تستخدم للتضليل على الرأي العام والتأثير السلبي بالخصوم والمناوئين، عبر إنتاج مقاطع تظهر قيامهم بأعمال أو التصريح بأقوال غير حقيقية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي ان يحلل آلاف الصور والمقاطع الصوتية لينتج صور وكأنها حقيقية إلى حد كبير وطبقة صوتية مماثلة للصوت الحقيقي للضحية، بمعنى إعادة إنتاج حركاته أو...

لا شك ان الذكاء الاصطناعي أضحى اليوم واقعاً وجزءً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ومع تعاظم استخداماته في مختلف المجالات يغدوا حتمياً احتمال استخدامه في التعامل السياسي والسلوك الانتخابي والتنافس الحزبي، والواقع ان الذكاء الاصطناعي يبرز اليوم كتحد كبير جدا لنزاهة الانتخابات حيث تعد الانتخابات والاستفتاءات والفعاليات الشعبية الجماعية الوجه الأبرز للديمقراطية والتجلي الحقيقي لسيادة الإرادة الشعبية.

 وبما أن ديمقراطية نظام الحكم في الدولة تتطلب العديد من المعايير للحكم على أنها حقيقية أم مزيفة وشكلية وفي مقدمة هذه المعايير ضمان حرية الرأي والتعبير وصيانة حرية الضمير، ليمضي الفرد في الإسهام في الشأن العام بلا تردد أو تخوف من أي عوائق تحول بينه وبين التأثير الإيجابي في المصالح العامة للمجتمع والدولة التي ينتمي إليها ويعيش فيها.

 ومن الملاحظ اليوم ان تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي يمكن ان نسميها بثورة الذكاء تؤثر على ما تقدم بلا أدنى شك فمن الممكن وببساطة إنتاج محتوى مضلل يؤثر في الرأي العام ويقود إلى تزييف الانتخابات وبالنتيجة تصاب الديمقراطية بمقتل، فمن الصور المعدلة إلى مقاطع ومشاهد فيديوية مفبركة إلى إنتاج خطاب أو صياغة برنامج انتخابي وصولاً إلى مخاطبة الناخبين.

 كل ما تقدم احتمالات راجح أنها ستغير وجه وخارطة العملية الديمقراطية في العراق والعالم، بعبارة أخرى سيستثمر كل المرشحين للانتخابات هذه التكنولوجيا لغرض التأثير في إرادة الناخب فقد اختصر الذكاء المسافة بين الواقع والخيال، والأسوأ بالتأكيد ان هذه التقنيات ليست مقتصرة على أطراف العملية الديمقراطية بل يمكن ان تستغلها جهات أجنبية أو مغرضة للتأثير في العملية الديمقراطية ورسم مستقبل البلاد وتحديد الخيارات الشعبية والرسمية.

ومن هنا حق لنا التساؤل في العراق ونحن مقبلون على عرس ديمقراطي انتخابي في شهر تشرين الثاني المقبل هل تملك المفوضية العليا للانتخابات الرؤية والقدرة والإرادة لمواجهة هذا التحدي؟ على المستوى الشعبي هل يدرك الناخب العراقي مقدار التأثير السلبي للاستعمالات غير المشروعة لهذه التقنيات على إرادته وبالمحصلة على حقوقه وحرياته؟ وهل تملك الأحزاب المتنافسة في العراق الإرادة والنزاهة الكافية لضمان التنافس الحر بين الجميع؟

 والسؤال الأهم هل الحكومة العراقية والهيئات المستقلة تملك من الأدوات ما يمكنها من الحد من تلك الآثار السلبية؟ وهل في القوانين العراقية أصلاً ما يمكن ان يتم البناء عليه لمواجهة هذا التحدي غير المسبوق؟ وهل يملك الإعلام العراقي المؤهلات اللازمة لمواجهة هذا التهديد الاستراتيجي للمصلحة الوطنية العليا للبلاد؟ هل ان منظمات المجتمع المدني لاسيما المنظمات غير الحكومية والنقابات المهنية والاتحادات والتجمعات الأهلية وحتى غير الرسمية منها قادرة على ان ترتقي إلى مستوى التهديد؟

والسؤال العملي هل الناخب العراقي مهيأ للتمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة؟ وهل هو مستعد للتصدي لانحراف الأحزاب أو المرشحين عن جادة الصواب لغايات سياسية؟ أم انه ينساق خلف بعض الأجندات التي تستهدف العملية الديمقراطية في البلد ولربما تسعى إلى أهداف أبعد وأشد خطراً تستهدف التعايش السلمي والأمن الاجتماعي في العراق.

 كما يمكننا القول ان الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات يمكن ان يستعمل بالوقت عينه لتعزيز شفافية وعدالة الانتخابات، بمعنى كما يمكن ان يوظف في الجوانب السلبية فان توظيفه بالجانب الإيجابية ممكن بل واجب على الجميع لاسيما المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ودائرة الأحزاب والتنظيمات السياسية فيها، حيث تنص المادة (18) من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم (31) لسنة 2019 على ان مجلس المفوضين ((يتمتع بسلطة البت في الشكاوى المقدمة إليه ويحيل القضايا الجزائية إلى السلطات المختصة، ان وجد دليلاً على سوء تصرف يتعلق بنزاهة العملية الانتخابية))، وأشارت المادة (21) من القانون إلى ان المفوضية لها ((الاستعانة بخبراء من مكتب المساعدة الانتخابي التابع للأمم المتحدة في مراحل الإعداد والتحضير وإجراء الانتخابات والاستفتاءات)).

 ويتبين لنا من النصوص المتقدمة ان المفوضية تملك الوسائل القانونية التي تمكنها من التصدي لمخاطر الذكاء الاصطناعي بجهودها الذاتية وبالاستعانة بفريق من الخبراء، بل يمكنها هي ان تستثمر تقنيات الذكاء لتعزيز المشاركة الجماهيرية التي من شأنها ان تعزز الثقة في الانتخابات وتفضي إلى نتائج أكثر مقبولية في الداخل العراقي والمجتمع الدولي.

 ولكل ما تقدم نحدد بعض ملامح الاستخدامات الإيجابية للذكاء الاصطناعي في مجال الانتخابات العراقية المقبلة التي يمكن العمل عليها من الآن:

1- تعزيز الحملة الدعائية لتحديث سجل الناخبين.

2- تعزيز الثقة الجماهيرية بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وبإجراءاتها.

3- تعزيز الثقة بالأحزاب والمرشحين المشاركين في الانتخابات.

4- كشف حالات التحيز وعدم الحياد الوظيفي الذي يوظف لغايات حزبية ضيقة.

5- متابعة الحملات المناوئة للعملية الانتخابية والحد من مخاطرها والتعريف بها وبأهم وسائلها.

6- تحليل البيانات والاتجاهات الشعبية ومحاولة تصحيحها أو ترشيدها بما يتسق مع المصلحة العامة ومقتضيات الحياد والموضوعية في التعامل مع الجميع.

7- تحليل ردة الفعل الاجتماعية والفردية على الخطاب السياسي والاجتماعي للمرشحين والقوائم ومحاولة تصحيح الأخطاء أو الهفوات أو نقاط الضعف التي تشوبها بل يمكن الاستفادة من تقنيات الذكاء لتحليل ردة الفعل على المناظرات الانتخابية وبالتالي التركيز على النقاط الإيجابية وتجنب النقاط السلبية التي تمثل تحدي يؤثر على نسب المشاركة الجماهيرية.

على الجانب الأخر يمكن تشخيص بعض الاحتمالات للاستعمال غير المشروع للتقنيات الاصطناعية في التنافس الانتخابي القادم والذي يراد له ان يكون شفافاً ونزيهاً وهي:

1- الدعاية السياسية المضللة للأحزاب أو الشخصيات المرشحة والتي تنطوي على معلومات غير دقيقة ومحتوى مزيف قائم على عمادين الأول تسقيط الخصوم ومحاولة الإساءة إليهم بشكل غير مشروع، والثاني محاولة الالتفاف والوصول إلى الناخبين والتأثير فيهم وفي خياراتهم الانتخابية من خلال محتوى صوري وفيديوي معد بشكل احترافي وبدقة مذهلة.

2- محاولة تغيير الحقائق بتقديم برامج انتخابية مثالية معدة بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي تحاكي الرغبات الفردية للناخبين واستثمارها في الترويج لوعود انتخابية غير واقعية قائمة بالدرجة الأساس على التدليس الانتخابي.

3- خلق حسابات وهمية مماثلة لتلك التابعة للمرشحين والقوائم المتنافسة من شأنها بث الأكاذيب والإساءة للحملات الانتخابية ما يعكس تنافساً يخلوا من المهنية والروح التنافسية، وهذه الحملات الرقمية من شأنها التأثير سلباً على نسبة المشاركة وبالمحصلة يتجه الناخبون المأدلجون إلى صناديق الانتخابات ويتخلف الوطنيون منهم نتيجة حالة اليأس والإحباط التي تنتابهم نتيجة لتلك الممارسات غير الموضوعية.

4- يجد العديد من السياسيين ضالتهم في الذكاء الاصطناعي للترويج لطروحاتهم التي تجانب الصواب في الكثير من الأحيان حيث يشير المختصون إلى ان الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية استعمل في حملته الانتخابية العام الفائت كثيرا هذه التقنيات لإنتاج حالة صورية تتضمن مشاهد حقيقية وأخرى مزيفة تدعم ادعاء وقوع تزوير في الانتخابات بقصد الاطاحة به ما شكل حالة من التعبئة الشعبية المناوئة لمنافسيه، وبعد ان تم تحليل تلك المقاطع من المختصين ثبت انها انتجت بوسائل وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فالتنافس غير المشروع قد يستفيد من:

أ‌- تقنيات توليد الصور: حيث تمكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتطورة المتنافسين في الانتخابات من إنتاج صور واقعية لأحداث وقعت في الحقيقة بشكل مختلف أو لم تقع أصلاً، فيمكن للمرشح ان يضع صور لتجمعات انتخابية ضخمة جداً مؤيدة لحملته الانتخابية والحقيقة ان هذه الصور معدلة بشكل معين، أو إظهاره في أماكن لم يقم بزيارتها أصلاً وهو ما وقع في الانتخابات العراقية الفائتة إذ لاحظ الكثير من المهتمين ان بعض المرشحين يبث صور له من جبهات القتال ضد التنظيمات الإرهابية التي هاجمت بعض مدن ومحافظات العراق سابقاً والحقيقة أنها صور معدلة وغير حقيقية، واليوم يقدم الذكاء الاصطناعي لهم تقنية (GANs) لإنتاج صور شديدة الواقعية.

ب‌- التزييف العميق (deepfake) حيث تعد هذه التقنيات من أخطر وأدق التقنيات التي تم توظيفها سياسياً، يمكن بها صنع مقاطع فيديوية للمرشح وهو يقوم بأعمال غير حقيقية بعبارة أخرى تستخدم للتضليل على الرأي العام والتأثير السلبي بالخصوم والمناوئين، عبر إنتاج مقاطع تظهر قيامهم بأعمال أو التصريح بأقوال غير حقيقية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي ان يحلل آلاف الصور والمقاطع الصوتية لينتج صور وكأنها حقيقية إلى حد كبير وطبقة صوتية مماثلة للصوت الحقيقي للضحية، بمعنى إعادة إنتاج حركاته أو أقواله بشكل سلبي يسيء إلى سمعته واعتباره.

ت‌- تقنيات تحليل وتوقع توجهات الرأي العام وسلوك الناخبين والتأثير فيها: حيث يمكن توظيف هذه التقنيات لمعرفة أهم القضايا التي تثير الناخبين أو تؤثر في خياراتهم بحسب ميولهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتسهم في تمكين المرشح من إنتاج خطاب يحاكي ما تقدم بشكل احترافي ولكنه قائم على الكذب والتضليل.

ث‌- الجيوش الإلكترونية: أو روبوتات المحادثة المتطورة (chatbots) وهي رائجة في العراق بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي ويمكن للمرشحين المغرضين الاستفادة منها لغرض التأثير العميق في الناخبين عبر التفاعل اللحظي مع طروحاتهم ومشكلاتهم واستثمار تلك الدردشات لبث معلومات تؤثر بالمتلقي ويصعب على الناس البسطاء اكتشافها، كما يمكن الذكاء الاصطناعي تحليل بيانات الفئات المخاطبة من الناخبين وصنع خطاب مخصص للبعض منهم بل يمكن صنع خطاب لكل واحد منهم بما يتفق مع البيانات الشخصية التي تميزه في مواقع التواصل الاجتماعي وبالتالي سيتم التركيز على الميول والجوانب العاطفية أو الشخصية.

 ومن الثابت ان ما تقدم من شأنه التأثير سلباً على المجتمع العراقي وتعميق الانقسام السياسي، ويقوض الثقة بالهيئات النظامية في العراق، ويشوه الحقائق الثابتة وبالمحصلة هو يثير المسؤولية الأخلاقية للأحزاب والمرشحين قبل القانونية، فنحن في النهاية مجتمع قائم على التراث الإنساني العراقي الأصيل المتمثل في تعظيم صفات الإنسان الحميدة كالصدق والشجاعة والمروءة وهي ما أكدها ديننا الإسلامي الحنيف يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights


اضف تعليق