q
ليس من المستغرب أن الناس الذين يتبنَّون هذا النوع من المواقف الذهنية الإيجابية يتمتعون برفاه نفسي أفضل، يشمل ذلك عددًا أقل من أعراض القلق والاكتئاب. هذه القدرة على رؤية الكوب نصف ملآن دائمًا تعني أنهم على أتمِّ الاستعداد للاستجابة لتحديات الحياة. بالتالي فإنهم قادرون على التهوين من تِبعات...

لماذا أصحاب المواقف الذهنية الأكثر إيجابية هم الأكثر سعادة بصرف النظر عن ظروفهم الحياتية.

تأمَّل وقتًا كنت تَنعم فيه بمزاج رائق بحق. ربما لاحظت أنك حين تشعر بالسعادة، لا تنزعج من المكدرات اليومية الصغيرة - فلا يُثير أعصابك الزحام المروري، ولا صفوف الانتظار الطويلة، ولا الناس المزعجة. لا شك أنها من المنغِّصات الشائعة، لكن شعورك بالرضا يساعدك على التأقلم مع هذه الألوان من الأحداث. فربما تتكيَّف مع الصف الطويل في متجر البقالة بتصفُّح مجلة، أو تستمتع بقضاء أمسية هادئة لم تكن تنتظرها بعد أن ألغى صديقك عشاءً مُرتقبًا في آخر دقيقة بمشاهدة التلفزيون. هذه كلها أمثلة لنرى كيف يُساعدنا الشعور بالسعادة على التأقلم وأن نظل إيجابيين، مهما يكن من أمر.

رغم أننا جميعًا نشعر بالسعادة أحيانًا، بعض الناس، يَمضون في الحياة بصدر مُنشرِح بالفطرة. يسير هؤلاء الناس في الحياة متوقِّعين أن الأمور ستؤول إلى مصلحتهم ويجدون النظر إلى الإيجابي سهلًا نسبيًّا. كما أنهم مَرِنون؛ أي إنهم يتعافون من التجارب السلبية بسلاسة نسبيًّا.

ليس من المستغرب أن الناس الذين يتبنَّون هذا النوع من المواقف الذهنية الإيجابية يتمتعون برفاه نفسي أفضل، يشمل ذلك عددًا أقل من أعراض القلق والاكتئاب. هذه القدرة على رؤية الكوب نصف ملآن دائمًا تعني أنهم على أتمِّ الاستعداد للاستجابة لتحديات الحياة. بالتالي فإنهم قادرون على التهوين من تِبعات ظروف حياتية بالغة الصعوبة، مثل التشخيص بالسرطان أو وفاة زوج. فإننا مثلًا نجد مستوياتٍ أقل من إجهاد ما بعد الصدمة لدى أصحاب الرؤى المُتفائلة في الحياة بعد النجاة من حوادث إطلاق النار في المدارس.

لكن مما يُبشِّر بالخير هو أنه مهما كانت ميولنا الفِطرية، فإننا جميعًا نستطيع بالتعوُّد أن نتطور للأفضل في الاستجابة لتحديات الحياة بطُرُق أكثرَ إيجابية. فإن تعلُّم استراتيجيات تبنِّي طريقة تفكيرٍ أكثرَ إيجابيةً والتمرُّنَ عليها يغيِّر مسارات عصبية في المخ فيصير هذا النوع من الاستجابات التكيفية طبيعيًّا أكثر. ومثلما ذكرت باربرا فريدريكسون، عالِمة النفس في جامعة نورث كارولاينا في بلدة تشابل هيل: «أن نمضي الوقت في تعلُّم مهارات استدعاء المشاعر الإيجابية ذاتيًّا من المُمكِن أن يساعدنا على أن نصير بصحةٍ أفضل واجتماعيين أكثر وأشد مرونة عما كُنا.»

إننا غالبًا ما نَفترِض أن المرور بأحداثٍ سلبية يُؤدِّي إلى شعورنا بالاستياء. ورغم أنه صحيح أن تجارب الحياة المحبِطة والمُزعجة من الممكن أن يكون لها تبِعات قصيرة وطويلة الأجل على سعادتنا، فإنَّ المُهم بحق ليس التعرُّض لتلك الأحداث وحده وإنما بالأحرى طريقة استجابتنا لها، أو رؤيتنا لها. باختصار، حتى حين يمرُّ الناس بالحدث نفسه بالضبط، فإن ما يؤثِّر على شعورهم أبلغ تأثير هو طريقة استجابتهم له ورؤيتهم له.

فلنبدأ إذن بتحرِّي ما يفعله المتفائلون فطريًّا للحفاظ على رؤاهم الإيجابية. وكما سأُبيِّن في هذا الجزء، ثمَّة اختلافات جذرية في الطريقة التي يرى بها الناس المُنغِّصات اليومية العادية وتجارب الحياة الأكثر خطورة وطريقة استجابتهم للاثنين.

لا تقف مكتوفَ اليدين

الذين يعيشون الحياةَ بنظرة إيجابية يواجهون المنغِّصات ويستجيبون لها في الحال. حين يجدون أنفسهم حيالَ عدد هائل من المهام، يجلسون ويضعون خطةً لتولي كلِّ مُهمَّة على حدة. وحين يدخُلون في جدال مع زميل أو صديق، بمجرَّد أن يهدأ انفعالهم يبادرون بالذهاب ويُحاولون حل المسألة.

يساعد اختيارُ مواجَهة المُشكلات مواجَهةً مباشرة في التغلُّب على المُشكلة، أو على الأقل التخفيف من حدتها. فربما يتقلَّص حجم جدول المهام، أو يزول التوتُّر الناشئ عن الخلاف. المُتفائلون سريعو التعافي من العمليات الجراحية، وهو ما يَرجع إلى حدٍّ ما إلى أنهم يبحثون عن معلومات عما ينتظرهم. وتمنحُهم هذه المعلومات استراتيجيات واقعية وعملية للاستعداد للإجراء والتعافي منه، وهو ما يسرع بطبيعة الحال من شفائهم.

حتى حين تبدو الظروف مقبضةً وميئوسًا منها، يستمر أصحاب المواقف الإيجابية في الحياة في سعيهم ومثابرتهم. وكما وصف الأمرَ الناشطُ الجنوب أفريقي والرئيس الأسبق، نيلسون مانديلا حين قال:

إنني مُتفائل حتى النخاع. لا أعلم ما إذا كان ذلك راجعًا لطبيعتي أو نشأتي. من التفاؤل أن تظلَّ شاخصًا ببصرِك صوب الشمس، متقدمًا بخطواتك للأمام. لقد مرَّت عليَّ لحظاتٌ حالكة عديدة حيث تضعضعت ثقتي في البشرية للغاية، لكنَّني لم أستسلم لليأس ولم تُطاوعني نفسي على ذلك. فذلك السبيل يورد الفشل والموت.

أما أصحاب المواقف الأكثر سلبية في المقابل فإنهم يتوقَّعون عواقبَ سيئة؛ لذلك فإنهم يستسلمُون عند مواجهة موقف صعب. قد يتجاهلون المشكلات ويأمُلون فقط أن تزول - وبذلك تطول قائمة المهام ويمتدُّ الخلاف. هكذا يَحرِمهم أسلوب «دفن الرأس في الرمال» هذا من معلوماتٍ عملية يحتمل أن تساعدهم في تحسين الموقف. كما أن اعتقادهم أن لا شيء يتطور للأفضل يعوق قدرتهم على المبادرة. فإنهم بعد وفاة شخص عزيز مثلًا قد يُدركون دون تحيُّز أن الانضمام إلى مجموعةِ دعم المفجوعين سيكون مفيدًا لكنهم لا يفعلون ذلك أبدًا في الواقع.

أصحاب النظرات الإيجابية يسهُل عليهم المضي قُدمًا حتى في أوقات الضغط النفسي؛ لأن لديهم شبكاتِ دعمٍ اجتماعية قوية، تضمُّ عددًا أكبر من الأصدقاء وعلاقات أقوى. وهذا بديهي؛ فأغلبنا يُفضِّلون قضاء الوقت مع ناسٍ متفائلين سعداء على قضائه مع شخصيات كئيبة وسلبية على الدوام. وهذه الشبكات الاجتماعية الجيدة تساعدهم بدورها على التخفيف من الآثار السلبية لمُنغِّصات الحياة اليومية. حين تقع أحداث بغيضة، يدرك الناس الذين يدعمهم أصدقاؤهم وأسرتهم جيدًا أن باستطاعتهم الاتكالَ على أحبائهم للحصول على العون. ونتيجة لذلك، تمرُّ هذه الأحداث أقل وطأة بكثير. بل وتساعد المستويات المرتفعة من الدعم على التأقلم حتى عند مواجهة أحداثٍ جسام، مثل التشخيص بالسرطان والكوارث الطبيعية.

الناس الذين يواجهون الحياةَ بنظرة إيجابية لديهم قدرة هائلة على العثور على جانبٍ طيب في أي موقف. وهذه القدرة على رؤية الكوب نصفَ ملآن تمكِّنهم من التأقلُم مع الأحداث السلبية والعثور دائمًا على منحةٍ سحرية في المحنة.

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق