الحكيم: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).

قد يوجد اليوم تباغض وكراهية في المجتمع، لأن هناك هيمنة لبعض الأفكار السيئة، مثلا فكرة العنف والتوحش والتغلّب والقوة واستخدام السلاح، والحسد والنميمة، كل هذه الأمور تؤدي إلى تفكك المجتمع ولا تؤدي إلى بناء المجتمع الآمن المستقر.

الانتماء بالمحبة

وجاء عن رسول الله (ص): (خياركم أحاسنكم أخلاقا، الذين يألفون ويؤلفون)، أي وجود حالة تآلف متبادَلة، حيث يألف الإنسان الناس، وهم يألفونه أيضا، وهذه تحتاج إلى صناعة المحبة فيما بين الناس.

وجاء في الآية القرآنية: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) آل عمران 3. هذا هو الدين الذي يحقق السلام النفسي بين الناس، والشعور بالانتماء إلى المجتمع، وليس العداوة، فالمجتمع الذي تكون فيه عداوات مستمرة هذا مجتمع مدمَّر. وعن رسول الله (ص): (.. ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف)، وعن الامام علي (عليه السلام): (قلوب الرجال وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه).

لذا لابد للإنسان أن ينطلق من ذاته في عملية بناء نفسه وبناء المجتمع، ويجب أن لا يكره المجتمع ولا يُصدر أحكاما عليه، كأن يقول أن هذا أفراد هذا المجتمع كلهم كذابون ومنافقون، أليس أنت أحد أفراد هذا المجتمع، فهل أنت منافق وكذاب، على العكس من ذلك لابد أن يؤسس لألفةٍ مع هذا المجتمع، وسوف تنتقل هذه الألفة منه للآخرين.

من أسباب المشاكل الاجتماعية أن السلوكيات السيئة أكثر سيطرة وهيمنة على العلاقات الاجتماعية، بينما إذا كانت هناك حركة مستمرة نحو التآلف والتسامح فيما بين الناس، فهذا سيؤدي إلى سيطرة وهيمنة قيم الألفة والمحبة بين الناس، لذا فإن الإنسان الذي يعيش في مجتمع متباغض سوف يبتعد عن المجتمع وينعزل عنه ولا يهتم بالآخرين.

يقول سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي: (المطلوب من كل واحد منا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالاحترام والتواضع والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق