q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

العبء التنويري والأخلاقي لرجل الدين

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

يشترك رجل الدين مع غيره من المعلمين الأجلّاء للمجتمع، فهو لا يختلف عن المعلم التربوي أو الجامعي، ولا يختلف عن الأستاذ الجامعي، فهؤلاء كلٌّ منهم له دوره في غرس القيم والآداب والعلوم في عقول الناس من مختلف الشرائح، ولعلّ مسؤولية رجل الدين تتخذ مكانتها المتميزة في قلوب الناس...

يشترك رجل الدين مع غيره من المعلمين الأجلّاء للمجتمع، فهو لا يختلف عن المعلم التربوي أو الجامعي، ولا يختلف عن الأستاذ الجامعي، فهؤلاء كلٌّ منهم له دوره في غرس القيم والآداب والعلوم في عقول الناس من مختلف الشرائح، ولعلّ مسؤولية رجل الدين تتخذ مكانتها المتميزة في قلوب الناس بسبب التقرّب الفطري من الدين، والشعور بالثقة والاطمئنان لما يتفوّه به رجل من قيم وتعاليم ودروس.

يحتاج الفرد والمجتمع أن يتعلّم في كلّ المجالات، فلا غنى عن العلم، ولا عن الآداب، ولكن تبقى القيم الأخلاقية تتصدر هذه الاحتياجات، إذ لا فائدة من إنسان متعلّم بلا أخلاق، ولا فائدة من سياسي أو اقتصادي أو طبيب أو مثقف بلا أخلاق، فكل شيء يقوم على القيم الرصينة العادلة، ولذلك كل الأمم التي تفوقت على سواها كانت قوتها وتميزها وازدهارها يكمن في منظومتها الأخلاقية.

ورجل الدين، العالِم، المفوّه هو الأكثر تأثيرا في الناس بقضية غرس القيم الأخلاقية في نفوس الناس، نظرا لما يتحلّى به من ثقة عالية موروثة عبر الأجيال، حيث يمنحه الناس هذه الثقة قبل أن يستمعوا أو يقرأوا له، على عكس الآخرين فالناس لا تؤمن بالسياسي ولا تثق به حتى ترى وتلمس خطواته الإجرائية العملية في الواقع، وهذا ينطبق على المعلم والأستاذ الجامعي والطبيب والمهندس وغيرهم، إلا رجل الدين فهو الوحيد الحاصل على ثقة الناس قبل أن يعرفوه ويستمعوا له، وهذا يعني بأنه قدوة للجميع، وأقواله وأعماله ومواقفه هي التي تزيد من هذه الثقة أو تنهيها!.

لذلك فالمعلّمون وفي المقدمة منهم رجال الدين يتحملون مسؤولية تعلّم الآخرين منهم، فقد يتعلم الناس الصحيح وربما يتعلّم الخطأ، استنادا إلى ما يصدر من المعلّمين ومنهم رجال الدين، ولكن لابد من القول أن رجل الدين يتحمّل مسؤولية أكبر بسبب الثقة العالية الممنوحة له مسبقا طبقا للإرث التاريخي الاجتماعي الذي غرس في قلوب الناس الثقة برجال الدين.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:

(المسؤولية تقع على الذين تعلّم الناس منهم، في السلبيات والإيجابيات).

مسؤولية غرس القيم الأخلاقية

نسبة المتعلمين هنا قد تزيد أو تنقص، بمعنى ربما هناك رجل علم أو دين أو مثقف يستمع له أنساس قليلون، فالمسؤولية هنا لا تنتفي عن المعلّم، فهو يبقى مسؤولا عمّن علّمهم الجيد أو المسيء من الأفكار والعادات، وهذه النسبة من المتعلمين أو المستمعين حتى لو كانت قليلة، فإنها سوف تقوم بنقل ما تعلمته إلى آخرين يتأثرون بهم، وشيئا فشيئا، تتوسع دائرة الخطأ، وتصبح المسؤولية أكبر، فإذا كان التعليم صحيحا ويصبّ في غرس الأخلاق فبها، ولكن ماذا لو كان المضمون ليس مصيبا.

هذا يعني بأن رجل الدين أو العالم قدوة للناس، فإن قلّة هؤلاء تعني تنوير عدد أقلّ وهذه مسؤولية لا ينبغي نسيانها، ونستنتج من ذلك أن القدوة من الأفضل له أن يؤثر في أكثر عدد ممكن من المتأثرين، كونه قدوة جيدة لهم.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد ذلك في قوله:

(حتى أهل العلم الذين يكونون قدوة لمجموعة قليلة من الناس، بالنتيجة تقع عليهم مسؤولية تلك المجموعة القليلة).

من المهام الكبيرة التي تقع على العلماء، ومنهم رجال الدين، ما يصدر من أفعال أو أقوال أو مواقف من السفهاء، فهؤلاء ينتسبون إلى المجتمع، والأخير فيه علماء ورجال دين، ومسؤولية غرس القيم الأخلاقية والتنوير تقع بالدرجة الأولى على العلماء ورجال الدين، لذلك من الأهمية بمكان أن يقدّر رجل الدين هذا الدور الأخلاقي التربوي الكبير، وانطلاقا من ذلك سوف تقلّ نسبة السفهاء في المجتمع، ومع استمرار الدفق التنويري وقيام رجال الدين بدورهم التربوي الديني الأخلاقي لأفراد المجتمع، سوف تنحسر الأخطاء وتنكمش حالات الانحراف.

من هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(حمل ذنوب السفهاء يقع على العلماء).

في الأوضاع الثقافية والأخلاقية التي يعيشها المسلمون في الدول الإسلامية، هناك خلل واضح يتجسَّد في التدهور المتدرّج للقيم، والتباطؤ في النمو الأخلاقي، والضياع بين ما هو مادي ومعنوي وأخلاقي، هناك أمم فهمت اللعبة، واعتمد قادتها قواعد فلسفية لا مبدئية، بحيث غابت الأخلاق عن السياسية وقراراتها ونتائجها الكارثية، حتى التعاملات الاقتصادية لم يعد للأخلاق دور فيها، ولكن مثل هذه القيم المسيئة لا يصح أن تتسلل إلينا كمجتمعات تربّت على القيم الأخلاقية الحميدة، سياستنا يجب أن تجعل من الأخلاق منطلقا لها، واقتصادنا كذلك وتعاملاتنا الداخلية فيما بيننا وحتى الخارجية، وكل هذا يعتمد على أهل العلم!.

تقديم النموذج الأخلاقي الفعلي

رجال الدين عبر إخلاصهم في إطلاق الأفكار الأخلاقية العميقة، وطرحهم النماذج التاريخية والواقعية لترسيخها، هم أولى بهذا الدور من غيرهم، نعم يجب أن يقع العبء الأخلاقي التنويري على الجميع، لكن أهل العلم ورجال الدين هم في المقدمة، وهم الأكثر قدرة على صنع الأجواء الإصلاحية التي تغرس في شرائح المجتمع القيم الأخلاقية الأصيلة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول هذه النقطة:

(أهل العلم قدوة وأسوة، ويستطيعون بأقوالهم وأفعالهم أن يخلقوا أجواءً صالحة).

المهم في هذا المجال أن يلتزم رجل الدين بدوره الأخلاقي التنويري، ليس باللفظ أو الوعظ وحدهما، وإنما بتقديم النموذج الأخلاقي الفعلي الذي يجسدهُ رجل الدين الواقع المُعاش، وأن يلمس الناس ذلك كحقيقة تتجسد بالرؤية والتبصّر، وحين يصبح رجل الدين قدوة فعلية للمجتمع، فإن تأثيره في غرس القيم الأخلاقية سوف يكون هائلا.

أما إذا انحرف بعض الناس وفسدوا، فهذا الأمر يقع على من يفسد، ولكن حين يصبح رجل الدين عرضة للخطأ (لا سمح الله)، فهذا سوف يرتّب مسؤولية تامة عليه حين يكون سببا في تدهور القيم الأخلاقية عند من ينظرون إليه كمثال أو قدور لهم، لذلك يبقى رجل الدين محكوم بما يناسب موقعه ومكانته في المجتمع، كونه المعلّم والتربوي الأخلاقي الذي يتصدّر الآخرين في غرس القيم الأخلاقية عند الناس.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إذا فسد أحد من الناس، فالمسؤولية تقع على الذي فسد. وأما، ولا سمح الله، إذا بدر من أهل العلم ما هو غير مناسب لمقامه كقدوة وأسوة، فالمسؤولية تقع عليه).

ولهذا فإن أهل العلم ورجال الدين إذا قدّموا النموذج المتكامل للآخرين، والتزموا بالمواقف والأفكار والأفعال الرفيعة، فإنهم حينذاك سوف يصلون إلى مرتبة العظمة بأفعالهم هذه، كونها تُسهم بصورة أساسية في تنشئة أجيال تكتسب نجاحها وتميزها واستقرارها وتقدمها من الفعل الأخلاقي التنويري الذي يُسهم بقوة في غرس القيم الأخلاقية في قلوب ونفوس الناس، وهو ما نحتاجه اليوم بشدّة كي نستعيد عنفواننا ومكانتنا المتميزة بين الأمم.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إذا التزم أهل العلم بقولهم وأعمالهم، أحسن وأفضل، فمقامهم عظيم وعظيم وعظيم).

خلاصة القول إننا نعيش اليوم في مرحلة حساسة وعصيبة، نحتاج فيها إلى دعم القيم الأخلاقية ونشرها وتعميقها، كي تنهض بأمتنا ومجتمعاتنا، لاسيما أننا نعيش في عالم تتدهور فيه القيم، وتتنمّر فيه قوى ماتت في قلوبها وأعماقها وأفعالها المواقف الإنسانية، مما يستدعي من أن نركّز على ثوابتنا من خلال تصدي أهل العلم ورجال الدين إلى دورهم التنويري باعتبارهم قدوة لنا جميعاً.

اضف تعليق