q
لم اكن اعرف وقتذاك ان السلاحف تبيض وتخرج من بيضها تلك الكائنات الصغيرة الجميلة التي ادهشتني يوما وانا اراها، تتبع امها بعد ان تركت حطام البيض خلفها .. تسير باتجاه الشط ... صرخت ولم تكن أمي قريبة مني وقتها؛ ... ركوك زغار !! امسكت بقحفة واحدة منها وكانت طرية بعض الشيء...

*الركة، هو الإسم العراقي القديم والحديث للسلحفاة!

**الماطورات، هي الزوارق النهرية المدفوعة بمحركات، وكانت الوسيلة الوحيدة لنقل اهالي القرى الجنوبية باتجاه المدينة

.. (غيظة الركة* على الشط) ...عبارة تعيدنا لوعينا البريء والى ايام خلت ولن تعود! ... في طفولتي كنت اخشى السلاحف .. اذ كانت أمي تخوفني منها لتمنعني من النزول الى الشط كي لا اغرق .. كانت تقول لي؛ لاتروح للشط ترى تاكلك الركة!! حين استحضر ارتجافات قلبي الصغير تلك، تحضر صورة أمي فأحاول الامساك بها بكفي الغضتين واعود معها الى قريتي، تنهب اقدامي الحافية اجراف شط قريتنا والانهار القريبة منه.

لم اكن اعرف وقتذاك ان السلاحف تبيض وتخرج من بيضها تلك الكائنات الصغيرة الجميلة التي ادهشتني يوما وانا اراها، تتبع امها بعد ان تركت حطام البيض خلفها .. تسير باتجاه الشط ... صرخت ولم تكن أمي قريبة مني وقتها؛ ... ركوك زغار !! امسكت بقحفة واحدة منها وكانت طرية بعض الشيء، فيما كانت ارجلها بعد ان رفعتها تتحرك في الهواء ببطء، التفتت لي أمها فتوقف رتل الصغار الذي يتعثر بمشيته خلفها، فخفت منها او دهمني تحذير أمي! ..

غادر الرتل الذي كان منظره بداية لعلاقة مختلفة لي مع الركة وبداية لتمردي التدريجي على تحذيرات أمي منها! لقد كان منظر مجموعة السلاحف الصغيرة وهي تتهجى لعبة السباحة في الأنهار، مثيرا للغاية، كانت تعبث بأرجلها القصيرة، تعاند مويجات الشط عند الجرف وهي تتبعثر خلف امها التي سبقت صغارها الى الغوص .. ولأن المياه كثيرة هناك، لذا صار منظر السلاحف مألوفا لديّ لكثرة مشاهداتي لها، سواء حين تخرج رؤوسها وسط الانهار والشطوط او تكون على اجرافها لتأخذ حماما شمسيا، تنغّصه (الماطورات)** القادمة من شتات القرى جنوبا والمندفعة بسرعة نحو الشمال او باتجاه مدينة المجر الكبير عندما تحدث الامواج العالية وتدفعها الى الاجراف فتغطي السلاحف وتحرمها للحظات من دفء الشمس وعذوبة هواء الصباحات .. اهلنا فهموا اوقات الاستحمام الشمسي تلك، على انها حكاية (زعل) او غيظ بين السلاحف والشطوط! .. وشاع هناك المثل الذي توزع السن الملايين على مرّ العقود وربما القرون السابقة .. (غيظة الركة على الشط)!! ويضرب لمن لايجد غيظه او زعله صدى عند الآخر ويبقى يكابد هذا الغيظ من دون جدوى او رد فعل ..

تملكتني قبل ايام، رغبة عارمة في الذهاب الى هناك بعد ان سمعت الكثير عن جفاف الشطوط والاهوار، فسبقتني احلامي ونقلتني طفلا على اجنحة لقالق كبيرة .. لقد وجدت اثارا لشطوط اختفت ولم اجد سلاحف، او ربما توارت في ما تبقى من المياه القليلة التي انحسرت لتغدو مستنقعات صغيرة متباعدة في اعماق الاهوار التي كانت! ..

سرت اتقصى آثار اماكن كثيرة سحلتني اليها ذكريات قديمة، فتوقفت عند مسافة كان يتقاسمها من الغرب شط بجرفين اخضرين يحتضنانه، هو شط قريتنا، والى مسافة بعيدة منه نسبيا الى الشرق يمتد لسان مائي تدفعه الاهوار شمالا فيجعل من قريتنا (التي كانت) شبه جزيرة تحاصرها الخضرة والمياه عند ربيع كل عام .. حاولت ان استعيد تأثيث المكان، لكن دموعي سبقتني وراحت عيناي تتجولان في افق يغلفه الصمت والجفاف ..

تحركت باتجاه اللسان الهوري القديم الذي كان يشعرنا بانحدار الارض تدريجيا، لكني لم الحظ ذلك .. وفجأة لمحت سلحفاة .. بدت متوقفة .. كانت وجهتها الشط، قادمة من اللسان الهوري الذي قيل لي ان قليلا من الماء كان يستقر في منتصفه قبل ان يجف ويغدو اشبه بخيط نديّ رفيع يعاند حرارة الصيف وريح السموم .. الارض من حول السلحفاة مفطّرة .. تيقنت حين اقتربت منها اكثر من انها لم ولن تصل الشط! ..

لكن صدمتي الكبيرة كانت عندما انتبهت الى اكثر من سلحفاة صغيرة توقفت وراءها، بعضها سقط وهدأ تماما بين الشقوق او الفطور وبعضها احتضن الارض وغفا .. لقد تخيلت هذه السلاحف الصغيرة وهي تعاند مويجات الشط بعد ان سارت خلف امها على الارض الرطبة المعشوشبة .. وعدت صغيرا يدهشه ذلك المنظر المكتظ بالماء والحياة .. لكن صدى اغنية ريفية حزينة كان يأتيني من بعيد، لشاب كان عائدا لأهله من دون صيد .. رحت اتلفت في المكان الذي بدا لي موحشا ويذكي صمته الحزين اغفاءة رتل السلاحف الصغيرة وامهم التي خانتها المياه .. فاستذكرت غيظها القديم منها وقلت ربما ارادت المياه الانتقام من السلاحف فغادرت وتركتها تموت بغيظها .. او هذا ما اقنعت نفسي به وانا اغادر المكان .. وابكي ...!!!

........................................................................................................................
* الاراء الورادة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق