q
الحرية هي من صميم الدين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية، ونبذ الاستبداد السياسي والاستئثار بالرأي والقرار، فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم...

إن الحديث عن الأديان والحريات كالحديث عن الشيء ونقضه، فالأديان هي أوامر الآلهة، أو توجيهات الرُسول الصادرة إلى الموحدين والأتباع، والتي يتعين عليهم الالتزام بها -كما هي- لينالوا رضا الآلة والرسول، وإلا يكونون قد ارتكبوا معصية تستوجب العقوبة. والدين الإسلامي كالأديان الأخرى ليس فيه شيء من الحريات، فهو أيضا أوامر الله عزوجل إلى المسلمين والمؤمنين، جاءت في القرآن الكريم، المصدر الأساس للإسلام، ويتوجب على المؤمنين الالتزام بها، وإلا خرجوا عن طريق الإيمان، واستحقوا العقوبة؟! 

مثال ذلك أن الأديان جمعيها تدعو إلى عبودية الله، بل أن الأديان كلها قائمة على مفهوم أن الإنسان خُلق ليكون عبدا لله. قال الله تعالى (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) والعبودية نقيض الحرية. وتعني الحرية التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه، سواء كانت قيودا مادية أو معنوية. وبهذا لا يمكن الحديث عن الحريات بكل أنواعها في ظل أفكار وعقائد تؤمن أن الإنسان عبدا لله؟!!

والسؤال هنا، هل بالفعل الأديان السماوية -ومنها الدين الإسلامي- تخلو من الحريات التي تمثل جوهر حياة الإنسان الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ هل الموحدون والمسلمون والمؤمنون مسلوبو الإرادة والاختيار والقرار؟ وإذا كان ما يُطرح من أن الأديان هي أنظمة تعبدية إلزامية لكل من يعتقد بها، ليس أطروحات واقعية، ولا تتلمس روح تلك الأديان ومقاصدها فما هو السبب وراء هذه الأطروحات؟ وكيف تناول الإسلام مفهوم (الحريات) على المستوى العقدي والشخصي والاجتماعية والسياسي والاقتصادي، من خلال نظرية المرجع الديني الراحل المجدد السيد محمد الشيرازي؟

يمكن القول: إن العبودية هي الخضوع والانقياد، وهي نوعان، العبودية لله عز وجل، والعبودية لغيره. العبودية لله لا تتنافى مع الحرية إطلاقا، بل هي تضمن الحرية الكاملة غير المنقوصة للعباد. إن الله غني على الإطلاق، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته فليس ذلك ليستفيد منهم، بل يريد أن يجود عليهم. والعبادة لله عزوجل هي أن تكون حركات الإنسان وسكناته وحياته ومماته لله سبحانه وتعالى، فكل خطوة يخطوها يجب أن تكون استجابة لإرادة الله ومشيئته خالصة لله دون سواه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ‌)، انها الغاية التي بعث الله تعالى رسله جميعًا بها، ابتداء من آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام. كما قال نوح عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم من الرسل عليهم السلام لقومهم، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾.

وأما العبودية لغير الله، أي العبودية بين الناس بان يكون أحدهم سيدا والآخر عبدا، فإنها قطعا تتنافى مع الحرية والاختيار والقرار. لأن الناس يطلبون الرق والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش، أو أن يخدموهم في البيوت، فيقدموا لهم الطعام والشراب، وفي كلتا الحالين فإنما يعود نفعهم على مالكيهم، وهذا الأمر ناشئ عن احتياج الإنسان، إلا أن جميع هذه المسائل لا معنى لها في شأن الله، إذ ليس غنيا عن عباده فحسب، بل هو يضمن لعباده الرزق بلطفه وكرمه. ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه وتعالى. 

لقد بلغ أهل البيت (ع) مقام العبودية لله عز وجل لا يبلغ شأنهم في هذا أحد لأن معرفتهم بالله عز وجل هي الأجل والأعظم والأكثر من سائر الناس أجمعين، وقد بلغوا مقام التسليم لله تبارك وتعالى. فهم لا يخطون خطوة واحدة إلا لله وفى سبيل الله وامتثالًا لأمر الله عز وجل وحياتهم وأعمالهم وأقوالهم وسيرتهم تدور في فلك الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى. قيامهم وقعودهم سكوتهم وحديثهم وحتى زواجهم وتعاملهم وكسبهم وتجارتهم وحربهم وصلحهم سفرهم وحضرهم لباسهم ونظرتهم قولهم وصحوهم بكاؤهم وابتسامتهم وكل أعمالهم.

يقول الإمام علي بن طالب أمير المؤمنين (ع): (إلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك‌) وعنه (ع) أيضاً قال: (إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار).

 نعم؛ أن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه، فإنه هو الذي خلقة ورزقه، وكل أموره بيده، لا تصرفاً فقط، بل بقاءً أيضاً، حيث أن الإنسان باقٍ بإرادة الله تعالى، فإن أقل لحظة صرف الله فيها لطفه عن الإنسان يلحقه بالعدم. وكذلك أن الأصل في الإنسان في قبال الإنسان الآخر هو الحرية، إذ لا وجه لتسلط إنسانٍ على إنسان آخر، وهو مثله. 

حسب المجدد السيد محمد الشيرازي أن الأصل في الإنسان الحرية، إذ لا يحق لأي إنسان أن يسلب حرية وإرادة غيره أو يقيدها. فقد قال الامام علي عليه السلام: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، فالحرية الإسلامية حرية واسعة تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى، التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين الله تعالى وأحكامه من أجل الاستفادة منها. والحرية في الإسلام، لا تعرف لونا معينا، وإنما هي قيمة دينية مقدسة تشمل جميع الألوان والشعوب، حيث أن الناس سواسية كأسنان المشط، والدين الإسلامي يربي في نفوس المؤمنين، قوة العقل ويبلورها حتى تتميز عن الهوى ودواعي المصلحة، ويبين المقاييس والمعايير الثابتة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرة الإنسان من الإيمان بالحق والعدالة والكرامة والحرية. 

وعدّ السيد الشيرازي (رحمه الله) أن الحرية هي من صميم الدين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية، ونبذ الاستبداد السياسي والاستئثار بالرأي والقرار، فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وإنما قام على الحرية والشورى والتسامح والمياسرة واللطف وفضائل الأخلاق. 

ومن هنا، يرى المجدد الشيرازي أن الحرية أساس التقدم، إذ لا يمكن أن يتقدم المجتمع بدون حرية، فالحرية من الشرائط الضرورية للتقدم والبناء الحضاري، وهذه الحرية لا تعني الفوضى والتعدي على حقوق الآخرين، وإنما لهذه الحرية حدود وشروط، وهي: ألا توجب ضرراَ على الغير (فردا أو مجتمعا). وألا تكون كذبا أو تجاوزا على الغير. وألا تكون نقداَ للأخلاق العامة أو قيم الدين، أو تحريضا للمواطنين على ارتكاب الأعمال المخالفة للأخلاق الإسلامية. والجهة التي تحكم بأن العمل الفلاني ينسجم ومبادئ الحرية أولا، هي السلطة القضائية، بما تتمتع به من استقلال ونزاهة. 

وعلى هذا، فمن اللازم إطلاق الحريات، وتوفير شرائطها من ناحية. وتحديدها بحدود الصلاح والحكمة، من ناحية أخرى... وهذا هو شأن القيادة الصحيحة للفرد والجماعة، وقد لاحظ الإسلام الناحيتين، ووضع الخطط العامة، للسير بالبشرية نحو التقدم والرقي، بدقة وإتقان... 

نخلص مما تقدم ما يأتي:

1- إن الأصل في العلاقة بين الله والإنسان هي العبودية لله عز وجل، لأنه مصدر الخير كله للإنسان ابتداء من حياته ومعاشه حتى موته وحسابه، فهو أوجب الجنة لعباده المسلمين والطائعين، بينما الأصل في علاقة الإنسان بالإنسان هي الحرية وليس العبودية، لأن حرية الإنسان في مقابل الإنسان تضمن له العيش الكريم والحياة الآمنة، على خلافة العبودية التي تغرق الإنسان بالذل والخنوع والخوف. 

2- الحرية في الإسلام هي التحرر من الإكراه والضغط والأسر والظلم، وهذا المبدأ يمنح الإنسان الحق في التفكير واتخاذ ما يراه، واختيار ما يناسب رغباته المشروعة مع الالتزام وتحمل المسؤولية. 

3- ينطلق الإمام الشيرازي من فهمه الإسلامي للحرية، من خلال قاعدة فطرية رصينة وأصيلة، في جوهر خلق الإنسان، وهي (الإنسان يولد حرا ويختار طريقه بنفسه) من خلال الحق الممنوح له من خالقه، ومن خلال الوعي بالحرية وممارستها. ولهذا الإنسان (كامل الحرية في إطار الدين والعقل من حيث التصرف في نفسه وماله). 

4- حرية التصرف تلك، التي يمنحها الإسلام للإنسان، (لا تعني التعدي على حقوق الآخرين والمساس بكرامتهم بقول أو فعل)، لان ذلك يتناقض مع الصورة التي ينشدها الإسلام لإفراد مجتمعه، وهو (مجتمع حر وطاهر، الكل فيه آمن، لا يخشى من أحد على أحد). وهي أيضا (حرية إنسانية، ترفع من شأن الإنسان وتوصله لمصاف الملائكة). 

5. إن الحرية أساس التقدم، إذ لا يمكن أن يتقدم المجتمع بدون حرية، فالحرية من الشرائط الضرورية للتقدم والبناء الحضاري.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

[email protected]

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق