دعوني أولاً أتخيَّلْ أنَّ بورخس كتب كلَّ ما كتبه باللغة العربيَّة، وأنه وُلد وعاش هنا، وتشرّب بغبار هذه الأرض، وشرب من مائها. تُرى كيف كنا سنفهم أدبه، وماذا سنقول عنه، وكيف سنحتفي به، لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ من طرح سؤال آخر مهم يعكس وضعاً غريباً في الساحة الثقافية العراقية...
دعوني أولاً أتخيَّلْ أنَّ بورخس كتب كلَّ ما كتبه باللغة العربيَّة، وأنه وُلد وعاش هنا، وتشرّب بغبار هذه الأرض، وشرب من مائها. تُرى كيف كنا سنفهم أدبه، وماذا سنقول عنه، وكيف سنحتفي به، لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدَّ من طرح سؤال آخر مهم يعكس وضعاً غريباً في الساحة الثقافية العراقية.
هذا السؤال هو: لماذا لم يكن لبورخس ذلك التأثير الذي كان لماركيز مثلاً أو لكافكا. فقياساً بهذين الروائيين ظلَّ بورخس منزوياً في ظلِّ النسيان تقريباً، ولم نلمس تأثيره في كتابات ونصوص عراقية مختلفة. وما يجب الإشارة إليه أنَّ ماركيز ترك تأثيره الكبير والواسع فكُتبت عنه مقالات كثيرة، وأُفرد للواقعية السحرية وممثلها الأبرز ماركيز حيز جيد في كتاب فاضل ثامر المقموع والمسكوت عنه في الأدب العربي.
ومن الغريب أنْ يقوم فاضل ثامر بشرح الأسباب التي دعت إلى بروز هذا الاتجاه الفني أي الواقعية السحرية مهملاً الدوافع النفسية في تكوين هذه الظاهرة الفنية.
وأنا هنا لا أريد مناقشة الكاتب في اختياراته التي كتب عنها وهي كلّها اختيارات من خارج الأدب العراقي رأى فيها أنها تمثل روح الواقعية السحرية، إذ كان من الضروري أنْ يقوم بفحص الأدب الروائي والقصصي العراقي والكتابة عنه والتنظير له.
كذلك نجد لكافكا تأثيراً في خلق عالم يقترب من الوهم أكثر منه إلى التخيّل، وقد كان حميد المختار أحد الذين استخدموا تقنية كافكا في ما أسميه بالصدمة العقلية لكنه- أي حميد المختار- لم يكتب نصاً قريباً من عالم كافكا التخيلي، وإنما ابتعد عن جوهر الخيال، ومع ذلك لا أرى هذا عيباً لأنه في واقع الحال خطوة باتجاه بناء ذائقة جديدة على القارئ.
بورخس يشبه اوكتافيو باز في نقطة مهمة وهي أنه ظلَّ بلا تأثير يُذكر في الثقافة العراقية. لقد عانى اكتافيو باز إهمالاً كبيراً رغم أنه شاعر وكاتب له رؤية متنوعة عميقة. وهو متأمل عظيم في الروح المكسيكية قلَّ نظيره. ومن الغريب ألّا ننتبه إليه ونقرأه وندرس تأثيراته الفنية في الكتاب عموماً.
ظلَّ هذا المكسيكي بعيداً عن دائرة الاهتمام على الرغم من أنَّ أحد أهمِّ كتبه تُرجم في بغداد عام 1992 وصدر عن دار المأمون بترجمة رائعة جداً قامت بها الكاتبة نرمين إبراهيم عاجل. وصدر الكتاب ولم ألحظ أيَّ تأثير أو حديث عنه.
مرَّ كتاب متاهة الوحدة كشهاب مسرع في سماء الثقافة العراقية، لم يقف أحدٌ عنده ويناقشه ويلمس في الأقلّ ما فيه من عمق نقدي يحفّز على إدراك أهمية التأمل النقدي في الذات. فليس سهلاَّ أنْ تكون الذات مكاناً للتأمّل والنقد. يساعدنا باز على أنْ نضع كلَّ طبقات روحنا الداخلية تحت ضوء النقد والتأمل لنصل إلى حقيقة مهمة هي فهم الذات الذي يجعلنا نفهم العالم. في الواقع كان مصير كتاب اوكتافيو باز محبطاً للآمال ولا يتناسب مع أهمية الكتاب ومؤلفه.
وقد يكون الوضع السياسي والاقتصادي قاتلين شرسين حطّما النشوة العارمة التي كانت وما زالت موجودة في متاهة الوحدة. وفي الحقيقة لم تُتَحْ لي الفرصة أن أسأل المترجمة الفاضلة عن سبب هذا الإخفاق والبعد عن الاهتمام بكتاب ذي طاقة ساحرة لا تقاوم.
ولكني على أيِّ حال كنت أتابع وأرصد الذائقة الكسول لبعض أو لنسبة غير قليلة من مثقفي التسعينيات الغارقين في الهمِّ العام والغائصين في ساعات تُقضى في الثرثرة والهذيان وقتل الوقت احتجاجاً على سوء الوضع السياسي والاقتصادي آنذاك.
كان هذا على ما يبدو مزاجاً خاصاً بنا تأثر بوضع سياسي قاس ما زلنا نتذكره كما لو حدث بالأمس. لكنَّ بورخس غير المحظوظ لقلة الترجمات وصعوبة قراءته بسبب رؤيته الفنية القريبة من تشاؤم غير مستساغ أبداً ظلَّ من حيث التأثير أقلّ من اوكتافيو باز بكثير.
لكنَّ باز الفائز بجائزة نوبل أيضاً لم يصل إلى حضور ماركيز، ودرجة الاهتمام به. وقد حدث الخطأ الذي اختزل الواقعية السحرية بشخص ماركيز أو هذا ما فهمناه بصورة غير واضحة. ولم نجد الدافع الخفي لاعتبار باز وبورخس كاتبين اتبعا تقنية بسيطة جداً تقوم على مبدأ المحاكاة المباشرة للحياة. ولا تقوم هذه المحاكاة إلا على طاقة داخلية ومعرفة غير تقليدية. إذن غاب عنا جوهر الفكرة التي تضمّ هؤلاء الثلاثة في باقة فنية جميلة. لكن لنعد إلى الأسئلة التي طرحتها في بداية السؤال، وما إذا كان بورخس عراقياً تُرى كيف كنا نقرأه. وكيف كنا سنقيّم كتاباته..؟
لا أشكّ في أننا سنقول عنه إنه حالة خاصة ضمن تضاريس الحركة الثقافية العراقية. نعم سنقول عنه إنه حالة خاصة. تماماً كما قال أحد الكتّاب عن نصوص محمد خضير إنها تنتمي إلى مجال لم يُخلق له مقلدون أو متابعون. ونحن في هذا إنما نعبّر عن عدم فهمنا لمجمل الحركة الثقافية بكلِّ تنوعها.
وما يمكن أنْ نتعلمه من بورخس يكمن في جعلنا نشعر بأكثر عاداته الفطرية عمقاً وهو يروي لنا ألفته الحميمة للكون الفسيح. تُرى هل نفتقر إلى وجود مثل تلك العادة التي جعلته يحس بألفة نحو أتفه الأشياء..؟ نعم إننا نفتقر إلى الشعور بالنسيج الحي الذي تتألف منه الحياة بكلِّ اتساعها. سنُطلق على بورخس الصفة نفسها التي أطلقت على محمد خضير حين وُصفت كتاباته بأنها نموذج جديد لم يتطور على أيدي كتّاب آخرين.
وقد نصف بعض قصص بورخس بأنها نصوص تلغي الواقع بشكل لا يُطاق لأنَّ الواقع السياسي قلّما يبدو جلياً فيها. إننا مجروحون إلى العظم بأخطاء السياسة، وليس عندنا القدرة على متابعة كاتب يدور بنا في طرق التخيل التي تُرهقنا. نعم سيكون بورخس في نماذج من قصصه بعيداً عن مزاجنا وهمنا اليومي، وقد لا تثير كثير من قصائده أيَّ اهتمام لدينا بسبب فهمنا التقليدي لعملية الكتابة. سيصدمنا بورخس صدمة قوية لكننا سنفتخر به، وفي النهاية سيكون علامة مهمة في أدبنا لكنه سيظلّ الكاتب الذي ينتزع منا الاعتراف رغم عدم التفاهم معه جيداً.
اضف تعليق