لا يمكنك مقاومة فضولك عندما تشاهد مجموعة من الأفراد رافعين رؤوسهم إلى السماء، وكذلك في المسرح أو الاحتفالات التي تقام في القاعات الكبرى، تجد نفسك مصفقًا مع الجمع. بقي العراق واقفًا على الحياد مجنبًا البلد أضرارًا لا يحمد عقباها، رافضًا استخدام أراضيه كساحة لتصفية الحسابات...
لا يمكنك مقاومة فضولك عندما تشاهد مجموعة من الأفراد رافعين رؤوسهم إلى السماء، دون أي تفكير ترفع رأسك لترى ما يرون. وكذلك في المسرح أو الاحتفالات التي تقام في القاعات الكبرى، تجد نفسك مصفقًا مع الجمع دون معرفة الدوافع من هذا التصفيق.
هذا ما يسمى بالعقل الجمعي، الذي يجعل الفرد يتصرف كما تتصرف المجموعة، رغبة منه بعدم البقاء وكأنه شيء مختلف أو نشاز. ومع الانخراط الإقليمي في التصريحات والبيانات إزاء الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، بقي العراق واقفًا على الحياد مجنبًا البلد أضرارًا لا يحمد عقباها في حال الدخول بشكل أو بآخر.
وفي خضم تصاعد وتيرة الأحداث والتصعيد العسكري غير المسبوق أو المتوقع من قبل الطرفين، برز الموقف العراقي الحيادي كخيار عقلاني يعبر عن بعد استراتيجي للتعامل مع الأزمة الإقليمية. وهو بذلك الموقف أبطل جميع الادعاءات التي رجحت دخول العراق في الحرب نظرًا لاعتبارات عديدة.
منها أن العراق وإيران يتمتعان بعلاقات جيدة، وتوجد بينهما روابط دينية ومصالح مشتركة، اتضحت بشكل جلي خلال الحرب على داعش، وغيرها من المواقف التي تبين أن العراق لا يزال يحتفظ بمواقف إيجابية إزاء الحكومة والشعب الإيراني.
فبينما كانت أجواء المنطقة مشحونة بالتحليلات والتوقعات والتجاذبات، اختار العراق أن يُعبر عن رفضه استخدام أراضيه أو أجوائه كساحة لتصفية الحسابات، وأكد التزامه بالسيادة الوطنية، وضرورة احترامها من قبل جميع الأطراف. وهذا الموقف لم يكن مجرد تصريح عابر، بل هو امتداد لرؤية أكثر نضجًا بدأت تتبلور في السياسة الخارجية العراقية بعد سنوات من التجاذب والمحاور، وهي رؤية تقوم على الابتعاد عن سياسة المحاور والانحيازات الحادة، واعتماد مبدأ المصالح الوطنية العليا كأولوية أولى.
هذا ما يصرح به قادة البلاد في المناسبات الإقليمية والدولية، وتجسد على أرض الواقع في الأحداث الأخيرة. لكن هنالك ثمة من يفسر هذا على أنه موقف سلبي أو متخاذل، لكن التجارب أثبتت أن الحياد المدروس هو شكل من أشكال القوة السياسية والعقلانية السيادية، خصوصًا في ظل وضع إقليمي مضطرب، وحدود متشابكة، ومجتمع متعدد المكونات لا يحتمل الدخول في مغامرات عسكرية أو اصطفافات قد تهدد أمنه ووحدته.
وفي حقيقة الأمر، أن العراق لا يزال يضمد جراح سنوات طويلة من الحروب والصراعات الداخلية والإقليمية، ولا يمكنه أن يتحمل أعباء مواجهة جديدة تُفرض عليه من الخارج. وبالتالي، فإن موقف الحياد لم يكن خيارًا سهلًا، بل هو موقف مسؤول يعكس حرص الدولة على عدم زج شعبها في أتون صراعات الآخرين.
إن ما يدفع العراق نحو الحياد ليس فقط تجنب الحرب، بل حماية نظامه السياسي الناشئ، واستقراره الاجتماعي، وموقعه الذي بدأ يستعيده في محيطه العربي والدولي. فالعراق بحاجة اليوم إلى التركيز على ملفات داخلية جوهرية، منها إعادة الإعمار، ومعالجة البطالة، وتحسين الخدمات، ومحاربة الفساد، وليس الانشغال بخوض حروب بالوكالة.
كما أن الحياد لا يمنع العراق من أن يكون جزءًا فاعلًا في جهود التهدئة الإقليمية، وهذا ما ظهر للعيان خلال السنوات الماضية من خلال استعداده للعب دور الوسيط بين أطراف النزاع في المنطقة، خاصة من خلال محادثات بغداد التي جمعت مسؤولين إيرانيين وسعوديين، وهي تجربة تثبت أن العراق يمكن أن يكون جسرًا للحوار لا ساحة للمواجهة.
إن موقف العراق من الحرب الإسرائيلية-الإيرانية الأخيرة هو تجسيد لرؤية جديدة تضع مصلحة الشعب العراقي فوق كل اعتبار، وهو موقف يُفترض أن يتحول إلى نهج دائم في السياسة الخارجية العراقية، خاصة في ظل احتدام الصراعات الإقليمية والدولية.
اضف تعليق