q
المجدد الشيرازي اقتحم الحياة وحدَّد هدفه في الدفاع عن الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، ونصرة المظلومين، ونشر العلم وإيقاظ الناس من غفلتهم، فشخص اسمه في ذروة التأريخ وتناقلت الأجيال اسمه ودوره وفكره أكثر من تناقلهم أخبار الفتن والاضطرابات السياسية وغيرها من الأحداث في وقته، لأنه سعى إلى النهضة بمجتمعه وبعثه من جديد في ملامح تجديدية ووصله بالعصور المزدهرة وأمده بالعصور اللاحقة من خلال دوره العظيم فيه فكان خير من يمثل عصره في النهضة الفكرية والعلمية والثورة التجديدية في المجتمع...

في فترة ضاجّة بالاضطرابات، صاخبة بالأحداث والفتن، وفي جوٍّ مشحون بالتوترات، مليء بالنزاعات والأهواء، تحيط به عوامل الانحلال والانقسام والفوضى السياسية والاجتماعية، كان وجود آية الله العظمى الإمام المجدِّد الميرزا محمد حسن الشيرازي يمثل مركز توازن للحياة وإعادتها إلى طبيعتها وإنعاش النفوس الضائعة ببوارق الأمل... كان بحق رجل المرحلة وكأنه خُلق لهذا الزمان ليكون بلسماً لجراح الناس وابتسامة على شفاه المظلومين.

كان دوره في عصره أشبه بمعجزة، حيث تحققت على يديه من المنجزات العظيمة ما أبهرت العقول وكُسرت بفتواه قيود الجمود، خلافاً لما يراه أكثر الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع من أن العصور التي تكثر فيها الاضطرابات السياسية والفتن الداخلية تقطع الطرق أمام العالم وتشلّ حركة الفكر والعلم وتسدّ طريق الفكر والمعرفة ويصبح العالم في معزل عن الحياة مبتعداً عنها.

غير أن المجدد الشيرازي اقتحم الحياة وحدَّد هدفه في الدفاع عن الإسلام والحفاظ على وحدة المسلمين، ونصرة المظلومين، ونشر العلم وإيقاظ الناس من غفلتهم، فشخص اسمه في ذروة التأريخ وتناقلت الأجيال اسمه ودوره وفكره أكثر من تناقلهم أخبار الفتن والاضطرابات السياسية وغيرها من الأحداث في وقته، لأنه سعى إلى النهضة بمجتمعه وبعثه من جديد في ملامح تجديدية ووصله بالعصور المزدهرة وأمده بالعصور اللاحقة من خلال دوره العظيم فيه فكان خير من يمثل عصره في النهضة الفكرية والعلمية والثورة التجديدية في المجتمع.

المسألة الدخانية

كان من أبرز ما واجهه المجدِّد الشيرازي من تحدِّيات تهدِّد الواقع الإسلامي بالخطر وتنذر شؤون المسلمين بالتفرقة والفقر هي قضية (التنباك) المشهورة أو (المسألة الدخانية) التي كان له فيها موقف عظيم في سبيل إصلاح واقع المسلمين وبذل جهوداً كبيرة من أجل وحدتهم والتصدِّي لأعدائهم فلم تمنعه أعباء المرجعية والقيام بدوره العلمي والديني من الوقوف بوجه المستعمرين الذين يريدون سرقة بلاد الإسلام ونشر الفساد والإفساد وزرع الفتن.

وفي الحقيقة لم تكن قضية التنباك قضية امتياز فقط كما جاء في بنودها، بل كانت أكبر من ذلك بكثير..، كانت قضية استعمار بمعنى الكلمة، ومؤامرة كبيرة وخطرة حِيكت خيوطها بإحكام للاستيلاء على خيرات البلاد ومن ثم الاستيلاء عليها ككل، ولا يمكن أن نتصوَّر حالة الضعف والوهن ومن ثم القضاء على الإسلام في إيران لولا وقفة الميرزا المجدِّد الشيرازي بوجه أصحاب هذه المؤامرة الدنيئة والتصدِّي لهم وكشف مخططاتهم.

ذاع صيت معاهدة امتياز إنتاج التبغ في إيران في البلدان وكثر فيها الحديث وقد ذكر هذه المسألة مفصّلة الدكتور المرحوم حسين علي محفوظ الذي ترجمها عن نسخة مخطوطة باللغة الفارسية عند الميرزا محمد الطهراني في سامراء ودوَّنها كاملة فكانت بحجم كتاب نورد منه ما يفي بالغرض:

الزيارة المشؤومة

يتحدّث الكتاب في البداية عن استيلاء دول الأجانب على بلاد إيران وسلبها خيراتها والتربّص بها من أجل إضعافها اقتصادياً فسرقوا كثيراً من امتيازاتها فتعطلت جرّاء ذلك كثير من الصناعات التي آلت إلى الانقراض وآل أصحابها إلى الفقر، حتى يصل إلى زيارة السلطان ناصر الدين شاه خسرو إلى لندن في سنة (1306هـ/1891م)، وهي بداية قصة (التنباك) حيث استقبلوه استقبالاً عظيماً، ولكنه لم يعرف الغرض من هذه الحفاوة به، فقد كان غافلاً عن نواياهم ومقاصدهم وما يضمرون له من مؤامرة، ثم عقدوا له حفلاً كبيراً تكريماً له، وفيه أظهروا ما يريدون منه..

المعاهدة الجائرة

عرضوا عليه شراء امتياز التبغ الإيراني لمدة خمسين سنة وشرطوا عليه أحد عشر شرطاً تضمّنت كثيراً من التعسّف والظلم والإجحاف بحق الشعب الإيراني.. وملخص هذه الشروط الأحد عشر هو: أن يرسل الإنكليز خمسة عشر ألف ليرة إلى خزانة السلطان كل سنة، ويؤدَّى هذا المبلغ كاملاً خلال خمسة أشهر مقابل إجبار الحكومة الإيرانية مزارعي التبغ في إيران كلها على إعطاء التعهّدات للإنكليز بأن كل ما يزرعونه من التتن والتنباك لا يجوز لهم بيعه وشراؤه وتضمينه وحمله ونقله مطلقاً إلا بإذن أصحاب الامتياز وهم الإنكليز الذين يحق لهم وحدهم شراء جميع الدخان الموجود في جميع مدن إيران ولا يحق للمزارع رفض البيع، كما ضيّق أصحاب الامتياز الخناق على المزارعين في شروطهم بإصدار دفتر إجازة خاصة من أصحاب الامتياز وفيه تتم عملية البيع حصراً، ووضعوا مأمورين لتفتيش دفاتر الإجازة كل رأس سنة، ومن يخالف هذه الأوامر فسيكون عقابه شديداً، ولأجل الاستحواذ على محصول التبغ بأسرع وقت ممكن فقد أخذ الإنكليز تعهّداً من السلطان بإرسال آلات ومكائن إصلاح وحصاد التتن، وهذه الآلات غير خاضعة للرسوم الكمركية ومصارف العشارين، كما كان من شروط المعاهدة انتقال حقوق أصحاب الامتياز إلى من يشاؤون كائناً من كان، أما في الشرط الأخير فتشمُّ منه رائحة التوسّع والاحتلال من قريب، فقد تضمّن جواز شراء الأراضي للمخازن الدخانية..! ولا يخفى ما يحمله هذا الشرط من خطر يهدِّد البلاد كلها، كما لا يخفى وضع المبلغ في الشرط الأول لاستمالة السلطان للموافقة ولترغيبه في عقد المعاهدة خاصة إنه عُرف بميله للإسراف وتقليد الغرب، وقد أحكموا شروط المعاهدة إحكاماً وجعلوا السلطان يُسارع في التوقيع عليها والعمل بموجبها مباشرة، حيث وضعوا فيها شرطاً يضمن لهم ذلك وهو أنه إذا لم يتم العمل بهذه المعاهدة خلال سنة من تاريخ كتابتها بطلت الشروط وبطل الامتياز، وعليه فإنه يجب الاسراع بالعمل بها وكتبوا وثيقة الامتياز بصورتين ختمهما السلطان بخاتمه فأحكم الانكليز حبك المؤامرة التي ظنوا بأنها لا تنقض أبداً

شرارة الإستعمار

ما إن عاد السلطان ناصر الدين خسرو إلى إيران حتى جاءت بعده مباشرة هيأة عُرفت باسم (الكمپانية) وهي التي تتولى العمل بشروط المعاهدة، وأحضروا معهم المكائن والآلات والأدوات والمعدات للبدء بالعمل، وباشروا بشراء الأراضي وبناء المخازن، فانتشر الخبر في إيران كلها انتشار النار في الهشيم، وضجّ الناس من هذه المعاهدة الظالمة وهذا الامتياز الذي يبخس حقهم ويقضي عليهم بالفقر، وكثرت الشكاوى ونشروا هذه الشكاوى في الصحف، ومَّما جاء في أقوالهم عن الغبن والاجحاف الذي يلحق بهم جرّاء هذه المعاهدة:

(أن دخانية أصفهان وحدها تبلغ إيراداتها عشرين ألف ليرة في السنة)!!

فأعلن المزارعون تذمُّرهم وعمَّت الفوضى أرجاء البلاد، ولما سمع الإنكليز رفض الشعب العمل بهذه المعاهدة وكثرة اللغط والاضطراب أرسلوا تعزيزات لهيأتهم لينفذوا مآرب أخرى، حيث دخلت طهران جماعة كثيرة من الأجانب من الرجال والنساء وشرعوا بنشر الفواحش والموبقات وشرب الخمر وفتحوا مدارس تبشيرية لدعوة الناس إلى الدين المسيحي ورغبوهم بالأموال وخاصة الفقراء منهم حيث كان المبشّرون (البروتستانت) ينفقون أموالاً طائلة في المستشفيات على المرضى والفقراء والمساكين ومن ثم ضمِّهم إلى شراكهم ولضمان سكوت الأمراء والحكام والولاة على أعمالهم فقد أغروهم بالأموال فكان ثمن سكوتهم هو أربعمائة ألف تومان..!

وسيطروا على البلاد والعباد وازدادت قوتهم يوماً بعد يوم فاشتروا أرضا قرب حديقة الإيلخاني بمبلغ كبير وأنفقوا على بنائها أموالاً طائلة وجعلوا لها سوراً وبنوا حصناً ذا أسوار عالية نصبوا على أبراجها المدافع واتخذوه كـ (مستعمرة) ولما احكموا سيطرتهم على طهران أرسلوا وفداً إلى شيراز للسيطرة عليها..

شيراز

وصلت أخبار قدوم الوفد إلى شيراز، فاجتمع أشرافها ووجهاؤها عند علمائهم، واتفقت كلمتهم على استنكار أعمال الهيأة، وضمّ العلماء أصواتهم إلى أصوات المدينة واتّحدت كلمتهم ضد الهيأة فخاف أعضاء الوفد دخول شيراز خوفاً من الأهالي فأخبروا السلطان الذي أمر بنفي السيد علي أكبر الشيرازي كبير علماء شيراز وتسييره إلى (أبو شهر) خفية، خوفاً من ردّة فعل لا يحمد عقباها..، فلما علم أهل شيراز بذلك انقلبت المدينة رأساً على عقب وخرج الناس إلى الشوارع وهم يستنكرون بشدة هذا العمل الشائن، واضطربت الأمور وعُطلت الأسواق واجتمع الناس حول مرقد السيد أحمد بن موسى بن جعفر (عليهم السلام) المعروف هناك بـ (شاه جراغ)، وضجّوا إليه فخافت الحكومة من اندلاع ثورة فأرسلت فرقة من الجنود لتفريق المتظاهرين بالسلاح فقتل عدة أشخاص وجرح آخرون..، ولكن التظاهرات لم تتوقف بل ازدادت ضراوة! خاصة بعد أن استقبلت الحكومة المحلية في شيراز أعضاء وفد هيأة الامتياز بالاحترام والتبجيل..،

لقد غُلبت المدينة على أمرها وقُهرت من قِبَلِ حاكمها الذي أرغمها على أمر سيؤدي إلى هلاكها فلابد من وسيلة لإنقاذ المدينة، ولاحت تباشير الأمل وارتسمت اشراقته على الوجوه حين سمع أهل شيراز بمسير السيد علي أكبر مع جماعة من العلماء من (أبو شهر) إلى (سامراء) لطرح مأساة المدينة على الإمام الأكبر آية الله العظمى السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي إمام الشيعة في العالم.

آذربيجان

كانت هذه المدينة هي الهدف الثالث لأصحاب الامتياز بعد طهران وشيراز، فأرسلوا الهيأة إليها لتكرار تجربة المدينتين السابقتين عليها، فلما سمع الميرزا جواد آقا كبير علماء آذربيجان بقدوم الهيأة أمر بمنعهم من دخولها، وأصرَّ على ذلك مهما حصل، ووصل خبر هذا الأمر إلى السلطان فراسل الميرزا جواد طالباً منه العدول عن رأيه، لكن طلب السلطان جوبه بالرفض الشديد من قبل الميرزا جواد آقا وراسله السلطان ثانية وثالثة ورابعة وكثرت محاولات السلطان لثني هذا العالم الغيور الشجاع عن عزمه لكن كل هذه المحاولات كانت تبوء بالفشل أمام صلابة وثبات جواد آقا، وأخيراً لم يرَ السلطان بُدَّاً من استعمال العنف فأدخل هيأة الامتياز إلى المدينة بالقوة وقهر أهلها واضطهد عالمها جواد آقا، وباشر أصحاب الامتياز بشراء الأراضي والمناطق الرئيسية في المدينة وبنوا عليها قصوراً شاهقة وصروحاً ضخمة والناس تنظر إليهم ولا حول لهم ولا قوة على منعهم، فعمّ السخط والحزن آذربيجان ودبَّ الرعب بقية مدن إيران خوفاً من أن يصل الدور إليها وتكرار حالة المدن الثلاث عليها، فلاذ الناس في بقية المدن بعلمائهم وطلبوا منهم مراسلة السلطان ونقل غضب الناس واحتجاجهم من هذه المعاهدة الفاسدة التي إن طبِّقت عليهم فستؤدي بهم إلى الفقر والجوع والهلاك، فاستجاب العلماء لمطالب الناس وراسلوا السلطان بذلك لكن كل هذه المراسلات ذهبت أدراج الرياح فقد تجاهلها السلطان فلما رأوا أن رسائلهم ونداءاتهم ذهبت أدراج الرياح اجتمعوا وقرَّروا إرسال طلبهم إلى سامراء وعرضه على الإمام المجدِّد الميرزا محمد حسن الشيرازي.

في سامراء

وصل السيد علي أكبر الشيرازي مع مجموعة من علماء شيراز إلى سامراء قادمين من (أبو شهر) بعد نفيهم إليها من قبل السلطان فاستقبلهم آية الله المجدِّد الشيرازي أحسن استقبال وأمر بضيافتهم والحفاوة بهم بما (لا مزيد عليه) من التبجيل والتعظيم، فعرضوا عليه المأساة التي حلت بهم وبمدينتهم من قبل أصحاب الامتياز والذين جرّوا الويلات على المدن الأخرى أيضاً، وسألوه إنقاذهم مما هم عليه قبل أن يستفحل الأمر وتتكرر حالة الاستعمار إلى جميع مدن إيران، وأثناء إقامتهم في سامراء كانت الرسائل تتوالى على المُجدِّد الشيرازي من علماء ووجهاء وأشراف المدن الإيرانية يطلبون منه إنقاذهم مما حلّ بهم ودرء الخطر عنهم، فاستدعى الميرزا الشيرازي عدداً من زرّاع التنباك وعدداً من تجّاره وحتى الذين يتعاطون تجارته في العراق، وطلب رأيهم في هذا الامتياز فقالوا له: إن هذا الامتياز يضرّ بالمزارعين ويسبب لهم خسائر فادحة ويؤدي بهم إلى الفقر المدقع، وتأكد له خسارة هذه الصفقة فعزم على وضع حد لهذا الظلم ونصرة المظلومين وردِّ كيد الظالم إلى نحره.

رسالة المجدد

بدأ المجدِّد الشيرازي دوره في هذه القضية بإرسال رسالة إلى السلطان بيّن فيها مفاسد هذا الامتياز وضرره على الشعب، وأوضح له كل ما يجب إيضاحه وما يستوجب شرحه، فأجابه السلطان بأنه لا يستطيع أن ينقض المعاهدة مبرراً ذلك بأمور لم يتمّ النظر فيها من قبله إلى الشعب وما ستجلبه هذه المعاهدة من مآسٍ ومصائب، بل النظر إليها وفق مراعاة مكانة العرش والسلطة وما تستفيده من أموال تدخل في خزينتها من هذه المعاهدة فقط، ومن هذه المبرِّرات:

إن إيران يجب أن تظهر المودة مع دولة قوية، وأن خراجها الذي يعرف باسم الماليات لا يفي بمصالح الحكومة والسلطان، وإن في هذه المعاهدة مصلحة المملكة، وأنه لا يجوز للملك إذا ختم بخاتمه على أمر أن ينقضه خاصة إذا كانت معاهدة بهذا الحجم ومع ((دولة قوية)) لا يستطيع السلطان الوقوف بوجهها، وأنه مع فرض فسخ المعاهدة فإن السلطان لا يستطيع دفع مصاريف أصحاب الامتياز التي أنفقوها على عملهم في إيران.

أرسل السلطان بهذه الرسالة إلى قنصله في بغداد وأمره أن يذهب بها إلى سامراء وأن يبذل جهده في إقناع المجدد الشيرازي بهذه المبرِّرات وإرضائه، ففعل القنصل، لكن المجدِّد رفض كل هذه المبرِّرات الواهية وأجاب عن كل واحد منها إجابة شافية وبين ضعفها وأوضح المفاسد الكثيرة التي تنتظر الشعب والأضرار التي ستلحق به إن بقيت هذه المعاهدة على حالها وأرسلها برسالة مع القنصل إلى الملك وختم الرسالة بالقول:

(إن عجزت الدولة عن الجواب فلسنا بعاجزين وإن لم تقدر أن تجيب الخصم وتطالب بحقوق الملة فخلّ بيننا وبينه)

على فوّهة بركان

في أثناء هذه المراسلات بين الإمام الشيرازي والسلطان سادت الفوضى الأوضاع في إيران كلها ووقعت كثير من الحوادث والصراعات بين المزارعين والمتزلفين للسلطة ولأصحاب الامتياز من السماسرة مما زاد في تأجيج الوضع، ومن هذه الحوادث أن رئيس أصحاب الامتياز أمر بجمع التنباك الموجود في جميع مدن إيران وشرائه بثمن بخس فثارت ثائرة المزارعين وكان لبعض التجار إثنا عشر ألف كيس من التنباك فجاؤوا إليه لشرائها وعرضوا عليه مبلغاً زهيداً فأمهلهم إلى اليوم الثاني، ولكنه ما إن خرج أصحاب الامتياز من عنده، حتى أخرج كل ما عنده من أكياس التنباك إلى أرض خالية وصبَّ عليها النفط وأحرقها فلما جاؤوا في اليوم الثاني أخذهم إلى تلك الأرض وأراهم الرماد وقال لهم: بعتها بأغلى ثمن..، بعتها غيرة للدين فافعلوا الآن ما شئتم فاستشاطوا غضباً وضجَّ المزارعون وهم يرون محصولهم الذي بذلوا جهوداً مضنية من أجله وكلفهم عملاً شاقاً يُباع بأثمانٍ حقيرة.

أصفهان

ضجَّ أهالي أصفهان من هذه المعاملة والامتهان وأنفوا أن يخضعوا لهذا الذلّ، فاتفقوا على الامتناع عن استعمال التنباك وتداوله بالبيع والشراء ووافقهم العلماء على ذلك، ولما سمع بذلك أصحاب الامتياز هدَّدُوهم بضربهم بالمدافع وتهديم بيوتهم عليهم فلم يبالٍ علماء أصفهان بهذا التهديد حميّة وغيرة على دينهم، ولكن السلطان اتخذ ضدّهم إجراءً آخر وعقوبة صارمة وهي النفي فنُفي من بقيَ مُصرَّاً على موقفه من عدم تداول التنباك وخرجوا خفية إلى سامراء ليستغيثوا بزعيم الشيعة الأوحد آية الله العظمى المجدد الشيرازي.

فتوى الإستقلال

نستطيع أن نطلق هذه الصفة على هذه الفتوى العظيمة التي ردّت كيد أصحاب الامتياز إلى نحورهم فقد كانوا مستعمرين بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى بل أشدّ خطراً من المستعمر بالسلاح والقوة، لأن كل استعمار يُجابه من قبل الشعب بالتصدّي والثورة وتتحد كلمته ضده، أما هؤلاء فقد دخلوا من تحت عباءة السلطان بعد أن ضمنوا وقوفه إلى جانبهم وتعهّد بحمايتهم وسهّل دخولهم إلى بلاده وأجاز لهم كل ما يعملون..! ومن المحتمل جداً بل من المؤكد أن هذه المعاهدة ستتجدد أو ستوضع عليها شروط أخرى وغير بعيد أنه ستتبعها معاهدات أخرى لسرقة خيرات البلاد .. فكان لا بد من وقفة ولا بد من رجل..

تزاحمت الوفود من اللائذين والمستغيثين والمستجيرين بالمجدد الشيرازي، وانهالت عليه الرسائل من كل حدب وصوب يرجوه أصحابها فيها تخليص الشعب مما حل به من مأساة، ولما رأى الشيرازي أن السلطان لم يمنع أصحاب الامتياز من أعمالهم الظالمة بحق الشعب أصدر فتواه التي دوّى صداها في العالم كله بتحريم التنباك والتتن..! واضطربت الحكومة الإيرانية أمام هذه الفتوى التي قصمت ظهور أصحاب الامتياز، كانت فتوى صارمة لا تقبل التأويل والمناورة والمداهنة فجاء نصها: (بسم الله الرحمن الرحيم.. استعمال التنباك والتتن حرام بأي نحو كان ومن استعمله كمن حارب الإمام (عجل الله فرجه) حرّره محمد حسن الحسيني الشيرازي) وأرسل صورة الفتوى إلى كبير علماء طهران الحاج الميرزا محمد حسن الأشتياني.

الحفلة

بدأت جهود عمل أصحاب الامتياز تؤتي ثمارها فقد استحوذوا على جميع ما أنتجته إيران من التتن والتنباك وراحوا يمنّون النفس بالاستحواذ على جميع البلاد في المستقبل القريب فأقاموا حفلة كبيرة في آخر ربيع الثاني سنة (1309هـ/1894م) في دائرة الكمپاني حضرها عدد كبير من رجالهم ونسائهم ودعوا إليها القنصل الروسي والقنصل الألماني والقنصل الإيطالي والقنصل الأمريكي والقنصل التركي وغيرهم من السفراء والمأمورين والأمراء والحكام وبعض التجار الإيرانيين الخونة ممن تعاون معهم وكان الفرح والسرور يعمّ قاعة الحفل والصخب والرقص والخمر والضحك يملأ المكان فأيّ نصر أعظم من هذا النصر حين تستولي على بلاد بأكملها وتستعمرها وتسلب خيراتها دون أن تخسر قطرة دم واحدة..!!

الصاعقة

لم يعرف أصحاب الامتياز ما تحمله لهم تباشير الصباح الأولى..، كان الجميع يُمنّي نفسه بما سيحصل عليه من خيرات هذه البلاد..، لكنهم تفاجأوا بسماع ما لم يتوقعوه أبداً، وخُيِّل إليهم أنهم في كابوس لن يستيقظوا منه، وبدأت أحلامهم الوردية يسودها الظلام، وما بنوه في مخيلتهم يتهاوى أمامهم، ووُجم الجميع وتعابير الانكسار والانهزام تلوح على وجوههم، أصحيح أمر هذه الفتوى؟!! هل بعد كل هذه المخططات والتكاليف والمشقة والعناء بالقدوم من بريطانيا إلى إيران واستعمال الدهاء والمكر وممارسة الضغوط على الشعب يأتي رجل واحد يُفشل مشروعهم!! أيمكن هذا..! رجل واحد ينقاد له شعب كامل وله من الطاعة عليهم ما لا يملكه السلطان نفسه على شعبه..!!! لا.. لا يمكن السكوت على هذا الرجل وهذه الفتوى.. لا بد من إبطالها ونقضها مهما كلف الأمر.

الفرحة تعم الشعب

بقدر الحزن والأسى والانكسار والغضب وعلامات الفشل والاحباط التي علت وجوه أصحاب الامتياز من خبر الفتوى، فقد عمَّت الفرحة الشعب الإيراني كله ولم يصدِّقوا أنّهم تخلّصوا من هذا الوحش المستعمر فخرجوا إلى الشوارع وهم فرحون ومسرورون يهنئ بعضهم بعضاً، وكلُّ يقول لصاحبه وهو لا يكاد يصدق: أصحيح هذا النبأ العظيم.. ؟ واجتمعوا في طهران حول دار الأشتياني وازدحموا لمعرفة صحة خبر الفتوى التي ستنتشلهم من الهاوية والانزلاق والمستقبل المظلم، وقد سبق الخبر وصول الفتوى لأهميته في حياة الإيرانيين وتناقلته الألسن مما أثار حفيظة الحكام فعاقبوا كل من تكلم بأمر الفتوى واتهموه بالكذب، وفيما كان الناس يترقبون حول دار الأشتياني إذ دخل البريد بالفتوى وسلمها للأشتياني الذي خرج سريعاً وقرأها على جميع الناس وتهللت أسارير الحاضرين وهم يسمعون هذه الفتوى التي لا جدال فيها والتي مفادها أن من يستعمل أو يتداول التنباك فحكمه حكم من حارب الإمام الحجة بن الحسن (صلوات الله عليه).

لم تمض ساعات قليلة على قراءة الأشتياني لفتوى الشيرازي حتى استنسخوا منها أكثر من مائة ألف نسخة وقرأوها على المنابر في المساجد وفي المحافل ولم يكن حديث في إيران سوى حديث الفتوى وانتشرت في القرى البعيدة فثارت ثائرة السلطان والسلطات التي أمرت بأخذ نسخ الفتوى من الناس وجمعها من البلاد، لكنها فشلت في ذلك لكثرتها وتحرَّت السلطة عن النسخة الأصلية للفتوى فعرفت أنّها بحوزة الأشتياني الذي احتفظ بها وكان يخشى إظهارها لأهميتها القصوى، ولم تجرؤ السلطة على مداهمة دار الأشتياني خوفاً من حدوث ثورة عارمة ضدها فتزيد الطين بلة عليها، ورأت أن تستفسر بنفسها عن صحة صدور الفتوى فأرسلت عدداً من الرسائل إلى بعض العلماء في سامراء منهم الميرزا حسين النوري والشيخ الحاج أغا النوري وغيرهما تستفسر فيها عن الفتوى، فأجابوا بصحة صدروها من المرجع الكبير الإمام الشيرازي

آثار الفتوى

لم يعرف التاريخ فتوى كان لها من الأثر الكبير في المجتمع كهذه الفتوى، فقد كان لها مفعول السحر في النفوس، فما إن سمع بها الناس كلهم وعلى جميع مستوياتهم حتى سعوا إلى نشرها وتطبيقها حرفياً، فكل من كان عنده شيء من التنباك أحرقه وكسر غليانه، كما كسر أصحاب المقاهي جميع ما عندهم من أدوات الغليان حتى وإن كانت من أثمن ما تكون وأنفسها، وتوقف أصحاب المعامل والصيّاغ والكوَّاز وغيرهم عن صنع الغليان، وامتنع التجار عن الاتجار بها، وقد أثرت هذه الفتوى في جميع شرائح المجتمع وحتى في الفسّاق المتجاهرين بالفسق الذين لا يصومون شهر رمضان ويشربون الخمر فإنهم امتنعوا عن استعمال وتعاطي الدخان فقيل لهم: كيف تشربون الخمر وتفطرون في شهر رمضان ولا تشربون التنباك فقالوا: إن شرب الخمر له توبة ومحاربة الإمام علي (عليه السلام) ليس لها توبة، فالذي يشرب التنباك كمن قاتل الإمام (عليه السلام)، ومن عجيب أثر هذه الفتوى أن رجلاً نشر التنباك في السطح لكي يجف قبل أن يسمع بالفتوى، فلما سمعها أراد أن يجمعه في كيس ويخرجه من داره ليحرقه فجاء إلى بعض العلماء وسأله هل يعد جمعه لإحراقه استعمالاً يحرم عليه أم لا!!، ومن عجيب أثر هذه الفتوى أيضاً أن رجلاً أعطى صاحب دكان رأس غليان ليصلحه قبل سماعه بالفتوى ولما انتشرت الفتوى جاء ليأخذه فرأى أن صاحب الدكان قد عطله.

الفتوى تدخل قصر الملك

لم يبق في إيران من لم يعمل بهذه الفتوى وسرى حكمها حتى على سكان قصر السلطان الذين آثروا طاعة الله على طاعته، وعصيانه على عصيان الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والشيرازي هو ممثل الشريعة الغرّاء، فنُفّذت هذه الفتوى على يد خواتين القصر وجواريه اللواتي كسرن كل ما في القصر من غليان، وأحرقنَ كل ما فيه من تنباك وتتن غير آبهات بما سيؤول إليه عاقبة عملهن هذا.

حتى اليهود والمجوس

سرت هذه الفتوى مسرى الدم في الجسم والهواء في البلاد، ولم يكن في ذهن الناس من أمور كانوا أكثر حرصاً عليها منها، ولم يكن كذلك فتوى نُفذت بحذافيرها أسرع وأحكم منها وفي جميع شرائح المجتمع وطبقاته، الكبير والصغير.. الرجال والنساء.. المؤمن والمنافق.. المسلم والكافر، وكانوا يشعرون بالفخر والاعتزاز وهم يطبقون أوامر الشريعة الغرّاء، وقد انضمّ للعمل بهذه الفتوى مع المسلمين اليهود والمجوس وسائر الفرق والمذاهب والأديان الأخرى وافتخروا بالعمل بها وقالوا: (إن هذا حكم محترم يجب اتباعه ولا يجوز التخلف عنه، فمن تخلف عنه فهو بعيد عن الشرف)!

وصف الفتوى

يصف العلامة الميرزا محمد الطهراني هذه الفتوى في كتابه الذي ترجمه الدكتور حسين علي محفوظ بالقول: (ولا يدلنا التاريخ منذ خلق الله الدنيا على أن حكماً نُفذ بسرعة في جميع طبقات الناس، كبيراً كان أو صغيراً، رجالاً أو نساءً، مؤمناً أو منافقاً، مسلماً أو كافراً، عالياً كان أو دانياً، مثل هذا الحكم، فما إن انتشرت في العالم الإسلامي حرمة التنباك حتى امتنع المسلمون عن شربه بسرعة الطوع والرغبة، ويرون ذلك فخراً لأنفسهم، وقد دلنا التاريخ من أحوال الأنبياء (عليهم السلام) أنهم من بعد سنين متطاولة من تبليغهم أحكام الله، وتحمّلهم الأذى في ذلك، يتبعهم شرذمة قليلة، وعظمة نفوذ هذا الحكم الشريف بلغت درجة لا يمكن وصفها، لأننا نرى بالعيان ونسمع بالآذان إنه قلّ ما يوجد اتفاق جميع العلماء في جميع البلدان في حكم يتعلق بالمصلحة العامة، وهذا الحكم الشريف لما صدر من مصدره خضع له جميع العلماء واستقبلوه بكل ارتياح وقبول، وانقادوا إليه بكل ابتهاج وسرور، ولعمري إن هذا من النوادر الغريبة التي قلّ ما تتفق في عصر من العصور كما يدلنا سير التواريخ لا سيما تواريخ العظماء المصلحين).

موقف أصحاب الامتياز

انقلبت موازين القوى تماماً بين ليلة وضحاها، لقد أقام اصحاب الامتياز تلك الحفلة وهم يخطونَ أول خطوة للاستيلاء على البلاد ويضعون أول دعامة لاستعمارها ثم ... حلت بهم هذه الكارثة التي كان لها وقع الصاعقة على رؤوسهم، ففيما كانوا هم أصحاب الرأي والسيادة في البلاد، أصبحوا الآن خائفين وجلين على أنفسهم من غضب الناس، فحتى السلطان نفسه لا يستطيع إبطال هذه الفتوى فكتبوا إلى لندن بهذه الرسالة: (لقد وقعت داهية عظمى لا يدلنا التأريخ على مثلها في إيران، وهي أن شرب التنباك والأنفية التي كانت عادتهم استعمالها في الليل والنهار وأهم لوازمهم، بل كانوا يعدّونه من الواجبات في بيوتهم تركوه بتاتاً حين وصلت إليهم فتوى رئيسهم بالحرمة، ومن حين صدور الحكم من رجل واحد تركوا أعظم ما كانوا متعوِّدين عليه منذ سنين متطاولة من غير كره ولا إجبار، وعامة المسلمين خضعوا لفتوى رئيسهم، حتى دوائر الحكومة الإيرانية، وصار استعمال التنباك عندهم من أنكر المنكرات، ولم يزالوا يكسرون (الشطب) و(الغليان) ويرمون بخزفه وأخشابه إلى دائرة الامتياز)...

لقد هال الجميع هذه الحالة التي لم يسبق لها مثيل في التأريخ وتوالت مثل هذه الرسالة من السفراء على لندن ولم ير أصحاب الامتياز بُدَّاً من مقابلة السلطان..

في قصر السلطان

كان السلطان قد تنبه خلال هذه الأحداث العاصفة التي جرت في بلاده إلى خطئه الفادح بعقد المعاهدة، ولكنه لا يستطيع أن يعلن ذلك وأخذ ينظر إلى الفتوى وأثرها العظيم في الناس بعين الارتياح، فقد وجد فيها المنقذ لبلاده من نشوب ثورة عارمة واندلاع حرب أهلية بين مؤيدي أصحاب الامتياز ومعارضيهم، كان يشكر الله في باطنه على هذه الفتوى التي أنقذته وأنقذت بلاده وعمّت بنعمها على إيران كلها، وفكر كيف يقنع أصحاب الامتياز بأن هذه الفتوى هي من صميم الدين وهو لا يستطيع أن يخالفها أمام الشعب.

أقام السلطان اجتماعاً في دار خلافته دعا إليه كبار علماء إيران منهم الميرزا الأشتياني، والسيد علي أكبر التفريشي، والشيخ فضل الله النوري، والشيخ شريعة مداري (إمام الجمعة)، والسيد محمد رضا، والآخوند ملا محمد تقي القاشاني، كما دعا إليه من قبل دولته السيد عبد الله البهبهاني، ونائب السلطنة، وأمين السلطان، وأمين الدولة، ومشير الدولة، وقوام الدولة، ومخبر الدولة، وحضر أصحاب الامتياز لمناقشة المعاهدة فلما اجتمعوا في القصر أخرج الملك صورة المعاهدة التي أبرمها مع أصحاب الامتياز وقال مخاطبا العلماء:

(هذا ما قُرِّر بين الدولة وبين أصحاب الامتياز فانظروا فيه فما كان فيه مخالفاً لحكم الشرع المُطاع نأمر بتغييره، وأمَّا أصل المسألة فإبطاله محال)..!

رأي الشرع

لقد ضرب الملك هنا عصفورين بحجر واحد..، أراد أن يتنصّل عن إبرامه المعاهدة بالاحتكام إلى الشرع ليصحِّح له العلماء خطأه دون أن يلغيها مباشرة، لأن في إلغائها من قبل نفسه سيكلفه كثيراً أمام ((دولة قوية))، وبذلك يُرضي العلماء والشعب ويخرج من حرجه أمام أصحاب الامتياز..

أعطى الملك صورة المعاهدة إلى العلماء ليقرؤوها فلمّا قرأوها وجدوا فيها كلمة (مينويل) فسألوا عن معنى هذه الكلمة فقيل لهم: إن هذه الكلمة تعني باللغة الإنكليزية: الامتياز والانحصار والامتلاك، يعني أن التنباك لا يجوز بيعه ولا شراؤه إلا بإجازة أصحاب الامتياز وهذا حق يختص به فقط).

كانت هذه النقطة أول الغيث في إبطال المعاهدة لينهمر الحق فقال العلماء بأجمعهم: (هذا أول ما يجب تغييره أو إسقاطه لأنه خلاف ما قُرِّر في شريعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الأصول المقرَّرة الثابتة قاعدته: إن (الناس مُسلّطون على أموالهم)، فعلى هذا الأصل كل واحد من الناس مسلط على ماله يفعل فيه ما يشاء، فهو مختار على بيعه وادّخاره بأي نحو كان، وقاعدتكم هذه مخالفة لحكم الشرع المطاع، حيث إنكم أمرتم بأن الرعية لا تبيع إلا لشخص معين وبثمن معين في مكان معين وهو مجبور مسلوب الاختيار في جميع ذلك والشارع لا يرضى بذلك أبداً).

وُجِم أصحاب الامتياز وبهتوا ولم يعرفوا بِمَ يردُّون..! إن في إسقاط هذا الشرط وحده هو إسقاط لجميع شروط المعاهدة..! وساد الصمت برهة.. لم تبدو على وجوه أصحاب الامتياز ملامح اليأس والخذلان والهزيمة وحدهم فقط، بل بدت كذلك على وجوه بعض المتنفّذين من وزراء الدولة الإيرانية الذين كانوا من المستفيدين من هذه المعاهدة على حساب الشعب...

محاولة الوزير الفاشلة

من أولئك المتنفّذين وزير السلطان الذي امتعض لقول العلماء ولم يرضه حكمهم فقال للأشتياني كبير علماء طهران: (إن السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي مجتهد، وجنابك أيضاً مجتهد، فيمكنك أن تفتي بالإباحة كما أنه أفتى بالحرمة)!!

تغيّر وجه الأشتياني لهذا القول الخطير الذي يزرع التفرّقة بين المسلمين، ويبذر فيهم روح الشقاق، ويشتت كلمتهم، ويفرّق جمعهم، إضافة إلى الاستهانة بعلمائهم والدعوة إلى اختلاف كلمتهم، فلم يكن الأشتياني يتوقّع من أحد أن يقارن بالمجدِّد الشيرازي أي أحد في عصره، وقد دان له العلماء الأفذاذ واعترفوا بفضله وعلمه عليهم، فردَّ الصاع صاعين للوزير فقال له: (إن مولانا الميرزا الكبير الشيرازي سيد الشريعة، وإمام الشيعة، وملاذ الأمة، ونائب الأئمة، حكمه مطاع، وأمره لازم الاتباع، ونحن عبيده ومطيعوه في كل ما يقول، لأن الراد عليه على حدِّ الشرك).

كان هذا الجواب من الأشتياني بمثابة الصفعة التي وُجِّهت لوجه الوزير، فأفحِم وسكت، ووعدهم برفع الامتياز على مضض وفي نيته أن يجد طريقاً آخر يقنع العلماء على عدم رفعه، وكانت هناك محاولة أيضاً...

الاجتماع الثاني

بقي الوزير ومن معه يحاولون ثني العلماء عن قولهم فكانوا كمن يصطاد في الماء العكر .. بعد أسبوع من عقد ذلك الاجتماع عُقد اجتماع ثانٍ حضره كل من حضر الاجتماع الأول وحضره السلطان أيضاً فقال رجال الدولة المتحدثين باسم السلطان (لقد أبطلنا الامتياز عن داخل إيران، فآحاد الرعية مختار في بيع التنباك بأي وجه يريد، وبأي ثمن، وفي أي وقت يشاء، لا إجبار في البيع، غير أن الامتياز باق بحاله في خارج المملكة، والتنباك من إيران يحمل إلى المملكة العثمانية فقط، ومعلوم عندكم إن اختيار الخارج ليس بأيدينا، فنستدعي من العلماء أن يصعدوا المنابر ويعلنوا بالإباحة).

إن وراء هذا القول ألف مضمر ومضمر فهم لم يغيِّروا من المعادلة شيئاً يُذكر، وإن آحاد الناس مُجبر على بيعه بالسعر الذي تتفق عليه الرؤوس الكبيرة من السماسرة، إذن فالنتيجة واحدة إذا باع المزارع التنباك لزيد أو لعمرو مادام الامتياز باقٍ في الداخل أو في الخارج، وسيبقى أصحاب الامتياز هم من يتحكّم في السعر..، لم تنطوِ هذه اللعبة على العلماء وأفشلوا مخططهم الآخر فقالوا لهم: (ما أفتينا بتحريمه حتى نفتي بإباحته! ولا ربط لنا في المسألة، إنّما القول قول السيد الكبير الميرزا الشيرازي، منه الأمر، ومنا الإطاعة والانقياد، فراجعوه أنتم في المسألة حتى يتبين لكم الأمر).

أفحم الوزير ومن معه هذا الجواب وأحسوا بفشلهم وضعفهم، لكنه اضطروا إلى مراسلة المجدد الشيرازي كمحاولة أخيرة فكتبوا برقية إلى سامراء وكانوا يتأملون أن يأتيهم الرد بالإباحة فجاءهم الرد القاطع الصارم والحازم الذي لا يقبل التهاون والمهادنة (الرجاء قطع أيدي الأجانب من إيران)، ويعني بـ (قطع أيدي الأجانب) أي إيقاف تخويلهم بالتصرف بالتنباك، لقد وضح الأمر لكل ذي عينين وأي خطوة أخرى يقدم عليها الملك وحاشيته فستكون تبعتها خطيرة عليهم.

الإعلان

بعد أسبوع من وصول رسالة الشيرازي التي سدَّت الطريق تماماً على أصحاب الامتياز ومن معهم بالقيام بأية محاولة أخرى سوى محاولة الخروج من إيران والعودة إلى بلادهم بخُفّي حُنين، خرج الناس صباحاً إلى أعمالهم ليجدوا إعلاناً على حائط (شمس العمارة) ــ وهو قصر السلطان في طهران بناه على طراز البنايات في الدول الاوروبية ويقيم فيه ــ ومضمون هذا الإعلان يبث الرعب في قلوب أصحاب الامتياز فقد جاء في الإعلان ما نصه: (نحن مأمورون بالجهاد فمن كان مسلماً فيجب عليه الجهاد بفتوى الإمام الشيرازي مد ظله)..، لم يُعرف من كتب الإعلان ولا من علّقه على حائط القصر..؟ لكنه انتشر انتشار النار في الهشيم ووصل خبره إلى إيران كلها فباشر الناس بشراء الأسلحة وجدَّدوا الوصية وراحوا يودِّعون نساءهم وأطفالهم، وتعالت أصوات البكاء من النساء في البيوت، واستعد الرجال للثورة، فارتعب أصحاب الامتياز، وهرب بعض الأجانب المتعاونين معهم من إيران خفية، وبعضهم هرب متنكّراً بملابس النساء وقد ملئت قلوبهم رعباً وقالوا لبعضهم:

(لا مكان لنا هنا، إن المسلمين مستميتون، ونرى أن رئيسهم الديني لو أمرهم بإحراق أنفسهم بالنار لا يتخلفون عن أمره..! فالإقامة في إيران فيها خطر عظيم).

موقف أصحاب الامتياز

اضطرب أصحاب الامتياز من هذا الاعلان الذي يهدِّدُ حياتهم بالخطر فلجأوا إلى (شمس العمارة) للاستغاثة بالسلطان الذي أرسل في طلب الأشتياني للحضور وأطلعه على أمر الإعلان، فحلف الأشتياني أنه لا علم له بالأمر ووعد السلطان بتسكين الناس وتهدئتهم، فدعا أصحاب المنابر والمحاريب وأئمة الصلاة وأمرهم بتسكين الناس، وقال لهم: إن هذا الأمر ليس له أساس من الصحة فهدأت ثورة الناس وسكنت فورتهم.

ضاقت الدنيا بأصحاب الامتياز وراح رئيسهم (آرسن) يفكر كيف يوقف هذه الفتوى التي حلت عليه محل المصيبة العظيمة، ولما رأى صلابة العلماء الأعلام وموقفهم المشرِّف والصلب في العمل بالفتوى والتمسك بها، راح يسأل عن علماء البلاط ــ أي وعاظ السلاطين ــ ممن ارتبطت علاقتهم ومصلحتهم بالحكومة لعله يجد في أحدهم من يتعاون معه ويفتي بإباحة التنباك فوجد في واحد منهم بغيته فتسلل إليه ليلاً ورشاه بثلاثة آلاف تومان ورشا كاتبه بخمسمائة تومان مقابل الافتاء بإباحة الدخان، فقبل الرشوة وشرب أمامه الدخان وقال له: (أنا أفتيت بالحرمة لجهات اقتضت، والساعة أفتي بالإباحة) ففرح آرسن بهذا القول وظن أنه قد ربح المعركة برشوة هذا الفاسق المتهتك الخائن.

دخول السلطان في الاتفاق

كان المُرتشي يعلم إن قوله بالإباحة لا يتقبّله الناس وهو من عُرف بمحله من البلاط، وإن فتواه لا تشكّل أي أثر بوجود كبار العلماء الأعلام وعلى رأسهم الأشتياني الذي كانت له سلطة روحية على الناس، فقال لآرسن: (أنا أتعهد بإبقاء معاهدة الامتياز على حالها واستعمال الشعب الدخان، ولكن يجب عليك أن تواجه السلطان وتستدعي منه إخراج من هو معارض لنا من طهران)

ونفذ آرسن ما طلب منه المُرتشي ودخل على السلطان وقال له: (ما جئنا إلى إيران إلا بعد أن اعتمدنا عليك لتزيل عنا كل مشكلة تقع ونحن الآن نخسر خسائر فادحة وفيها مسؤولية عند السفراء فنستدعي من حضرتكم إما أن تتحمل خسائرنا لنرجع إلى بلادنا أو تأخذ لنا الإجازة من العلماء بإباحة التنباك).

كان هذا الكلام تمهيداً لعرض موضوع الرشوة وتهديداً مُبطّناً بأنه إذا لم يقبل بالشرط الثاني فإن التكاليف ستكون باهظة، لقد وضع آرسن السلطان بين فكّي كماشة، ولمّا كان السلطان عاجزاً عن تحمّل تلك التكاليف التي أنفقها الإنكليز في مشروعهم، ورآه متحيِّراً استغل الفرصة ليضرب ضربته فأخبره بالاتفاق بينه وبين المُرتشي فتحيَّر السلطان أكثر! وأخيراً جنح إلى الاحتمال الثاني (المستحيل) اضطراراً ووعده به.

الثورة العارمة

اضطر السلطان إلى العمل بما قاله آرسن فأرسل رسالة إلى الأشتياني يخيِّره بين أن يعلن إباحة استعمال الدخان أو السفر لمدة من طهران؟ فردّ عليه الأشتياني: أمّا نقض حكم الإمام الشيرازي فمحال، وأمّا السفر فأسافر في الغد إن شاء الله).

في ذلك الوقت الحرج كان احتياج الناس إلى عالم مثل الأشتياني كاحتياجهم إلى الماء والهواء يلوذون به عند الشدائد والمكاره، وما إن سمعوا بعزمه على السفر بأمر السلطان حتى ثارت ثائرة الشعب وسرعان ما انتشر الخبر بسرعة مذهلة فخرج الناس جميعاً من المحلات والشوارع وعلى كافة طبقاتهم والتفّوا حول دار الأشتياني وامتلأت الشوارع والأسواق بالناس وهم يندِّدون بأمر السلطان ويستنكرونه أشد الاستنكار.

ثورة النساء

ما إن حلّ منتصف النهار حتى اهتزت الأرض بأفواج النساء وقد خرجن جميعهن من بيوتهن صارخات باكيات وهن متوجهات إلى دار الإشتياني، وإذا مررن بدكان مفتوح أمرن بإغلاقه فتعطلت الأسواق تماماً وامتلأت الشوارع بالناس نساءً ورجالاً وهم يسبّون أصحاب الامتياز وكل من يعينهم ويقف إلى جانبهم وينصرهم ويسبّون الوزراء الكبار الذين أيّدوا أصحاب الامتياز وساندوهم، ودوّت أصوات الثائرين في الفضاء، فارتعدت لها فرائص رجال الدولة الذين سدُّوا أبواب (شمس العمارة) ونصبوا المدافع فوق سطوحها وأمروا الجيش بإطلاق النيران على المتظاهرين! ولكن الجيش عصى أوامر الضباط وكان بعض الجنود يبكي لبكاء النساء، وفيما وقف رجال الدولة وهم متحيّرون من عصيان أوامرهم إذ سمعوا بكاء النساء وصراخهن من خلفهم ــ أي من قصر السلطان نفسه ــ فسمعوا نساء السلطان وجواريه وهنّ يشتمن أصحاب الامتياز والوزراء الذين وقفوا معهم بأفظع الشتم وأشنعه، ولما رأى السلطان استفحال أمر المنتفضين أرسل نائب السلطنة ليسكت الناس ويهدئهم، ولكنه ما إن خرج إليهم حتى شتموه وضربوه حتى كادوا يقتلوه فأطلق بعض جنود حمايته النار لتفريقهم فأصاب شخصاً فقتله وكثر الضجيج والهتاف والصخب، ولم تهدأ الأوضاع حتى رأى الناس الأشتياني فتوقفوا إجلالا له.

هدوء العاصفة

حضر الأشتياني في الوقت المناسب ولولا حضوره في ذلك الوقت الحرج لحدث ما لا يُحمد عقباه، فشرارة الثورة التي إن اشتعلت فسوف تعصف بالبلاد كلها، ولكن حضوره في هذا الوقت الحرج قد أطفأها، فقال للناس: لقد طلب مني السلطان أن لا أخرج من طهران فامضوا إلى مساكنكم، فهدأت النفوس وقرّت فورة الغضب، وتفرّق الناس.

راود السلطان الشعور بالندم والحياء من الأشتياني على تصرّفه معه بهذه الطريقة فأرسل إليه بعد تفرّق الناس عضد الدولة ومعه جماعة من وجوه أركان الدولة وحاشيتها واعتذر منه اعتذاراً شديداً وقال له: لقد رفعنا الامتياز عن الخارجية فضلاً عن الداخلية وقطعنا أيدي الأجانب بالكلية من إيران فنرجو من فضلكم الآن أن تبرقوا إلى سامراء وتشرحوا للإمام الشيرازي حقيقة الأمر ليصدر فتواه بجواز استعمال الدخان).

الترخيص

استجاب الأشتياني لهذا الطلب فكتب رسالة إلى المجدد الشيرازي جاء فيها: (إن امتياز الدخانية رُفع بِيُمن بركاتكم ومساعيكم الجميلة من داخل إيران وخارجها وبطلت المعاملة الجائرة وعاد الأمر كما كان وقطعت أيدي الأجانب من إيران فالناس منتظرون أمركم في جواز استعمال الدخان).

وبنفس المضمون أرسل جميع العلماء في إيران إلى سامراء، وتوالت البرقيات، ولكن الإمام الشيرازي كان حريصاً على المسألة جداً وأراد التيقن منها، فهي قضية شعب ولا يمكن التهاون بها، كان يثق بالعلماء الذين راسلوه ولكنه لا يثق بالوسيلة التي تصل بها البرقيات، وهذه من صفات العالم الغيور على الدين والشريعة والمذهب والمسلمين، فجاء الجواب من الشيرازي إلى الأشتياني ما نصه: (إن برقيات العلماء وصلت إليّ وأنا أشكر مساعيكم وأصدّق أقوالكم غير أني لا أعتمد على طريق الوصول وهي البرقية فإن كتبتم إليّ تفصيل ما في البرقيات بقطع يد الأجنبي عن إيران بتاتاً وعودة أمر الدخانية إلى ما كان سابقاً فالترخيص يجيئكم إن شاء الله) فكتبوا إليه فجاءهم الجواب منه (قدس سره الشريف) بالترخيص والإباحة.. ولم ينتظر أصحاب الامتياز وصول الترخيص فقد انسلوا إلى بلادهم يجرون أذيال الخيبة والخذلان.

يوم الخلاص

كان يوماً مشهوداً لا ينسى.. لقد حُفر في ذاكرة التأريخ ذلك اليوم الذي جاء به الترخيص من الإمام الشيرازي، فعمّت الفرحة إيران كلها، وخرج الناس إلى الشوارع وكأنه يوم عيد وقد أفطروا بعد إمساك، وفرح السلطان فرحاً كبيراً لأنه تخلّص من ورطته التي أوقع نفسه بنفسه فيها فأنقذته فتوى الإمام الشيرازي، فقال معترفاً بفضل الشيرازي عليه: (إن الميرزا الشيرازي أحيا الدولة القاجارية وكان قدره مجهولاً عندنا واليوم عرفنا منزلة هذا الرجل الكبير أدام الله بقاءه).

صدى الفتوى

ما إن وصل كتاب الترخيص من الإمام الشيرازي حتى نسخ منه أكثر من ألف نسخة وأرسلت إلى جميع مدن إيران وفرح الناس بعودة الأمور إلى مجاريها كما كان في السابق، وزوال عقدة الامتياز البغيضة وانتشر خبر الفتوى في جميع بقاع العالم، ونُشر في جرائد الدول في سائر قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، فأرسل الأمريكان إلى سفيرهم في بغداد يسألون عن هذا الرجل العظيم الكبير المطاع الذي أفشل مخطط دولة عظيمة، كما فعل ذلك الروس عن طريق سفيرهم، وكان الوزراء والحكام يتوافدون على داره (قدس سره) وأرسل إليه السلطان ناصر الدين خسرو رسالة يعلن فيها عن ولائه الخالص وإخلاصه الصميم له وأُطلق عليه لقب المجدد.

اضف تعليق