حرية الروح

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

التقوى هي التي تجعل من الإنسان ذا كرامة محمية ولائقة به، أما غير ذلك فإنه يكاد يكون ضربا من العبث، لأن الإنسان بلا تقوى تكون روحه بلا حرية، وبالتالي يكون عرضة للأهواء المنحرفة التي تأخذه نحو مزالق وانحرافات خطيرة، لذا عليه أن يحمي نفسه في الدنيا والآخرة من خلال التقوى قبل كل شيء...

(إن الحرية لا يمكن الحصول عليها بالمال، ولا بالسلطان، ولا بالعشيرة،

ولا بالمكانة الاجتماعية) الإمام الشيرازي

عنصران يتكون منهما الإنسان، هما الروح والجسد، المعنى و المادة، فالروح هي شيء غير ملموس ولا مرئي، لهذا لا تنتمي للمادة بأي حال من الأحوال، أما الجسد فهو شيء مادي له شكل مرئي ويمكن أن نلمسه ويمكن أن يحضر ويفنى، أما الروح فلا تموت، ومن هنا تأخذ قوتها وقدرتها على رفع الإنسان إلى أعلى المراتب في حال تمكن من استثمارها بالشكل الصحيح ليرتقي من خلالها على الشهوات بأنواعها.

بالطبع يمكن للإنسان أن يعتمد اعتمادا كبيرا على روحه إذا تحلّت بالحرية والقوة، ومن خلال ذلك يمكنه إلحاق الهزيمة بجميع الشهوات، ليست الجنسية فحسب، وإنما حبه للسلطة وتمسكه بها، أو تفاخره بنسبه وحسبهِ وعشيرته، فإذا كانت روحه تتمتع بالحرية سوف لا يعطي اهتماما لهذه الشهوات، ولا يتصاغر أمامها، بل يكون قويا متماسكا، ولا يسمح لنفسه الانخراط في مثل هذه الشهوات، أو الاستجابة لإغراء المال والسلطة وسواها من الشهوات.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الفصل الثاني):

(من المهم جدا على الإنسان أن يتمتع بحرية الروح وقوة النفس، فلا يقع ضحية المال أو الجاه أو الشهوة الجنسية أو السلطان أو الحسب أو النسب، فإن كل ذلك خلاف الحرية).

هنا يتطلب من الإنسان أن يُكْرِه نفسه ويلزمها بالصبر والابتعاد عن سطوة الشهوات، لأنه لا يستطيع أن يلبي شهواته ورغباته من خلال الإقبال عليها، والانخرط فيها، والاستسلام لها، بل عليه مقارعة هذه الشهوات والرغبات، والوقوف ضدها وعدم الانصياع لها، وبهذه الطريقة فقط يمكنه الفوز بهذه الشهوات من خلال صبره ومقارعته لرغباته وشهواته التي تحيط به من كل صوب، حيث تحاول استدراجه نحو فخ الشهوات المزروع له في كل مكان.

كيف تفوز بما تشتهي؟

وبهذا الأسلوب الذي يرفض فيه الإنسان الاستجابة للشهوات والرغبات، يمكنه تحقيق ما يصبو إليه، ولكن في حالة الانزلاق والانحراف والضعف الروحي وعدم التحلي بالحرية الروحية القوية، فإن الإنسان سوف يسقط في فخ شهواته، ولا يمكن له الخلاص منها، ولا يمكنه بعد هذا السقوط أن يفوز بما يشتهي وما يريد.

يقول الإمام الشيرازي:

(إذا وجد الإنسان نفسه خاضعا لتأثير أي أمر من تلك الأمور - الشهوات- وأشباهها فإنه لا يتمتع بحرية كاملة حيالها، كما قال عيسى بن مريم عليه السلام لأصحابه: إنكم لن تنالوا ما تريدون إلا بترك ما تشتهون وبصبركم على ما تكرهون(.

يكاد أن يكون الدين الإسلامي هو الوحيد الذي يحقق للإنسان حرية الروح، وبهذا تكون روحه الحرة قوية بحيث يمكنها أن تصد جميع الشهوات التي تُعرَض على الإنسان، ولهذا يجب على كل شخص أن يتحلى بالقدرة على مقارعة شهواته المختلفة، ومنها الشهوات الجنسية، والتعلق بالسلطة والأموال والنفوذ والسلطة.

هذه كلها رغبات وشهوات تغري الإنسان وتستدرجه إليها، حتى يسقط في أحضانها، وعندئذ لن تقوم له قائمة، وذلك بسبب ضعف الروح وعدم تمتعها بالحرية التي تجعل منها قوية جدا وقادرة على إلحاق الهزيمة بالشيطان، وبالتالي تهزم الشهوات أيضا، لأنها لم تعد تشكل شيئا ضروريا أمام الروح التي تتمتع بالحرية، أما الانصياع لها فسوف يقود الإنسان نحو الهلاك.

هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي حين يقول: 

(هذه الحرية من ميزات الدين الإسلامي، حيث يجعل الروح حراً أمام كل الشهوات. قال علي عليه السلام: إياكم وغلبة الشهوات على قلوبكم فإن بدايتها ملكة ونهايتها هلكة).

ويجب أن نعرف بأن الإنسان إذا استجاب لشهواته صاغرا، وسايرها ومشى في هذا الطريق المليء بالعثرات والاستعباد، فلابد أن يفهم بأنه أصبح عبدا لهذه الشهوات، وأنها من الممكن أن تسيطر عليه تماما، وتذهب به إلى مسالك لا يصح أن يدخل فيها الإنسان لأنها لا تليق به، وتؤكد بأنه أصبح ضعيف الروح.

منزلة التقاة العظيمة

بالإضافة إلى أن روحه لم تعد تتمتع بالحرية وهكذا فإنه يفقد تلك المنزلة التي يتحلى بها أولئك التقاة الذين لا يمكن للشهوة أو الرغبة أن تتغلب عليه، بل كل إنسان تقيّ سوف يكون قادرا على مقارعة ضعفه والتغلب على شهواته المختلفة.

الإمام الشيرازي يذكر لنا اقتباسا حول هذه النقطة: 

(قال أحد الفلاسفة لأحد الملوك: أنت عبد عبدي، ولما استفسره عن السر، قال: إن شهوتي عبدي وخاضعة لي وأنت عبد للشهوة فأنت عبد عبدي).

ولكن علينا أن نقرّ ونفهم بأن حرية الإنسان وتحلّيه بروح ذات حرية تامة وكرامة محفوظة، لا تتحقق له بسبب المال الذي يحصل عليه بأية طريقة كانت، فالأموال لا تحقق لصاحبها الشعور الحقيقي بالحرية، بل لا يشعر حتى بالكرامة وإنْ كانت أمواله كبيرة وكثيرة، بل تعود إلى تقواه والتزامه وتمسكه بحرية الروح التي تنقذه من كل الانحرافات.

السلطة أيضا تعجز عن منح الإنسان الحرية، فحتى لو كان الإنسان ذا سلطة قوية، وبأس شديد، فهذا لا يعني مطلقا بأنه يتحلى بالحرية، حتى العشيرة لا يمكنها أن تحقق الحرية للإنسان، وكذلك يعجز المركز الاجتماعي عن تحقيق ذلك، وإنما التقوى وحدها هي التي تصون حرية الإنسان وتحميه من التخبط والضعف والسقوط في فخ الشهوات.

هذا ما نقرأه في قول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:

(إن الحرية والكرامة لا يعود الحصول عليها للمال، ولا للسلطان، ولا للعشيرة، ولا للمكانة الاجتماعية وإنما للكرامة والتقوى، كما عن أبي عبد الله عليه السلام، يقول: ما نقل الله عز وجل عبدا من ذل المعاصي إلى عز التقوى إلا أغناه من غير مال، وأعزه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر).

وهكذا تكون النتائج بحسب الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فالتقوى هي السبيل الأقوى لتحقيق حرية الإنسان وصيانة كرامته، وبهذا المعنى فإنه كلما ازدادت تقوى الإنسان تزداد فرص حصوله على الكرامة اللائقة والمحمية، إذن فإن التقوى تساعد الروح على امتلاك الحرية التي ترتقي بها إلى أعلى المراتب.

والتقوى أيضا هي التي تجعل من الإنسان ذا كرامة محمية ولائقة به، أما غير ذلك فإنه يكاد يكون ضربا من العبث، لأن الإنسان بلا تقوى تكون روحه بلا حرية، وبالتالي يكون عرضة للأهواء المنحرفة التي تأخذه نحو مزالق وانحرافات خطيرة، لذا عليه أن يحمي نفسه في الدنيا والآخرة من خلال التقوى قبل كل شيء، لأنها تمنحه كل الحلول الصحيحة.

يقول الإمام الشيرازي:

(كلما زادت تقوى الإنسان زادت كرامته وكذلك يصح العكس، هذا بالنسبة إلى العقل والمنطق في الدنيا، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا تبقى قيمة إطلاقا إلا قيمة الحق والعدل وسائر الواقعيات).

الخلاصة لابد للإنسان أن يعمل على هدف واضح المعالم، وهو أن تكون روحه توأم الحرية، وأن تتحلى بها، لأن حرية الروح تمنح الإنسان فرصا ذهبية في الدنيا نحو النجاح، وتمهد له الطريق الصحيح للفوز بالآخرة، ولكن لابد أن تكون التقوى هي السبيل الأهم الذي يعطي للإنسان روحا حرة ترتقي به إلى مراتب عليا من القدرة في مواجهة الشهوات بكل أنواعها.

اضف تعليق