q
كان هارون العباسي منهمكاً في بناء هيكلية حكمه وسلطانه على أكتاف الناس، بينما الإمام الكاظم، وسائر الأئمة المعصومين كانوا ماضون في مهمتهم الاستراتيجية في بناء النفوس، لذا كان الناس يعدونهم القادة الحقيقيين للأمة، وكان ليس فقط رأي عامة الناس، بل و رأي العلماء والحكماء والشريحة المثقفة في الأمة آنذاك...

"لن ينقضي عنّي يومٌ من البلاء إلّا انقضى عنك معه يومٌ من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يومٌ ليس له انقضاء يخسر فيه المُبطلون".

من رسالة للإمام الكاظم من داخل السجن الى هارون العباسي

بغداد؛ المدينة الوادعة على ضفتي نهر دجلة، والحديثة النشوء، تميزت بسرعة عمرانها، وتنوع مجتمعها لتكون نجماً متألقاً في الحضارة الاسلامية بعد أفول نجم الشام مع أفول الدولة الأموية، وظهور الدولة العباسية التي سعت للظهور بواجهة دينية على غير ما كان عليه الأمويون المسكونون بالعقد النفسية الجاهلية، والضغائن لشخص النبي الأكرم تحديداً ولأهل بيته، وللإسلام بشكل عام، فحاول العباسيون مواكبة حياة الأمة بخطى ثابتة على عكازين؛ الانتساب الى الرسول الأكرم، كونهم أبناء العباس عمّ رسول الله، ثم إنهم انتزعوا السلطة من الأمويين بانقلاب عسكري تحت شعار: "يالثارات الحسين".

والآخر؛ الانتساب الى الثقافة الاسلامية، وأهمها إزالة التمييز العنصري والقومي الذي أرسى دعائمه معاوية، لذا كان اختيارهم بغداد لتكون العاصمة السياسية للدولة الاسلامية الى جانب المدينة المنورة؛ لتبقى العاصمة الدينية البعيدة عن السياسة والحكم، وللعلم؛ فان بغداد، كلمة فارسية مركبة من كلمتين: "باغ"، وتعني البستان، و"داد"، وتعني العطاء، فتكون؛ البستان المعطاء، وربما مردّ هذا الى الاراضي الخصبة على مد البصر بين ضفتي دجلة.

التفكير بالشرعية لم يبرح يشغل بال العباسيين منذ استشهاد الامام الصادق، عليه السلام، على يد المنصور الدوانيقي، و تولّي الامام موسى بن جعفر الكاظم، الإمامة بعد أبيه، وكان حينها في مدينة جده رسول الله، فكانوا يعدون انفسهم الخلفاء من بعد رسول الله، ممن اختارهم الله –تعالى- لهذا المنصب! بيد أن موت المنصور ومن ثم الهادي وصعود نجم هارون، وما رافق حقبة الاخير من تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية، جعلته يستشعر الخطر المتعاظم على شرعيته المهزوزة والمزيفة، وحسب المؤرخين فان أول اصطدام له مع الامام الكاظم، عليه السلام، كان في مرقد رسول الله، حيث كان في زيارة للمدينة، فتوجه الى المرقد الشريف وخاطب النبي الأكرم أمام حشود المرافقين والناس الحاضرين: "السلام عليك يا ابن العم"، وكان الامام حاضراً حينها، فأردف بالقول: "السلام عليك يا أبتاه"، وهي إشارة خطيرة تنسف إدعاء العباسيين بعدم صلة الأئمة من ولد أمير المؤمنين برسول الله، وتفند مزاعمهم بالقرب من النبي أكثر من الأئمة المعصومين، فهم أولاد عم، بينما الأئمة أحفاده من فاطمة بنت رسول الله، وفي حينها كشف الإمام الكاظم البرهان من القرآن الذي ذكر عيسى بين اسماء انبياء من ولد ابراهيم، فكانت صلة عيسى بابراهيم من أمه مريم بنت عمران.

هذا الموقف الحازم من الامام الكاظم من شرعية السلطة العباسية، عدّها هارون العباسي انطلاقة لحرب باردة بين الجبهتين، لذا أصدر أوامره بتسفير الإمام من مدينة جدّه الى أرض العراق في ظنه أنه يبعد الإمام عن مصدر الشرعية الحقيقية للحكم.

إمام القلوب أم إمام الجسوم

قال هارون العباسي للإمام الكاظم ذات مرة: أنت الذي يبايعك الناس سراً، فأجابه، عليه السلام: "أنا إمام القلوب وأنت إمام الجسوم".

لا يرى هارون، ولا أي حاكم على شاكلته، ضيراً في أن يكون الأولياء الصالحون والأخيار أئمة على قلوب الناس، وربما يباركون لهم ذلك، ويبدون لهم الاحترام والتبجيل أمام الناس، بشرط! أن لا تتجاوز هذه العلاقة شغاف القلب الى الواقع الخارجي، وتتحول الى ثقافة عملية في الحياة، و تكون مصدر قرار، و اختيار، فالحكام –على الأغلب- يعتمدون فلسفة مادية في تأسيس العلاقة بين المجتمع والدولة، او بين الانسان والسلطان، قائمة على سياسة العصا والجزرة، وعلى الترغيب والترهيب.

وحتى يضمن هارون ولاء الناس في العاصمة بغداد تحديداً، أطلق العنان للرغبات والشهوات لفصل القلب والعقل عن الجسم نهائياً، فاصدر التراخيص لفتح نوادي الغناء والرقص وشرب الخمور، بل امتدت حفلات الرقص والمجون في الشوارع والساحات العامة، و بات الشباب يبحثون عن المغنية الأفضل في بغداد لحضور حفلاتها، والاستمتاع بالجواري القادمات من مختلف أنحاء العالم.

بهذه الميوعة من الصعب جداً استشعار الناس بالغضب والظلم لنثر آلاف الدراهم والدنانير على الراقصات والمغنيات والمداحين داخل القصور، وإن تسربت أخبار السهرات على موائد الخمور والليالي الحمراء، وقد أورد الباحثون والمؤرخون أرقاماً خيالية لوارد خزينة الدولة في عهد هارون بما يقدر حالياً بحوالي ملياري دولار سنوياً، (حياة الامام الكاظم، دراسة وتحليل- الشيخ باقر شريف القرشي)، وهو رقم لذلك الزمان يُعد ثروة خيالية لم تتاح لدولة في تاريخ العالم، فقد جاء في التاريخ أن واردات الدولة آنذاك كانت حوالي 500مليون درهم، مع الاخذ بالاعتبار أن قيمة الدرهم كانت مقابل كبش، ومقابل حوالي أربعة كيلوغرام –حالياً- من السمن، وأجرة البناء الاستاذ -وليس العامل- ثلث درهم، ولكن عشرات، بل مئات الدراهم لم تكن لتصل الى المدن والامصار الاسلامية البعيدة في العراق والحجاز ومصر وايران وغيرها مما امتدت عليه رقعة الدولة الاسلامية آنذاك، فقد كان المسلمون يتجرعون مرارة العيش والحرمان بسبب فداحة الضرائب تحت مسمّى الزكاة، وعدم الطاعة "لولي الأمر" يعني شيء واحد؛ التكفير ثم الموت بتهمة التمرّد على أحكام الدين، وعلى خليفة رسول الله.

ولعل هذا هو الذي مكّن الإمام الكاظم من تأسيس ما بات يسميه المؤرخون بالدولة داخل دولة في عهد هارون العباسي، فقد كان للإمام العديد من الموالين داخل البلاط، بدءاً من البواب، والحارس، والموظف العادي، وحتى الوزير المرموق والمؤثر في القرارات الحكومية مثل؛ علي بن يقطين، الذي جمع بذكائه وفطنته بين الولاء للإمام الكاظم، والعمل الى جانب هارون العباسي في منصب رفيع دون أن يتمكن من الايقاع به رغم سعي الوشاة والحاسدين، الى جانب هؤلاء، كانت ثمة شريحة واعية في الامة تتواصل مع الامام وتلجأ اليه في الملمّات والشدائد، وإن بعدت المسافة بينها وبينه، عليه السلام، وقد كانت تُجبى الحقوق الشرعية للإمام من مناطق عديدة، فهؤلاء جميعاً كانوا يرون في الامام الكاظم صاحب الشرعية الحقيقية وليس هارون العباسي العابث بأموال المسلمين، ومنتهك الحرمات وسافك الدم الحرام.

الظلم والجهل فضحا شرعية هارون

لم يكن الإمام الكاظم بحاجة لكثير عناء لفضح الشرعية المزيفة لهارون والدولة العباسية برمتها من خلال ثورة جماهيرية –مثلاً- والحديث على المنابر وفي المحافل لأن الاخير وفّر الجهد بنفسه بقتله للعلم والعلماء، بعد قتله وقمعه لمعارضيه، وإن كانت ثمة فضل للعلماء في بناء الجسور والمباني والطرق والاسواق في بغداد، العاصمة الحديثة، فانه قبل هذا يعود الى الامام الصادق، عليه السلام، وتربيته لجيل من العلماء الافذاذ في الكيمياء والهندسة والطب والفلك، الى جانب علماء في الفقه والكلام (الفلسفة)، ولم يذكر التاريخ رعاية أو دعماً من هارون للعلم والعلماء، بل العكس تماماً؛ كان يحارب ويطارد العلماء الرساليين، ولعل قصته مع هشام بن الحكم خير دليل على عظم هواجس هارون من هؤلاء، فبعد أن زودوه بالتقارير عن هشام ومدى خطورته على السلطة بقدرته الفائقة على الجدال والنقاش، وهو المتخصص في علم الكلام (الفلسفة) الذي ينصر الدين وقيم السماء، فاستدعاه هارون وطلب من المقربين خوض النقاش معه وهو يختفي خلف الستار ليصغي بنفسه ويرى، فلما ألقمهم الحجر ببراهينه وحججه العقلية، قفز هارون فزعاً وهو يقول: "مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة احدة! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة الف سيف".

وكما هو ديدن الحكام وطلاب السلطة، فقد كان هارون العباسي منهمكاً في بناء هيكلية حكمه وسلطانه على أكتاف الناس، بينما الإمام الكاظم، وسائر الأئمة المعصومين كانوا ماضون في مهمتهم الاستراتيجية في بناء النفوس، لذا كان الناس يعدونهم القادة الحقيقيين للأمة، وكان ليس فقط رأي عامة الناس، بل و رأي العلماء والحكماء والشريحة المثقفة في الأمة آنذاك، فكانت سياسة الإمام الكاظم في الأمة؛ الوعي والثقافة من خلال اتجاهين:

الاول: الوعي السياسي، بتحفيز افراد الأمة على المطالبة بحقوقهم ومقارعة الظلم، والمجاهرة بقول الحق أمام السلطان الجائر، إلا في موارد محدودة تتطلب التقيّة لتفادي الضرر على نفس الشخص وما يمكن إلحاق الضرر بمصالح الآخرين وبمستقبل الدين، كما كان يفعل علي بن يقطين؛ الوزير المتنفذ في البلاط العباسي، الذي علّمه الإمام بنفسه كيفية الوضوء على الطريقة الأخرى حتى لا ينكشف أمره.

وفي عهد الإمام الكاظم اندلعت انتفاضات وثورات علوية عديدة ضد الظلم والاستبداد العباسي، رغم إنها كانت تتسم بالعفوية والاستشهادية، مثل ثورة "فخ" التي فجرها في المدينة، الحسين بن علي بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، في عهد الهادي العباسي، والتي انتهت باستشهاده مع جميع اصحابه، بشكل مريع أعاد الى الأذهان واقعة كربلاء، مما حدى بالمؤرخين بقاربتها بما جرى للإمام الحسين وأهل بيته، من قتل وتسليب وسبّي للنساء وحمل للرؤوس، فقد جرت معركة باسلة بين الثوار والجيش العباسي في منطقة تُسمى "فخ" بين المدينة ومكة، وكانت الغلبة –قطعاً- لمن يملك العدة والعتاد الأكثر.

وبغض النظر عن اختلاف الآراء في وقوف الإمام الكاظم مباشرة خلف هذه الثورات او سكوته عنها، كما يروي الاصفهاني في مقاتل الطالبيين بأن الحسين صاحب فخ قال: "ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر، عليه السلام، فأمرنا بالخروج"، ومقصد هذه الروايات تعزيز مشروعية هذه الثورات من قبل الأئمة المعصومين، بيد أن المحصلة النهائية؛ نشر الوعي السياسي والديني في أوساط الجماهير المضطهدة من الفلاحين والموالي (العبيد)، وصغار التجار من الطبقة المتوسطة في المجتمع ممن يتقون الله في نفوسهم وضمائرهم أمام مغريات هارون ودنانيره التي كان يحاول بها شراء الذمم والولاءات.

أما الاتجاه الثاني، فقد كان في الدفاع عن العقيدة والرسالة التي ضحى من أجلها جدّه رسول الله، وأمير المؤمنين، والأئمة المعصومين، وكل المجاهدين والمصلحين، أمام تيار الافكار الدخيلة والمناقضة للإسلام علانية، والوافدة من خارج البلاد الاسلامية تحت أنظار السلطة العباسية نفسها، بل زاد على هذا بعض الحكام مثل المأمون وأشباهه بترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية التي تنشر الشرك والإلحاد.

وقد أشار الشيخ القرشي في كتابه المشار اليه (حياة الامام موسى بن جعفر) الى عدة مذاهب فكرية ظهرت في تلك الفترة منها: الشعوبية، والمانوية، والمزدكية، والزرادشتية، الى جانب الإلحاد، فكان الامام الكاظم يقف بوجه هذه التيارات منتصباً شامخاً بعلمه وحنكته، فكانت ترده الأسئلة المختلفة عن العقيدة، منها مثلا؛ معنى الله! فأجاب الامام فوراً: "استولى على ما دقّ وجلّ"، أي المهيمن على كل صغيرة وكبيرة في الكون وفي الحياة.

اعتقال الإمام الكاظم في المدينة و زجّه في السجون من بلد الى آخر، وتغييبه عن الأمة، ثم استشهاده وإخراج جثمانه الطاهر بتلك الطريقة المفجعة، لم تنل من مكانة الإمام، ولا من قوة واقتدار مذهب أهل البيت، عليهم السلام، بقدر ما كانت الزخم المعنوي الهائل لمزيد من القوة والتماسك والتعمّق في الإيمان والعقدية لدى الأجيال القادمة، وإلا ما الذي يخيف هارون، مع ملكه الهائل وسطوته وإرهابه، من إمام مسجّى في جنازته؟ فقد دعى شيوخ الطالبيين وكبار المجتمع في بغداد لينظروا الى جثمان الإمام الكاظم والتحقق من ادعائه بأن مات حتف أنفه وليس اغتيالاً بالسمّ.

حتى محاولته التنكيل بالإمام الكاظم بوضع جنازته على إحدى جسور بغداد ثلاثة أيام لينظر الناس اليه، لم تشفع له، بقدر ما تسببت في إثارة مشاعر الناس عندما أرسل السندي بن شاهك (منفذ عملية اغتيال الإمام) بأن يطوف بجنازة الإمام وينكّل به في شوارع بغداد، فسمع سليمان بن أبي جعفر أحد أبناء عمومة الإمام ومن المقربين الى هارون، فلم يرقه ذلك، وهاجت عنده الحميّة، فأمر غلمانه وأولاده بأن يأخذوا الجنازة من ذلك المأجور، فأعاد تكفين الإمام، وأمر المنادي بأن: "من أراد الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليخرج، فخرج خلقٌ كثير، كما تصف الروايات التاريخية، وتم مواراة الإمام الكاظم الثرى في تشييع مهيب ليترك أثراً بعد آخر في قلوب ونفوس أهالي بغداد، وجميع افراد الأمة، ويثير فيهم الضمائر والعقول ليتحركوا نحو تحقيق الحياة الأفضل.

اضف تعليق