في دموعها العجوز، رأيت كربلاء، رأيت العطش يمتزج بالبطش، والدم يختلط بالجوع. رأيت حرابًا جاهلية لا تزال ترفعها أحقاد من زمن النبوة، تحاول أن تطفئ نورًا لا يُطفأ. لم اجد ابلغ من رسالة الحرية التي طبعت بأرجلها سيدة قروية كبيرة السن وهي في عقدها الثامن بعد ان قطعت...

لم تكن التضحية يومًا شعارًا مجرّدًا، بل كانت ولا تزال قيمة حية تسكن أرواح الكبار، وتُترجم في أفعال من لا ينتظرون مقابلاً إلا وجه الحق. إنها تلك الطاقة التي تسري في شرايين التاريخ، فتدفع دواليبه إلى الحركة في اتجاه الإصلاح، لا بصرخات، بل بدماء تسيل في صمت وتترك أثرها في ذاكرة البشرية. 

في محراب هذه القيمة، يقف الحسين بن علي عليه السلام، سبط رسول الله، لا كبطل مأساوي، بل كـ أيقونة إصلاح إنساني خالد. لم يذهب إلى كربلاء ليموت، بل ذهب ليحيا… ويُحيي. اختار أن يزرع دمه في أرض العطش، ليورق بعد قرون في ضمير كل من ما زال يؤمن أن الحق لا يُقاس بالقوة، وأن الكرامة لا تباع. 

رأيت مشهدًا لا يُنسى، لا في كتاب ولا في فيلم، بل في امرأة قروية طاعنة في السن، خرجت من جنوب العراق تمشي على قدميها، أيامًا وليالي، عطشى وجائعة، لا تسندها إلا دموعها وصلواتها. كانت تتجه نحو كربلاء، لا لتحجّ، بل لتواسي. لم تحمل خطابًا سياسيًا، ولم ترفع راية، لكنها كانت تقول للعالم: “ما حدث في الطفّ لا يُنسى، ولا يُغتفر”. كانت تقرأ الحسين بطريقتها، تقرأه دموعًا ودمًا، تعبًا وذكرًا، وتؤكد للعابرين أن القضية لم تنتهِ، بل ما زالت حية. 

في دموعها العجوز، رأيت كربلاء، رأيت العطش يمتزج بالبطش، والدم يختلط بالجوع. رأيت حرابًا جاهلية لا تزال ترفعها أحقاد من زمن النبوة، تحاول أن تطفئ نورًا لا يُطفأ. لم اجد ابلغ من رسالة الحرية التي طبعت بأرجلها سيدة قروية كبيرة السن وهي في عقدها الثامن بعد ان قطعت اياماً وليالي مشياً على قدميها متسلقةً الارض من جنوب العراق نحو المزار الشريف، وهي تكابد العطش والجوع وترتوي بدموعها على ماحل بآل محمد من قتل وبطش وظلم في واقعة الطف. 

فقد وجدت تلك السيدة المؤمنة الزمان والمكان المناسبان، لتحاكي محراب الفطرة البشرية السليمة بعدالة القضية وانسانيتها لقاء الظلم والتنكيل والكفر والفساد في واقعة نادرة في التاريخ البشري اختصت آل محمد الاطهار قتلاً، وتجسدت بشخصية ملائكية هي الحسين عليه السلام جذع النبوة واصولها في العقيدة. فقد اكدت تلك السيدة الطاعنة في السن في عطشها ودموعها ان شيئاً ما لايصدق من افعال الهمجية قد حصلت في واقعة كربلاء، اختلط فيها العطش بالبطش والجوع بالدم الزكي بفعل حراب ظلت رؤوسها مخضبة بأحقاد جاهلية حُملت منذ ظهور النبوة. 

احزنني ان تلك السيدة الطاعنة السن قد توفيت ولم تغفل لحظة عن ارض تخضبت بدماء الاحرار لتدفن في ارض اسمها وادي السلام، لتقترب من ايقونة في عالم روحاني شديد النقاء يلتف حول العرش في تسابيح الصالحين لايعرفها الا الاحرار. اذ يبقى العطاء هو المبدأ السامي الاول في التضحية. فاكثر الناس تضحية أعظمهم تأثيرا في ولادة امة يبقى ديدنها العطاء وطريقها الإصلاح وهي ترسم مبادئها على جدران الحاضر القوية حتى يقرأها المستقبل. 

 هكذا هي كربلاء إذًا، لم تكن لحظة ماضٍ، إنها نبض دائم لمن يفهم أن الإصلاح يبدأ من الداخل، من الروح المؤمنة التي ترفض أن تساوم أو تنكسر. إن الذين يضحون، لا يفعلون ذلك ليربحوا، بل ليعلّموا. وان الحسين لم يمت، بل استحال منارةً لا تنطفئ. وفي زمن يعجّ بالضجيج والخذلان، تبقى الرسالة الأوضح في العطاء الصامت. فالأمم العظيمة لا تولد من خطابات وشعارات، بل من تضحيات عظيمة لا تُقابل إلا بالإصلاح، ومن أرواح طاهرة تُغرس في الأرض لتُثمر حريةً وإنسانيةً لأجيال قادمة. 

ختاما، وحين علمت ان سيدة الجنوب ماتت بعد رحلتها، شعرت أنها عادت إلى الأرض التي أحبّت، تلك التي تخضبت بدماء الشهداء، واختارت أن تُدفن في حضن الأرواح الحرة التي تُسبّح دون انقطاع، قرب عرش الله، حيث لا مكان إلا للنقاء. وفي محراب سيد الأحرار، تكتب الحقيقة بالدم لا بالحبر، وتُقرأ القيم في وجوه البسطاء، وتُبنى الأمم من قاماتٍ لم تطلب شيئًا... سوى أن يُولد الإنسان حرًا. فمن الجنوب إلى ارض الطف: رحلة إيمان، وتاريخ يُكتب بالأقدام.

اضف تعليق